الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِذۡ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَ وَتَقَطَّعَتۡ بِهِمُ ٱلۡأَسۡبَابُ} (166)

قوله تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ } : في " إذْ " ثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها بدلٌ من " إذ يَرَوْن " . الثاني : أنها منصوبةٌ بقولِه " شديدُ العذاب " الثالث : - وهو أضعفها - أنها معمولةٌ لا ذكر مقدراً . و " تَبَرَّأ " في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليه . والتبرُّؤُ : الخلوصُ والانفصال ، ومنه : بَرِئْتُ من الدَّيْن ، وقد تَقدَّم تحقيقُ ذلك عند قولِه : { إِلَى بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] . والجمهورُ على تقديم " اتُّبِعوا " مبنياً للمفعول على " اتَّبعوا " مبنياً للفاعل . وقرأ مجاهد بالعكس ، وهما واضحتان ، إلاَّ أنَّ قراءة الجمهورِ واردةٌ في القرآنِ أكثرَ .

قوله : { وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ } في هذه الجملة وجهانِ : أظهرهُما : أنها عطفٌ على ما قبلها ، فتكونُ داخلةً في حَيِّز الظرف ، تقديرُه : " إذ تبرّأ الذين اتُّبِعوا ، وإذْ رَأَوا " . والثاني : أن الواو للحالِ والجملةُ بعدها حاليةٌ ، و " قد " معها مضمرةٌ ، والعاملُ في هذه الحالِ : " تَبَرَّأ " أي : تبرَّؤوا في حالِ رؤيتهم العذابَ .

قوله : { وَتَقَطَّعَتْ } يجوزُ أن تكونَ الواوُ للعطفِ وأَنْ تكونَ للحالِ ، وإذا كانت للعطفِ فهل عَطَفَتْ " تَقَطَّعَتْ " على " تَبَرَّأ " ، ويكون قوله : " ورأوا " حالاً ، وهذا اختيار الزمخشري ، أو عَطَفَتْ على " رأوا " ؟ وإذا كانت للحال فهل هي حالٌ ثانية للذين ، أو حالٌ للضميرِ في " رَأوا " ؟ وتكونُ حالاً متداخلةً إذا جَعَلْنا " ورأوا " حالاً .

والباءُ في " بهم " فيها أربعةُ أوجهٍ ، أحدُهُما : أنَّها للحالِ أي : تَقَطَّعَتْ موصولةً بهم الأسبابُ نحو : " خَرَج بثيابه " . الثاني : أن تكونَ للتعديةِ ، أي : قَطَّعَتْهُم الأسبابُ كما تقولُ : تَفَرَّقَتْ بهم الطرقُ " أي : فَرَّقَتْهم . الثالث : أن تكون للسببية ، أي : تَقَطَّعتْ بسببِ كفرِهم الأسبابُ التي كانوا يَرْجُون بها النجاة . الرابع : أن تكونَ بمعنى " عن " ، أي : تَقَطَّعت عنهم .

والأسبابُ : الوَصْلاتُ بينهم ، وهي مجازٌ ، فإن السبب في الأصل الحَبْلُ ثم أُطلقَ على كلِّ ما يُتَوصَّل به إلى شيء : عيناً كان أو معنىً ، وقد تُطْلَقُ الأسبابُ على الحوادِثِ ، قال زهير :

ومَنْ هابَ أسبابُ المنايا يَنَلْنَه *** ولو نالَ أسبابَ السماءِ بسُلَّمِ

وقد وُجِد هنا نوعٌ من أنواعِ : البديع هو الترصيعُ/ ، وهو عبارةُ عن تَسْجِيع الكلامِ ، وهو هنا في موضعَيْن ، أحدُهما { اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ } ولذلك حَذَفَ عائدَ الموصولِ الأولِ فلم يَقُلْ : من الذين اتَّبعوهم لفوات ذلك والثاني : { وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَاب } وهو كثيرٌ في القرآنِ { إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } [ البقرة : 73 ] .