24- لم يكن جواب قوم إبراهيم له - حين أمرهم بعبادة الله وترك ما هم عليه من عبادة الأوثان - إلا الإمعان في الكفر ، وقوْل بعضهم لبعض : اقتلوه أو حَرِّقوه ، فألقوه في النار ، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه ، وأنجاه منها ، إن في إحباط كيدهم وإنجائه منها ، وعدم تأثيرها فيه لدلائل واضحة لقوم يصدقون بتوحيد الله وقدرته .
{ 24-25 } { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
أي : فما كان مجاوبة قوم إبراهيم إبراهيم حين دعاهم إلى ربه قبول دعوته ، والاهتداء بنصحه ، ورؤية نعمة اللّه عليهم بإرساله إليهم ، وإنما كان مجاوبتهم له شر مجاوبة .
{ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ } أشنع القتلات ، وهم أناس مقتدرون ، لهم السلطان ، فألقوه في النار { فَأَنْجَاهُ اللَّهُ } منها .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فيعلمون صحة ما جاءت به الرسل ، وبِرَّهُمْ ونصحهم ، وبطلان قول من خالفهم وناقضهم ، وأن المعارضين للرسل كأنهم تواصوا وحث بعضهم بعضا على التكذيب .
يقول تعالى مخبرا عن قوم إبراهيم في كفرهم وعنادهم ومكابرتهم ، ودفعهم الحق بالباطل : أنه ما كان لهم جواب بعد مقالة إبراهيم هذه المشتملة على الهدى والبيان ، { إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ } ، وذلك لأنهم قام عليهم البرهان ، وتوجهت عليهم الحجة ، فعدلوا إلى استعمال جاههم وقوة ملكهم ، { قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ . فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ } [ الصافات : 97 ، 98 ] ، وذلك أنهم حَشَدوا في جمع أحطاب عظيمة مدة طويلة ، وحَوّطوا حولها ، ثم أضرموا فيها النار ، فارتفع لها لهب إلى عَنَان السماء : ولم توقد{[22528]} نار قط أعظم منها ، ثم عمدوا إلى إبراهيم فكتفوه وألقوه في كفَّة المنجنيق ، ثم قذفوا به فيها ، فجعلها الله عليه بردا وسلاما ، وخرج منها سالما بعد ما مكث فيها أياما . ولهذا وأمثاله جعله الله للناس إماما . فإنه بذل نفسه للرحمن ، وجسده للنيران ، وسخا بولده للقربان ، وجعل ماله للضيفان ، ولهذا اجتمع على محبته جميع أهل الأديان .
وقوله : { فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ } أي : سَلَّمه [ الله ]{[22529]} منها ، بأن جعلها عليه بردا وسلاما ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللّهُ مِنَ النّارِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فلم يكن جواب قوم إبراهيم له إذ قال لهم : اعبدوا الله واتقوه ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ، إلاّ أن قال بعضهم لبعض : اقتلوه أو حرّقوه بالنار ، ففعلوا ، فأرادوا إحراقه بالنار ، فأضرموا له النار ، فألقَوه فيها ، فأنجاه الله منها ، ولم يسلطها عليه ، بل جعلها عليه بَرْدا وسلاما . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : فَمَا كانَ جَوَابَ قوم إبراهيم إلاّ أنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أوْ حَرّقُوهُ ، فَأنجاهُ اللّهُ مِنَ النّارِ قال : قال كعب : ما حرقت منه إلاّ وثاقه إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يقول تعالى ذكره : إن في إنجائنا لإبراهيم من النار ، وقد ألقي فيها وهي تَسعَر ، وتصييرها عليه بردا وسلاما ، لأدلة وحججا لقوم يصدّقون بالأدلة والحجج إذا عاينوا ورأوا .
قرأ الجمهور «جوابَ » بالنصب ، وقرأ الحسن «جوابُ » بالرفع ، وكذلك قرأ سالم الأفطس{[9236]} ، وأخبر الله تعالى عنهم أنهم لما بين إبراهيم الحجج وأوضح أمر الدين رجعوا معه إلى الغلبة والقهر والغشم وعدوا عن طريق الاحتجاج حين لم يكن لهم قبل به فتآمروا في قتله أو تحريقه بالنار ، وأنفذوا أمر تحريقه حسبما قد اقتص في غير هذا الموضع ، «وأنجاه الله » تعالى من نارهم بأن جعلها عليه برداً وسلاماً ، قال كعب الأحبار : ولم تحرق النار إلا الحبل الذي أوثقوه به ، وجعل ذلك آية وعبرة ودليلاً وحدانيته لمن شرح صدره ويسره للإيمان أي هذا الصنف ينتفع بالآية والكفار هي عليهم عمى وإن كانت في نفسها آية للكل ، ثم ذكر تعالى أن إبراهيم عليه السلام قررهم على أن اتخاذهم الأوثان والأنصاب إنما كان اتباعاً من بعضهم لبعض وحفظاً لموداتهم ومحباتهم الدنياوية ، وأنهم يوم القيامة يجحد بعضهم بعضاً ويتلاعنون لأن توادهم كان على غير تقوى ، والأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين{[9237]} ، وقرأ عاصم في رواية الأعمش عن أبي بكر عنه «مودةٌ » بالرفع «بينَكم » بالنصب وهي قراءة الحسن وأبي حيوة .
وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي في رواية المفضل «مودةُ » بترك التنوين والرفع «بينِكم » بالخفض ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو في رواية أبي زيد «مودةً بينَكم » بالتنوين والنصب ونصب «بين »{[9238]} ، وقرأ حمزة «مودةَ » بالنصب وترك التنوين والإضافة إلى «بين » ، فأما قراءتا الرفع في «مودة » فوجههما أن يكون «ما » بمعنى الذي .