{ عسى ربه إن طلقكن } أي : واجب من الله إن طلقكن رسوله ، { أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات } خاضعات لله بالطاعات ، { مؤمنات } مصدقات بتوحيد الله ، { قانتات } طائعات ، وقيل : داعيات . وقيل : مصليات ، { تائبات عابدات سائحات } صائمات ، وقال زيد بن أسلم : مهاجرات وقيل : يسحن معه حيث ما ساح ، { ثيبات وأبكاراً } وهذا في الإخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه قال : { إن طلقكن } وقد علم أنه لا يطلقهن وهذا كقوله : { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم }( محمد- 38 ) وهذا في الإخبار عن القدرة لأنه ليس في الوجود أمة خير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم خوفهما أيضا ، بحالة تشق على النساء غاية المشقة ، وهو الطلاق ، الذي هو أكبر شيء عليهن ، فقال :
{ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } أي : فلا ترفعن عليه ، فإنه لو طلقكن ، لم يضق{[1161]} عليه الأمر ، ولم يكن مضطرًا إليكن ، فإنه سيلقى{[1162]} ويبدله الله أزواجًا خيرًا منكن ، دينا وجمالًا ، وهذا من باب التعليق الذي لم يوجد ، ولا يلزم وجوده ، فإنه ما طلقهن ، ولو طلقهن ، لكان ما ذكره الله من هذه الأزواج الفاضلات ، الجامعات بين الإسلام ، وهو القيام بالشرائع الظاهرة ، والإيمان ، وهو : القيام بالشرائع الباطنة ، من العقائد وأعمال القلوب .
القنوت هو دوام الطاعة واستمرارها { تَائِبَاتٍ } عما يكرهه الله ، فوصفهن بالقيام بما يحبه الله ، والتوبة عما يكرهه الله ، { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } أي : بعضهن ثيب ، وبعضهن أبكار ، ليتنوع صلى الله عليه وسلم ، فيما يحب ، فلما سمعن -رضي الله عنهن- هذا التخويف والتأديب ، بادرن إلى رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا الوصف منطبقًا عليهن ، فصرن أفضل نساء المؤمنين ، وفي هذا دليل على أن الله لا يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أكمل الأحوال وأعلى الأمور ، فلما اختار الله لرسوله بقاء نسائه المذكورات معه دل على أنهن خير النساء وأكملهن .
ومعنى قوله : { مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ } ظاهر .
وقوله { سَائِحَاتٍ } أي : صائمات ، قاله أبو هريرة ، وعائشة ، وابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، ومحمد بن كعب القرظي ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو مالك ، وإبراهيم النخعي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، والسُدّيّ ، وغيرهم . وتقدم فيه حديث مرفوع عند قوله : { السَّائِحُونَ } من سورة " براءة " ، ولفظه : " سياحةُ هذه الأمة الصيامُ " .
وقال زيد بن أسلم ، وابنه عبد الرحمن : { سَائِحَاتٍ } أي : مهاجرات ، وتلا عبد الرحمن : { السَّائِحُونَ } [ التوبة : 112 ] أي : المهاجرون . والقول الأول أولى ، والله أعلم .
وقوله : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } أي : منهن ثيبات ، ومنهن أبكارا ، ليكون ذلك أشهى إلى النفوس ، فإن التنوع يبسُط النفسَ ؛ ولهذا قال : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }
وقال أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا أبو بكر بن صدقة ، حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق ، حدثنا عبد الله بن أمية ، حدثنا عبد القدوس ، عن صالح بن حَيَّان ، عن ابن بُرَيدة ، عن أبيه : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } قال : وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يزوجه ، فالثيب : آسية امرأة فرعون ، وبالأبكار : مريم بنت عمران{[29061]} .
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة " مريم عليها السلام " من طريق سُوَيْد بن سعيد {[29062]} حدثنا محمد بن صالح بن عمر ، عن الضحاك ومجاهد ، عن ابن عمر قال : جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت خديجة فقال : إن الله يقرئها السلام ، ويبشرها ببيت في الجنة من قَصَب ، بعيد من اللهب{[29063]} لا نَصَب فيه ولا صَخَب ، من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم{[29064]} .
ومن حديث أبي بكر الهذلي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة ، وهي في الموت فقال : " يا خديجة ، إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن مني السلام " . فقالت : يا رسول الله ، وهل تزوجت قبلي ؟ قال : " لا " ، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وكلثم أخت موسى " . ضعيف أيضًا{[29065]} .
وقال أبو يعلى : حدثنا إبراهيم بن عرعرة ، حدثنا عبد النور بن عبد الله ، حدثنا يونس{[29066]} بن شعيب ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُعْلِمتُ أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران ، وكلثم أخت موسى ، وآسية امرأة فرعون " . فقلت : هنيئًا لك يا رسول الله{[29067]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { عَسَىَ رَبّهُ إِن طَلّقَكُنّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مّنكُنّ مُسْلِمَاتٍ مّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } .
يقول تعالى ذكره : عسى ربّ محمد إن طلقكنّ يا معشر أزواج محمد صلى الله عليه وسلم أن يبدله منكنّ أزواجا خيرا منكن .
وقيل : إن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرا من الله نساءه لما اجتمعن عليه في الغيرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهنّ : عسى ربه إن طلقهن أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ ، قال : فنزل كذلك .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن حميد ، عن أنس ، عن عمر ، قال : يلغني عن بعض أمهاتنا ، أمهات المؤمنين شدّة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاهنّ إياه ، فاستقريتهنّ امرأة امرأة ، أعظها وأنهاها عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقول : إن أبيتنّ أبدله الله خيرا منكن ، حتى أتيت ، حسبت أنه قال على زينب ، فقالت : يا بن الخطاب ، أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ أنت ؟ فأمسكت ، فأنزل الله عَسَى رَبّهُ إنْ طَلّقَكُنّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْوَاجا خَيْرا مِنْكُنّ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس ، قال : قال عمر بن الخطاب : يلغني عن أمهات المؤمنين شيء ، فاستقريتهنّ أقول : لتكففن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكنّ ، حتى أتيت على إحدى أمهات المؤمنين ، فقالت : يا عمر أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ أنت ؟ فكففت ، فأنزل الله عَسَى رَبّهُ إنْ طَلّقَكُنّ أنْ يُبْدلَهُ أزْوَجا خَيْرا مِنْكُنّ مُسْلِماتٍ مُوءْمِناتٍ . . . الاَية .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : أنْ يُبْدِلَهُ فقرأ ذلك بعض قرّاء مكة والمدينة والبصرة بتشديد الدال : «يبدّله أزواجا » من التبديل وقرأه عامة قرّاء الكوفة : يُبْدِ له بتخفيف الدال من الإبدال .
والصواب من القول أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : مُسْلِماتٍ يقول : خاضعات لله بالطاعة مُوءْمِناتٍ يعني مصدّقات بالله ورسوله .
وقوله قَانِتات يقول : مطيعات لله ، كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله قانتاتٍ قال : مطيعات .
حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله قانِتاتٍ قال مطيعات .
وقوله : تائِباتٍ يقول : راجعات إلى ما يحبه الله منهنّ من طاعته عما يكرهه منهنّ عابِدَاتٍ يقول : متذللات لله بطاعته . وقوله سائحاتٍ يقول : صائمات .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : سائحات فقال بعضهم : معنى ذلك : صائمات . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله سائحات قال : صائمات .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله سَائحاتٍ قال : صائمات .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال السّائحات : الصائمات .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : سائحاتٍ يعني : صائمات .
وقال آخرون : السائحات : المهاجرات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا إسحق بن إسرائيل ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراورديّ ، عن زيد بن أسلم ، قال : السائحات : المهاجرات .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله سائحات قال : مهاجرات ليس في القرآن ، ولا في أمة محمد سياحة إلا الهجرة ، وهي التي قال الله السّائحُونَ .
وقد بيّنا الصواب من القول في معنى السائحين فيما مضى قبل بشواهده مع ذكرنا أقوال المختلفين فيه ، وكرهنا إعادته .
وكان بعض أهل العربية يقول : نرى أن الصائم إنما سمي سائحا ، لأن السائح لا زاد معه ، وإنما يأكل حيث يجد الطعام ، فكأنه أُخذ من ذلك .
وقوله : ثَيّباتٍ وهنّ اللواتي قد افترعن وذهبت عذرتهنّ وأبْكارا وهنّ اللواتي لم يجامعن ، ولم يفترعن .
قال المهدوي : وهذه الآية نزلت على لسان عمر ، وكذا روي أن عمر بن الخطاب قال لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن } . فنزلت الآية على نحو قوله{[11192]} ، وقال عمر رضي الله عنه : قالت لي أم سلمة : يا ابن الخطاب ، أدخلت نفسك في كل شيء حتى دخلت بين رسول الله وبين نسائه ، فأخذتني أخذاً كسرتني به ، وقالت لي زينب بنت جحش : يا عمر ، أما يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ، وقرأ الجمهور : «طلقَكن » بفتح القاف وإظاهره ، وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه : «طلقكنّ » بشد الكاف وإدغام القاف فيها ، وقال أبو علي : وإدغام القاف في الكاف حسن ، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكوفيون والحسن وأبو رجاء وابن محيصن : «أن يبْدِله » بسكون الباء وتخفيف الدال ، وقرأ نافع والأعرج وأبو جعفر : «أن يبَدِّله » بفتح الباء وشد الدال ، وهذه لغة القرآن في هذا الفعل ، وكرر الله تعالى الصفات مبالغة ، وإن كان بعضها يتضمن بعضاً ، فالإسلام إشارة إلى التصديق ، والعمل والإيمان : تخصيص للإخلاص وتنبيه على شرف موقعه ، { وقانتات } معناه : مطيعات ، والسائحات قيل معناه : صائمات ، قاله أبو هريرة وابن عباس وقتادة والضحاك . وذكر الزجاج أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، وقيل معناه هاجرات قاله زيد بن أسلم ، وقال ابن زيد : ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة ، وقيل : معناه ذاهبات في طاعة الله ، وشبه الصائم بالسائح من حيث ينهمل السائح ولا ينظر في زاد ولا مطعم ، وكذلك الصائم يمسك عن ذلك فيستوي هو والسائح في الامتناع وشظف العيش لفقد الطعام ، وقوله تعالى { ثيبات وأبكاراً } تقسيم لكل واحدة من الصفات المتقدمة ، وليست هذه الواو مما يمكن أن يقال فيها : واو الثمانية لأنها هنا ضرورية ، ولو سقطت لاختل هذا المعنى .