قوله تعالى : { ويصنع الفلك } . فلما أمره الله تعالى أن يصنع الفلك أقبل نوح عليه السلام على عمل الفلك ولها عن قومه ، وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد ويهيئ عدة الفلك من القار وغيره ، وجعل قومه يمرون به وهو في عمله ويسخرون منه ، ويقولون : يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوة ؟ وأعقم الله أرحام نسائهم فلا يولد لهم ولد . وزعم أهل التوراة : أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج ، وأن يصنعه أزور ، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه ، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه خمسين ذراعا وطوله في السماء ثلاثين ذراعا ، والذراع إلى المنكب ، وأن يجعله ثلاثة أطباق سفلى ووسطى وعليا ويجعل فيه كوى ، ففعله نوح كما أمره الله عز وجل . وقال ابن عباس : اتخذ نوح السفينة في سنتين وكان طول السفينة ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعا وطولها في السماء ثلاثون ذراعا ، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون ، فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام ، وفى البطن الأوسط الدواب والأنعام ، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد . قولا قتادة : كان بابها في عرضها . وروى عن الحسن : كان طولها ألفا ومائتي ذراع وعرضها ست مائة ذراع . والمعروف الأول : أن طولها ثلثمائة ذراع . وعن زيد بن أسلم قال : مكث نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها ، ومائة سنة يعمل الفلك . وقيل : غرس الشجر أربعين سنة وجففه أربعين سنة . وعن كعب الأحبار أن نوحا عمل السفينة في ثلاثين سنة ، وروى أنها كانت ثلاث طبقات ، الطبقة السفلى للدواب والوحوش ، والطبقة الوسطى فيها الإنس ، والطبقة العليا فيها الطير ، فلما كثرت أرواث الدواب أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة ، فأقبلا على الروث ، فلما وقع القار بجوف السفينة فجعل يقرضها ويقرض حبالها ، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة ، فأقبلا على الفار .
قوله تعالى : { وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه } ، كانوا يقولون : إن هذا الذي يزعم أنه نبي قد صار نجارا ، وروي أنهم كانوا يقولون له : يا نوح ماذا تصنع ؟ فيقول أصنع بيتا يمشي على الماء ، فيضحكون منه ، { قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم } ، إذا عاينتم عذاب الله ، { كما تسخرون } ، فإذا قيل : كيف تجوز السخرية من النبي ؟ قيل : هذا على ازدواج الكلام ، يعني إن تستجهلوني فإني استجهلكم إذا نزل العذاب بكم ، وقيل : معناه إن تسخروا منا فسترون عاقبة سخريتكم
فامتثل أمر ربه ، وجعل يصنع الفلك { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ } ورأوا ما يصنع { سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا } الآن { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } نحن أم أنتم . وقد علموا ذلك ، حين حل بهم العقاب .
وقوله : { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ } أي : يَطْنزون به ويكذبون بما يتوعدهم به من الغرق ، { قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } وعيد شديد ، وتهديد أكيد ، { مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي : يهنه في الدنيا ، { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } أي : دائم مستمر أبدا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلّمَا مَرّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مّقِيمٌ * حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التّنّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ } .
يقول تعالى ذكره : ويصنع نوح السفينة ، وكلما مر عليه جماعة من كبراء قومه سخروا منه ، يقول : هزئوا من نوح ، ويقولون له : أتحولت نجارا بعد النبوة وتعمل السفينة في البر فيقول لهم نوح : إنْ تسْخروا مّنا : إن تهزءوا منا اليوم ، فإنا نهزأ منكم في الاَخرة كما تهزءون منا في الدنيا . فسوْفَ تعْلمونَ إذا عاينتم عذاب الله ، من الذي كان إلى نفسه مسيئا منا . وكانت صنعة نوح السفينة كما :
حدثني المثنى وصالح بن مسمار ، قالا : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا موسى بن يعقوب ، قال : ثني فائد مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع : أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة ، أخبره أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرته : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لَوْ رَحِمَ اللّهُ أحَدا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ لَرَحِمَ أُمّ الصّبِيّ » . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كانَ نُوحٌ مَكَث في قَومِهِ ألْف سَنَةٍ إلاّ خُمسِين عاما يَدْعُوهُمْ إلى اللّهِ حتى كانَ آخِرَ زَمانِه غَرَس شَجَرَةً ، فعَظُمَتْ وذهَبَتْ كُلّ مَذْهَبٍ ، ثُمّ قَطَعَها ، ثُمّ جَعَل يَعْمَلُ سَفِينَةً ، ويَمُرّونَ فيَسألُونَهُ ، فَيَقُولُ : أعْمَلُها سَفِينَةً ، فَيَسْخَرُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ : تَعْمَلُ سَفِينَةً فِي البَرّ فَكَيْفَ تَجْرِي ؟ فَيَقُولُ : سَوْفَ تَعْلَمُونَ . فَلَمّا فَرَغَ مِنْها وَفارَ التّنّورُ وكَثُرَ المَاءُ في السّكَكِ خَشِيَتْ أُمّ الصَبِيّ عَلَيْهِ ، وكانَتْ تُحِبُبّهُ حُبّا شّدِيدا ، فخَرَجَتْ إلى الجَبَل حتى بَلَغَتْ ثُلُثَهُ فَلَمّا بَلَغَها المَاءُ خَرَجَتْ حتى بَلَغَتْ ثُلُثَيِ الجَبَل فَلَمّا بَلَغَها المَاءُ خَرَجَتْ حتى اسْتَوَتْ على الجَبَلِ فَلَمّا بَلَغَ المَاءُ رَقَبَتَها رَفَعَتْهُ بينَ يَدَيْها حتى ذَهَبَ بِها المَاءُ ، فَلَوْ رَحِمَ اللّهُ مِنْهُمْ أحَدا لَرَحِمَ أُمّ الصّبِيّ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أن طول السفينة ثلاث مئة ذراع ، وعرضها خمسون ذراعا ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا ، وبابها في عرضها .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا مبارك ، عن الحسن ، قال : كان طول سفينة نوح ألف ذراع ومئتي ذراع ، وعرضها ستّ مئة ذراع .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن مفضل بن فضالة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن يوسف بن مهران ، عن ان عباس ، قال : قال الحواريون لعيسى ابن مريم : لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة فحدثنا عنها قال : فانطلق بهم حتى انتهى بهم إلى كثيب من تراب ، فأخذ كفّا من ذلك التراب بكفه ، قال : أتدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذا كعب حام بن نوح . قال : فضرب الكثيب بعصاه ، قال : قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب . قال له عيسى : هكذا هلكت ؟ قال : لا ، ولكن متّ وأنا شاب ، ولكني ظننت أنها الساعة ، فمن ثم شِبْت . قال : حدّثنا عن سفينة نوح قال : كان طولها ألف ذراع ومئتي ذراع ، وعرضها ستّ مئة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات ، فطبقة فيها الدوابّ والوحش ، وطبقة فيها الإنس ، وطبقة فيها الطير . فلما كثر أرواث الدوابّ ، أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة ، فأقبلا على الروث . فلما وقع الفأر بحبل السفينة يقرضه ، أوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد فخرج من منخره سنور وسنورة ، فأقبلا على الفأر ، فقال له عيسى : كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت ؟ قال : بعث الغراب يأتيه بالخبر ، فوجد جيفة فوقع عليها ، فدعا عليه بالخوف ، فلذلك لا يألف البيوت ، قال : ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها ، فعلم أن البلاد قد غرقت ، قال : فطوّقها الخضرة التي في عنقها ، ودعا لها أن تكون في أنس وأمان ، فمن ثم تألف البيوت . قال : فقلنا يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلينا ، فيجلس معنا ، ويحدثنا ؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له ؟ قال : فقال له : عد بإذن الله ، قال : فعاد ترابا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق عمن لا يتّهم عن عبيد بن عمير الليثي : أنه كان يحدّث أنه بلغه أنهم كانوا يبطشون به يعني قوم نوح فيخنقونه حتى يغشي عليه ، فإذا أفاق قال : اللهمّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى إذا تمادوا في المعصية ، وعظمت في الأرض منهم الخطيئة ، وتطاول عليه وعليهم الشأن ، واشتدّ عليه منهم البلاء ، وانتظر النجل بعد النجل ، فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من القرن الذي قبله ، حتى إن كان الاَخِرُ منهم ليقول : قد كان هذا مع آبائنا ومع أجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا . حتى شكا ذلك من أمرهم نوح إلى الله تعالى ، كما قصّ الله علينا في كتابه : رَبّ إني دَعَوْتُ قَوْمي لَيْلاً ونهَارا فَلم يَزِدْهُمْ دُعائي إلاّ فِرَارا إلى آخر القصة ، حتى قالَ رَبّ لا تَذَرْ على الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارا إنّكَ إنْ تَذَرْهُمْ يُضِلّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إلاّ فاجِرا كَفّارا إلى آخر القصة . فلما شكا ذلك منهم نوح إلى الله واستنصره عليهم ، أوحي الله إليه أَنِ وَاصْنَعِ الفُلْكَ بأعْيُنِنا وَوَحْيِنا ولاَ تُخاطبْني في الّذِينَ ظَلمُوا أي بعد اليوم ، إنّهُمْ مُغْرَقُونَ . فأقبل نوح على عمل الفلك ، ولَهِيَ عن قومه ، وجعل يقطع الخشب ، ويضرب الحديد ويهيىء عدة الفلك من القار وغيره مما لا يصلحه إلا هو . وجعل قومه يمرّون به وهو في ذلك من عمله ، فيسخرون منه ويستهزئون به ، فيقول : إنْ تَسْخَرُوا منّا فإنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيحِلّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ . قال : ويقولون له فيما بلغني : يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوّة قال : وأعقم الله أرحام النساء ، فلا يولد لهم ولد . قال : ويزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج ، وأن يصنعه أزور ، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه ، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعا ، وأن يجعله ثلاثة أطباق : سفلاً ووسطا وعلوا ، وأن يجعل فيه كُوًى . ففعل نوح كما أمره الله ، حتى إذا فرغ منه وقد عهد الله إليه إذا جاء أمرنا وفار التنور فاحمل فيها من كلّ زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن ، وما آمن معه إلا قليل ، وقد جعل التنور آية فيما بينه وبينه ( ف ) قال إذَا جاءَ أمْرُنا وَفارَ التّنّورُ فاسْلُكْ فَيها مِنْ كُلَ زَوْجيْنِ اثْنين واركب . فلما فار التنور حمل نوح في الفلك من أمره الله ، وكانوا قليلاً كما قال الله ، وحمل فيها من كلّ زوجين اثنين مما فيه الروح والشجر ذكر وأنثى ، فحمل فيه بنيه الثلاثة : سام وحام ويافت ونساءهم ، وستة أناس ممن كان آمن به ، فكانوا عشرة نفر : نوح وبنوه وأزواجهم ، ثم أدخل ما أمره به من الدوابّ وتخلّف عنه ابنه يام ، وكان كافرا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن عليّ بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : سمعته يقول : كان أوّل ما حمل نوح في الفلك من الدوابّ الدرّة ، وآخر ما حمل الحمار فلما دخل الحمار وأدخل صدره مَسَك إبليس بذنبه ، فلم تستقل رجلاه ، فجعل نوح يقول : ويحك ادخل فينهض فلا يستطيع . حتى قال نوح : ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك قال : كلمة زلّت عن لسانه . فلما قالها نوح خلى الشيطان سبيله ، فدخل ودخل الشيطان معه ، فقال له نوح : ما أدخلك عليّ يا عدوّ الله ؟ فقال : ألم تقل : ادخل وإن كان الشيطان معك ؟ قال : اخرج عني يا عدوّ الله فقال : ما لك بدّ من أن تحملني . فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك . فلما اطمأنّ نوح في الفلك ، وأدخل فيه مَنْ آمن به ، وكان ذلك في الشهر من السنة التي دخل فيها نوح بعد ستّ مئة سنة من عمره لسبع عشرة ليلة مضت من الشهر فلما دخل وحمل معه من حمل ، تحرّك ينابيع الغوط الأكبر ، وفتح أبواب السماء ، كما قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فَفَتَحْنا أبْوَابَ السّماءِ بِمَاء مُنْهَمرٍ وفَجّرْنا الأرْضَ عُيُونا فالْتَقَى المَاءُ على أمْرٍ قَدْ قُدِرَ فدخل نوح ومن معه الفلك وغطاه عليه وعلى من معه بطبقة ، فكان بين أن أرسل الله الماء وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يوما وأربعون ليلة . ثم احتمل الماء كما تزعم أهل التوراة ، وكثر الماء واشتدّ وارتفع يقول الله لمحمد : وَحمَلْناهُ على ذَاتِ ألْوَاحٍ وَدُسُرٍ والدسر : المسامير ، مسامير الحديد . فجعلت الفلك تجري به وبمن معه في موج كالجبال ونادى نوح ابنه الذي هلك فيمن هلك ، وكان في معزل حين رأى نوح من صدق موعد ربه ما رأى فقال : يا بُنَيّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الكافرِينَ وكان شقيا قد أضمر كفرا ، قالَ سآوِي إلى جَبَل يَعْصِمُني منَ المَاءِ وكان عهد الجبال وهي حرز من الأمطار إذا كانت ، فظن أن ذلك كما كان يعهد . قال نوح : لا عاصِمَ اليَوْمَ منْ أمْرِ اللّهِ إلاّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُما المَوْجُ فَكانَ مِنَ المُغْرَقينَ وكثر الماء حتى طغى وارتفع فوق الجبال كما تزعم أهل التوراة بخمسة عشر ذراعا ، فباد ما على وجه الأرض من الخلق من كل شيء فيه الروح أو شجر ، فلم يبق شيء من الخلائق إلا نوح ومن معه في الفلك ، وإلا عوج بن عنق فيما يزعم أهل الكتاب . فكان بين أن أرسل الله الطوفان وبين أن غاض الماء ستة أشهر وعشر ليال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن عليّ بن زيد بن جدعان ، قال ابن حميد ، قال سلمة وحدثني حسن بن عليّ بن زيد عن يوسف بن مهران ، قال : سمعته يقول : لما آذى نوحا في الفلك عذرةُ الناس ، أمر أن يمسح ذنب الفيل ، فمسحه فخرج منه خنزيران ، وكفي ذلك عنه . وإن الفأر توالدت في الفلك ، فلما آذته ، أمر أن يأمر الأسد يعطس ، فعطس فخرج من مَنْخِريه هرّان يأكلان عنه الفأر .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عليّ بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : لما كان نوح في السفينة ، قرض الفأر حبال السفينة ، فشكا نوح ، فأوحي الله إليه فمسح ذنب الأسد فخرج سنّوران . وكان في السفينة عذرة ، فشكا ذلك إلى ربه ، فأوحي الله إليه ، فمسح ذنب الفيل ، فخرج خنزيران .
حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، قال : حدثنا الأسود بن عامر ، قال : أخبرنا سفيان بن سعيد ، عن عليّ بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حُدثت عن المسيب بن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، قال : قال سليمان القَرَاسِي : عمل نوح السفينة في أربع مئة سنة ، وأنبت الساج أربعين سنة حتى كان طوله أربع مئة ذراع ، والذراع إلى المنكب .
القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ويَحِلّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ حتى إذَا جاءَ أمْرُنا وَفارَ التّنّورُ قُلْنا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وأهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح لقومه : فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أيها القوم إذا جاء أمر الله ، من الهالك مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ يقول : الذي يأتيه عذاب الله منا ومنكم يهينه ويذله ، ويحلّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ يقول : وينزل به في الاَخرة مع ذلك عذاب دائم لا انقطاع له ، مقيم عليه أبدا .
وقوله : حتى إذَا جاءَ أمْرُنا يقول : ويصنع نوح الفلك حتى إذا جاء أمرنا الذي وعدناه أن يجيء قومه من الطوفان الذي يغرقهم .
وقوله : وَفارَ التّنّورُ اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : انبجس الماء من وجه الأرض ، وفار التنور ، وهو وجه الأرض . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام بن حوشب ، عن الضحاك ، عن ابن عباس أنه قال في قوله : وَفارَ التّنّورُ قال : التنور : وجه الأرض . قال : قيل له : إذا رأيت الماء على وجه الأرض ، فاركب أنت ومن معك قال : والعرب تسمى وجه الأرض : تنور الأرض .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن العوّام ، عن الضحاك ، بنحوه .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا الشيباني ، عن عكرمة ، في قوله : وَفارَ التّنّورُ قال : وجه الأرض .
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن الشيباني ، عن عكرمة : وَفارَ التّنّورُ قال : وجه الأرض .
وقال آخرون : هو تنوير الصبح من قولهم : نوّر الصبح تنويرا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا محمد بن فُضَيل ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن عباس مولى أبي جحيفة ، عن أبي جحيفة ، عن عليّ رضي الله عنه ، قوله : حتى إذَا جاءَ أمْرُنا وَفارَ التّنّورُ قال : هو تنوير الصبح .
حدثنا ابن وكيع وإسحاق بن إسرائيل ، قالا : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن زياد مولى أبي جُحيفة ، عن أبي جُحيفة ، عن عليّ في قوله : وَفارَ التّنّورُ قال : تنوير الصبح .
حدثنا حماد بن يعقوب ، قال : أخبرنا ابن فضيل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن مولى أبي جُحيفة ، أراه قد سماه عن أبي جحيفة ، عن عليّ : وَفارَ التّنّورُ قال : تنوير الصبح .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا هشيم ، عن ابن إسحاق ، عن رجل من قريش ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : وَفارَ التّنّورُ قال : طلع الفجر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن رجل قد سماه ، عن عليّ بن أبي طالب ، قوله : وَفارَ التّنّورُ قال : إذا طلع الفجر .
وقال آخرون : معنى ذلك : وفار على الأرض وأشَرفِ مكان فيها بالماء . وقال : التنور أشرف الأرض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : حتى إذَا جاء أمْرُنا وَفارَ التّنّورُ كنا نُحَدّث أنه أعلى الأرض وأشرفها ، وكان عَلَما بين نوح وبين ربه .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : سمعت قتادة ، قوله : وَفارَ التّنّورُ قال : أشرف الأرض وأرفعها فار الماء منه .
وقال آخرون : هو التنور الذي يختبز فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : حتى إذا جاءَ أمْرُنا وفارَ التّنّورُ قال : إذا رأيت تنور أهلك يخرج منه الماء فإنه هلاك قومك .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي محمد ، عن الحسن ، قال : كان تنورا من حجارة كان لحواء حتى صار إلى نوح ، قال : فقيل له : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَفارَ التّنّورُ قال : حين انبجس الماء وأمر نوح أن يركب هو ومن معه في الفلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَفارَ التّنّورُ قال : انبجس الماء منه آية أن يركب بأهله ومن معه في السفينة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه ، إلا أنه قال : آية أن يركب أهله ومن معه في السفينة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه ، إلا أنه قال : آية بأن يركب بأهله ومن معهم في السفينة .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : نبع الماء في التنور ، فعلمت به امرأته فأخبرته . قال : وكان ذلك في ناحية الكوفة .
قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا علي بن ثابت ، عن السري بن إسماعيل ، عن الشعبي : أنه كان يحلف بالله ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الحميد الحِمّاني ، عن النضر أبي عمر الخزاز ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : وَفارَ التّنّورُ قال : فار التنور بالهند .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَفارَ التّنّورُ كان آية لنوح إذا خرج منه الماء فقد أتي الناس الهلاك والغرق .
وكان ابن عباس يقول في معنى فار : نبع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : وَفارَ التّنّورُ قال : نبع .
قال أبو جعفر : وفوران الماء سَوْرة دفعته ، يقال منه : فار الماء يفور فوَرَانا وفَوْرا ، وذاك إذا سارت دفعته .
وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله : التّنّور قول من قال : هو التنور الذي يخبز فيه لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب ، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب إلا أن تقوم حجة على شيء منه بخلاف ذلك فيسلم لها . وذلك أنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به لإفهامهم معنى ما خاطبهم به .
قُلْنَا لنوح حين جاء عذابنا قومه الذي وعدنا نوحا أن نعذّبهم به ، وفار التنور الذي جعلنا فورانه بالماء آية مجيء عذابنا بيننا وبينه لهلاك قومه : احْمِلْ فِيها يعني في الفلك مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يقول : من كلّ ذكر وأنثى . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قال : ذكر وأنثى من كلّ صنف .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فالواحد زوج ، والزوجين ذكر وأنثى من كلّ صنف .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قال : ذكر وأنثى من كل صنف .
قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قُلْنا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلَ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يقول : من كل صنف اثنين .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يعني بالزوجين اثنين : ذكرا وأنثى .
وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين : الزوجان في كلام العرب : الاثنان ، قال : ويقال عليه زَوْجَا نعال : إذا كانت عليه نعلان ، ولا يقال عليه زوج نعال ، وكذلك عنده زوجا حمام ، وعليه زوجا قيود . وقال : ألا تسمع إلى قوله : وأنّهُ خَلَقَ الزّوْجَيْنِ الذّكَرَ والأُنْثَى فإنما هما اثنان . وقال بعض البصريين من أهل العربية في قوله : قلْنا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قال : فجعل الزوجين : الضربين ، الذكور والإناث ، قال : وزعم يونس أن قول الشاعر :
وأنْتَ امْرُءٌ تَعْدُو على كُلّ غِرّةٍ *** فتُخْطِيءُ فِيها مَرّةً وتُصِيبُ
يعني به الذئب . قال : فهذا أشذّ من ذلك . وقال آخر منهم : الزوج : اللون ، قال : وكل ضرب يدعي لونا ، واستشهد ببيت الأعشى في ذلك :
وكُلّ زَوْجٍ مِنَ الديباجِ يَلْبَسُهُ *** أبُو قُدَامَةَ مَحْبُوّ بِذَاكَ مَعا
بذِيَ بهْجَةٍ كَنّ المَقانِبُ صَوْبَهُ *** وَزَيّنَهُ أزْوَاجُ نَوْرٍ مُشَرّبِ
وذكر أن الحسن قال في قوله : مِنْ كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ السماء زوج ، والأرض زوج ، والشتاء زوج ، والصيف زوج ، والليل زوج ، والنهار زوج ، حتى يصير الأمر إلى الله الفرد الذي لا يشبهه شيء .
وقوله : وأهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ يقول : واحمل أهلك أيضا في الفلك ، يعني بالأهل : ولده ونساءه وأزواجه إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ يقول : إلا من قلت فيهم إني مهلكه مع من أهلك من قومك .
ثم اختلفوا في الذي استثناه الله من أهله ، فقال بعضهم : هو بعض نساء نوح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : وأهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ قال : العذاب ، هي امرأته كانت من الغابرين في العذاب .
وقال آخرون : بل هو ابنه الذي غرق . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المسيب ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، في قوله : وأهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ قال : ابنه غرق فيمن غرق .
وقوله : وَمَنْ آمَنَ يقول : واحمل معهم من صدّقك واتبعك من قومك . يقول الله : وما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ يقول : وما أقرّ بوحدانية الله مع نوح من قومه إلا قليل .
واختلفوا في عدد الذين كانوا آمنوا معه فحملهم معه في الفلك ، فقال بعضهم في ذلك : كانوا ثمانية أنفس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَليلٌ قال : ذكر لنا أنه لم يتمّ في السفينة إلا نوح وامرأته وثلاثة بنيه ، ونساؤهم ، فجميعهم ثمانية .
حدثنا ابن وكيع والحسن بن عرفة ، قالا : حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية ، عن أبيه ، عن الحكم : وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ قال : نوح ، وثلاثة بنيه ، وأربع كنائنه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : حُدثت أن نوحا حمل معه بنيه الثلاثة وثلاث نسوة لبنيه ، وامرأة نوح ، فهم ثمانية بأزواجهم . وأسماء بنيه : يافث ، وسام ، وحام ، وأصاب حام زوجته في السفينة ، فدعا نوح أن يغير نطفته فجاء بالسودان .
وقال آخرون : بل كانوا سبعة أنفس . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش : وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ قال : كانوا سبعة : نوح ، وثلاث كنائن له ، وثلاثة بنين .
وقال آخرون : كانوا عشرة سوى نسائهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما فار التنور ، حمل نوح في الفلك من أمره الله به ، وكانوا قليلاً كما قالالله ، فحمل بنيه الثلاثة : سام ، وحام ، ويافث ، ونساءهم ، وستة أناسي ممن كان آمن ، فكانوا عشرة نفر بنوح وبنيه وأزواجهم .
وقال آخرون : بل كانوا ثمانين نفسا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : حمل نوح معه في السفينة ثمانين إنسانا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، كان بعضهم يقول : كانوا ثمانين ، يعني القليل الذي قال الله : وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا زيد بن الخُباب ، قال : ثني حسين بن واقد الخُراساني ، قال : ثني أبو نَهِيك ، قال : سمعت ابن عباس يقول : كان في سفينة نوح ثمانون رجلاً ، أحدهم جُرْهُم .
والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله : وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ يصفهم بأنهم كانوا قليلاً ، ولم يحدد عددهم بمقدار ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح ، فلا ينبغي أن يتجاوز في ذلك حد الله ، إذ لم يكن لمبلغ عدد ذلك حد من كتاب الله أو أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ ويصنع الفلك } حكاية حال ماضية . { وكلما مرّ عليه ملأٌ من قومه سخروا منه } استهزؤوا به لعمله السفينة فإنه كان يعملها في برية بعيدة من الماء أوان عزته ، وكانوا يضحكون منه ويقولون له : صرت نجارا بعدما كنت نبيا . { قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } إذا أخذكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة . وقيل المراد بالسخرة الاستجهال .
التقدير : فشرع يصنع فحكيت حال الاستقبال ، إذ في خلالها وقع مرورهم ، قال ابن عباس : صنع نوح الفلك بيفاع دمشق{[6330]} وأخذ عودها من لبنان وعودها من الشمشاذ وهو البقص{[6331]} . وروي أن عودها من الساج وأن نوحاً عليه السلام اغترسه حتى كبر في أربعين سنة ؛ وروي أن طول السفينة ألف ذراع ومائتان ، وعرضها ستمائة ذراع ، ذكره الحسن بن أبي الحسن وقيل : طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً ، ذكره قتادة ، وروي غير هذا مما لم يثبت ، فاختصرت ذكره ، وذكر الطبري حديث إحياء عيسى ابن مريم لسام بن نوح وسؤاله إياه عن أمر السفينة فذكر أنها ثلاث طبقات : طبقة للناس ، وطبقة للبهائم ، وطبقة للطير ، إلى غير ذلك في حديث طويل{[6332]} .
و «الملأ » هنا الجماعة ، و { سخروا } معناه استجهلوه ، وهذا الإستجهال إن كان الأمر كما ذكر أنهم لم يكونوا قبل رأوا سفينة ولا كانت - فوجه الإستجهال واضح . وبذلك تظاهرت التفاسير ؛ وإن كانت السفائن حينئذ معروفة فاستجهلوه في أن صنعها في موضع لا قرب لها من البحر وروي أنهم كانوا يقولون له : صرت نجاراً بعد النبوة ؟ ! ! .
وقوله { فإنا نسخر منكم } قال الطبري : يريد في الآخرة .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل الكلام ، بل هو الأرجح ، أن يريد : إنا نسخر منكم الآن ، أي نستجهلكم لعلمنا بما أنتم عليه من الغرر مع الله تعالى والكون بمدرج عذابه .
عطف على جملة { واصنع الفلك } [ هود : 37 ] ، أي أوحي إليه { اصنع الفلك } ، وصَنَع الفلك . وإنما عبر عن صنعه بصيغة المضارع لاستحضار الحالة لتخييل السامع أن نوحاً عليه السلام بصدد العمل ، كقوله : { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً } [ فاطر : 9 ] وقوله : { يجادلنا في قوم لوطٍ } [ هود : 74 ] وجملة { وكلما مر عليه ملأ } في موضع الحال من ضمير { يصنع } .
و { كلّما } كلمة مركبة من ( كل ) و ( ما ) الظرفية المصدرية ، وانتصبت ( كل ) على الظرفية لأنها اكتسبت الظرفية بالإضافة إلى الظرف ، وهو متعلّق { سخروا } ، وهو جوابه من جهة أخرى . والمعنى : وسَخر منه ملأ من قومه في كل زمن مرورهم عليه .
و ( لما ) في ( كلما ) من العموم مع الظرفية أشربت معنى الشرط مثل ( إذا ) فاحتاجت إلى جواب وهو { سَخروا منه } .
وجملة { قال إن تسخروا منا } حكاية لما يجيب به سخريتهم ، أجريت على طريقة فعل القول إذا وقع في سياق المحاورة ، لأن جملة { سخروا } تتضمن أقوالاً تنبني عن سخريتهم أو تبين عن كلام في نفوسهم .
وجمع الضمير في قوله : { مِنّا } يشير إلى أنهم يسخرون منه في عمل السفينة ومن الذين آمنوا به إذْ كانوا حَوله واثقين بأنه يعمل عَملاً عظيماً ، وكذلك جمعه في قوله : { فإنّا نسخر منكم } .
والسخرية : الاستهزاء ، وهو تعجب باحتقار واستحماق . وتقدم عند قوله تعالى : { فحَاق بالذين سَخروا منهم } في أول سورة [ الأنعام : 10 ] ، وفعلها يتعدى ب ( من ) .
وسخريتهم منه حمل فعله على العبث بناء على اعتقادهم أن ما يصنعه لا يأتي بتصديق مدعاه .
وسخرية نوح عليه السلام والمؤمنين ، من الكافرين من سفه عقولهم وجهلهم بالله وصفاته . فالسخريتان مقترنتان في الزمن .
وبذلك يتضح وجه التشبيه في قوله : { كما تسخرون } فهو تشبيه في السبب الباعث على السخرية ، وإن كان بين السببيْن بَون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويصنع الفلك}، يعني يعمل فيها، {وكلما مر عليه}، يعني كلما أتى عليه {ملأ}، يعني أشراف {من قومه سخروا منه} حين يزعم أنه يصنع بيتا يسير على الماء، ولم يكونوا رأوا سفينة قط، {قال} لهم نوح: {إن تسخروا منا} لصنعنا السفينة، {فإنا نسخر منكم} إذا نزل بكم الغرق، {كما تسخرون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويصنع نوح السفينة، وكلما مر عليه جماعة من كبراء قومه "سخروا منه"، يقول: هزئوا من نوح... فيقول لهم نوح: "إنْ تسْخروا مّنا": إن تهزؤوا منا اليوم، فإنا نهزأ منكم في الآخرة كما تهزؤون منا في الدنيا. "فسوْفَ تعْلمونَ "إذا عاينتم عذاب الله، من الذي كان إلى نفسه مسيئا منا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...قال الرماني: السخرية: إظهار خلاف الباطن على جهة يفهم منها استضعاف العقل، ومنه التسخير: التذليل استضعافا بالقهر. والفرق بين السخرية واللعب أن في السخرية خديعة واستنقاصا، ولا يكون إلا الحيوان، وقد يكون اللعب بجماد لأنه طلب الفرجة من غير مراعاة لما يعقب، كفعل الصبي. وإنما كانوا يسخرون من عمل السفينة، لأنه كان يعملها في البر على صفة من الهول، ولا ماء هناك يحمل مثلها فكانوا يتضاحكون ويتعجبون من عمله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما تَحقَّق بما أمر اللَّهُ به لم يأْبَه عند إمضاءِ ما كُلِّفَ به بما سَمِعَ من القيل، ونظر إلى الموعود بطَرْفِ التصديق فكان كالمُشاهِد له قبلَ الوجود...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{فإنا نسخر منكم} ونعجب من غفلتكم عما قد أظلكم من العذاب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... إن تستجهلونا فيما نصنع، فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعرّض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالاستجهال منا. أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر، وبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمره تعالى ونهاه، أخبر أنه امتثل ذلك بقوله عاطفاً على ما تقديره: فأيس من إيمان أحد منهم فترك دعاءهم وشرع يسلي نفسه: {ويصنع} أي صنعة ماهر جداً، له ملكة عظيمة بذلك الصنع {الفلك} فحلى فعله حالُ علمه بأنه سبحانه بت الأمر بأنه كان يعمل ما أمره به سبحانه ولم يخاطبه فيهم ولا أسف عليهم، وأشار إلى أنهم ازدادوا بغياً بقوله: {وكلما} أي والحال أنه كلما {مرَّ عليه ملأ} أي أشراف {من قومه} وأجاب "كلما "بقوله: {سخروا منه} أي ولم يمنعهم شرفهم من ذلك، وذلك أنهم رأوه يعاني ما لم يروا قبله مثله ليجري على الماء وهو في البر وهو على صفة من الهول عظيمة... ولما أيأسه الله من خيرهم، ترك ما كان من لينه لهم واستعطافهم فعلم أن ذلك ما كان إلا له سبحانه، فقال حاكياً عنه استئنافاً: {قال إن تسخروا منا} ولما كانوا يظنون أنه غائب في عمله كان عندهم موضعاً للخزي والسخرية، وكان هو صلى الله عليه وسلم عالماً بأن عملهم سبب لخزيهم بالعذاب المستأصل، فكان المعنى: إن تسخروا منا -أي مني وممن يساعدني- لظن أن عملنا غير مثمر {فإنا نسخر} أي نوجد السخرية {منكم} جزاء لكم {كما تسخرون} منا الآن لأن عملنا منج وعملكم ليس مقتصراً على الضياع بل هو موجب لما توعدون من العذاب فأنتم المخزيون دوني...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
...فالحري بحال من لا يميل إلى الفضول أن يؤمن بأنه عليه السلام صنع الفلك حسبما قص الله تعالى في كتابه ولا يخوض في مقدار طولها وعرضها وارتفاعها ومن أي خشب صنعها وبكم مدة أتم علمها إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب ولم تبينه السنة الصحيحة،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ويصنع الفلك} أي وطفق يصنع الفلك كما أمر {وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه} استهزءوا وضحكوا منه وتنادروا عليه لحسبانهم أنه مصاب بالهوس والجنون، يقال سخر من فلان وسخر به [كتعب] أي اتخذه سخريا [بضم السين وكسرها] يهزأ به. وروي أنهم كانوا يسألونه عما يصنع فيجيبهم أنه يصنع بيتا يجري على الماء، ولم يكن هذا معروفا ولا متصورا، وقل أن يسبق أحد أهل عصره بما هو فوق عقولهم ومداركهم من قول أو عمل إلا سخروا منه قبل أن يتم له النجاح فيه {قال إن تسخروا منا} قال مجيبا لكل منهم عن هذا السؤال: إن تسخروا منا وتستجهلوننا اليوم لرؤيتكم منا ما لا تتصورون له فائدة.
{فإنا نسخر منكم كما تسخرون} منا جزاء وفاقا، نسخر منكم اليوم لجهلكم، وغدا لما يحل عليكم، فإن كنتم لا تعلمون اليوم بما نعمل وبما سيكون من عاقبة عملنا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
التعبير بالمضارع. فعل الحاضر.. هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدته. فنحن نراه ماثلا لخيالنا من وراء هذا التعبير. يصنع الفلك. ونرى الجماعات من قومه المتكبرين يمرون به فيسخرون. يسخرون من الرجل الذي كان يقول لهم: إنه رسول ويدعوهم، ويجادلهم فيطيل جدالهم؛ ثم إذا هو ينقلب نجارا يصنع مركبا.. إنهم يسخرون لأنهم لا يرون إلا ظاهر الأمر، ولا يعلمون ما وراءه من وحي وأمر. شأنهم دائما في إدراك الظواهر والعجز عن إدراك ما وراءها من حكمة وتقدير. فأما نوح فهو واثق عارف وهو يخبرهم في اعتزاز وثقة وطمأنينة واستعلاء أنه يبادلهم سخرية بسخرية: (قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون).. نسخر منكم لأنكم لا تدركون ما وراء هذا العمل من تدبير الله وما ينتظركم من مصير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والسخرية: الاستهزاء، وهو تعجب باحتقار واستحماق...
وسخريتهم منه: حمل فعله على العبث بناء على اعتقادهم أن ما يصنعه لا يأتي بتصديق مدعاه. وسخرية نوح عليه السلام والمؤمنين، من الكافرين من سفه عقولهم وجهلهم بالله وصفاته. فالسخريتان مقترنتان في الزمن. وبذلك يتضح وجه التشبيه في قوله: {كما تسخرون} فهو تشبيه في السبب الباعث على السخرية، وإن كان بين السببيْن بَون...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} ويستمر في صناعته بجدٍّ واجتهاد في الليل والنهار، ولكن عمله ذاك كان محلّ استغراب، لأن المنطقة التي يعيش فيها كانت فلاة لا وجود للماء فيها، أو في المواقع القريبة منها، بما يوحي أن عمله ذاك كان حالةً من العبث، أو مظهراً لغياب العقل، لذا كان موضع سخرية قومه: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} بما يحملونه من عقد خبيثة ضدّه، تجعلهم يعملون على تدمير شخصيته، وعلى إذلاله، وبما يحمله حكمهم على الأشياء من سطحية وتسرع لا ينفذ إلى أعماق الأمور، فلو فكروا بطريقة موضوعيّة، لنظروا إلى تاريخ حياته الذي يكشف لهم عن قوّة فكره، وسلامة نظره، ولسألوه عن سرّ عمله الغامض في الظاهر، باعتباره صادراً عن شخص يملك العقل الكامل، والذهنية المتوازنة ليتمكنوا بعد استجماع كل عناصر الموضوع الحكم، ولكنهم ينطلقون من موقع الرغبة في تحطيمه، لا من موقع الرغبة في الفهم الصحيح للأمور. ولكن الله أراد لنوح أن يردّ الأسلوب بمثله، لأن الفكر إنما يكون لمن يحترمون الفكر، والحوار ينشأ مع من يريدون الحوار، أما من يريدون التحطيم والتدمير، عن قصد وتصميم شرّير فلا بد من مواجهتهم بأسلوبهم، لأن ذلك ما تقتضيه الحكمة في مواجهة الموقف بما يتطابق مع مقتضى الحال، وهكذا أراد الله له أن يقول، في ما ألهمه من وحي الحكمة: {قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}، فذلك هو ردّ الفعل على الموقف، ولكنه يختلف في دوافعه عما انطلقتم فيه، فإذا كانت سخريتكم ناشئةً عن عقدة، أو عن جهل لطبيعة العمل الذي أقوم به، فإنا نسخر منكم من موقع اطلاعنا على النهاية السيئة التي ستنتهون إليها...