{ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } والحاسد ، هو الذي يحب زوال النعمة عن المحسود ، فيسعى في زوالها بما يقدر عليه من الأسباب ، فاحتيج إلى الاستعاذة بالله من شره ، وإبطال كيده ، ويدخل في الحاسد العاين ؛ لأنه لا تصدر العين إلا من حاسد شرير الطبع ، خبيث النفس ، فهذه السورة ، تضمنت الاستعاذة من جميع أنواع الشرور ، عمومًا وخصوصًا .
ودلت على أن السحر له حقيقة يخشى من ضرره ، ويستعاذ بالله منه [ ومن أهله ] .
وقوله : { وَمِنْ شَرّ حاسِدٍ إذَا حَسَدَ } اختلف أهل التأويل في الحاسد الذي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ حسده به ، فقال بعضهم : ذلك كلّ حاسد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيد من شرّ عينه ونفسه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { وَمِنْ شَرّ حاسِدٍ إذَا حَسَدَ } قال : من شرّ عينه ونفسه .
قال مَعْمر : وسمعت ابن طاوُس يحدّث عن أبيه ، قال : العَينُ حَقّ ، وَلَو كان شَيءٌ سابق القَدرِ ، سَبَقتْه العَينُ ، وإذا اسْتُغْسِل أحدُكم فَلْيَغْتَسل .
وقال آخرون : بل أُمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بهده الآية أن يستعيذ من شرّ اليهود الذين حسدوه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَمِنْ شَرّ حاسِدٍ إذَا حَسَدَ } قال : يهود ، لم يمنعم أن يؤمنوا به إلا حسدهم .
وأولى القولين بالصواب في ذلك ، قول من قال : أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ كلّ حاسد إذا حسد ، فعابه أو سحره ، أو بغاه سوءا .
وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب ؛ لأن الله عزّ وجلّ لم يخصص من قوله { وَمِنْ شَرّ حاسِدٍ إذَا حَسَدَ } حاسدا دون حاسد ؛ بل عمّ أمرُه إياه بالاستعاذة من شر كلّ حاسد ، فذلك على عمومه .
{ ومن شر حاسد إذا حسد } إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه ، فإنه لا يعود ضرر منه قبل ذلك إلى المحسود ؛ بل يخص به لاغتمامه بسروره ، وتخصيصه ؛ لأنه العمدة في إضرار الإنسان ؛ بل الحيوان غيره ، ويجوز أن يراد بالغاسق ما يخلو عن النور ، وما يضاهيه كالقوى وبالنفاثات النباتات ، فإن قواها النباتية من حيث أنها تزيد في طولها وعرضها وعمقها كانت تنفث في العقد الثلاثة ، وبالحاسد الحيوان ، فإنه إنما يقصد غيره غالبا طمعا فيما عنده ، ولعل إفرادها من عالم الخلق ؛ لأنها الأسباب القريبة للمضرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد أنزلت علي سورتان ما أنزل مثلهما ، وإنك لن تقرأ سورتين أحب ولا أرضى عند الله منهما " ، يعني المعوذتين .
وقوله تعالى : { ومن شر حاسد إذا حسد } قال قتادة : من شر عينه ونفسه ، يريد بالنفس السعي الخبيث والإذاية كيف قدر ؛ لأنه عدو مجد ممتحن ، وقال الشاعر :
كل العداوة قد ترجى إماتتها *** إلا عداوة من عاداك من حسد{[12041]}
وعين الحاسد في الغالب لاقفة ، نعوذ بالله عز وجل من شرها ، قال الشاعر :
وإذا أراد الله نشر فضيلة *** طويت أتاح لها لسان حسود{[12042]}
والحسد في الاثنتين اللتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حسد مستحسن غير ضار : ، وإنما هو باعث على خير{[12043]} .
وهذه السورة خمس آيات ، فقال بعض الحذاق : هي مراد الناس بقولهم للحاسد إذا نظر إليهم : الخمس على عينيك ، وقد غلطت العامة في هذا ، فيشيرون بالأصابع لكونها خمسة .
وأمال أبو عمرو [ حاسد ] ، والباقون يفتحون الحاء ، وقال الحسن بن الفضل : ذكر الله تعالى الشرور في هذه السورة ، ثم ختمها بالحسد ليظهر أنه أخس طبع .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : { وَمِنْ شَرّ حاسِدٍ إذَا حَسَدَ } اختلف أهل التأويل في الحاسد الذي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ حسده به ؛ فقال بعضهم : ذلك كلّ حاسد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيد من شرّ عينه ونفسه ...
وقال آخرون : بل أُمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بهده الآية أن يستعيذ من شرّ اليهود الذين حسدوه ...
وأولى القولين بالصواب في ذلك ، قول من قال : أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ كلّ حاسد إذا حسد ، فعابه أو سحره ، أو بغاه سوءا . وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب ؛ لأن الله عزّ وجلّ لم يخصص من قوله { وَمِنْ شَرّ حاسِدٍ إذَا حَسَدَ } حاسدا دون حاسد ؛ بل عمّ أمرُه إياه بالاستعاذة من شر كلّ حاسد ، فذلك على عمومه .
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{ ومن شر حاسد إذا حسد } أما الحسد فهو تمني زوال نعمة المحسود ، وإن لم يصر للحاسد مثلها ، والمنافسة هي تمني مثلها ، وإن لم تزل ، فالحسد شر مذموم ، والمنافسة رغبة مباحة ... وفي الاستعاذة من شر حاسد إذا حسد وجهان : أحدهما : من شر نفسه وعينه ، فإنه ربما أصاب بها فعان وضر ، والمعيون المصاب بالعين ، ....الثاني : أن يحمله فرط الحسد على إيقاع الشر بالمحسود ، فإنه يتبع المساوئ ، ويطلب العثرات ....
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وفي السورة تعليمُ استدفاع الشرور من الله . ومَنْ صَحَّ توكُّلُه على الله فهو الذي صحَّ تحقُّقُه بالله ، فإذا توكَّلَ لم يُوَفِّقْه اللَّهُ للتوكُّلِ إلاَّ والمعلومُ من حاله أنه يكفيه ما توكَّلَ به عليه ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ إِذَا حَسَدَ } إذا ظهر حسده ، وعمل بمقتضاه : من بغي الغوائل للمحسود ؛ لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره فلا ضرر يعود منه على من حسده ؛ بل هو الضارّ لنفسه لاغتمامه بسرور غيره .
وعن عمر بن عبد العزيز : لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد...
فإن قلت : قوله : { مِن شَرّ مَا خَلَقَ } تعميم في كل ما يستعاذ منه ، فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد ؟ قلت : قد خص شرّ هؤلاء من كلّ شر لخفاء أمره ، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم ، كأنما يغتال به . وقالوا : شر العداة المداجي الذي يكيدك من حيث لا تشعر .
فإن قلت : فلم عرّف بعض المستعاذ منه ، ونكر بعضه ؟ قلت : عرفت النفاثات ؛ لأن كل نفاثة شريرة ، ونكر غاسق ؛ لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر ، إنما يكون في بعض دون بعض ، وكذلك كل حاسد لا يضرّ . ورب حسد محمود ، وهو الحسد في الخيرات . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : « لا حسد إلاّ في اثنتين... »...
من المعلوم أن الحاسد هو الذي تشتد محبته لإزالة نعمة الغير إليه ، ولا يكاد يكون كذلك إلا ولو تمكن من ذلك بالحيل لفعل ، فلذلك أمر الله بالتعوذ منه . وقد دخل في هذه السورة كل شر يتوقى ويتحرز منه دينا ودنيا ، فلذلك لما نزلت فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولها لكونها مع ما يليها جامعة في التعوذ لكل أمر ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والحسد انفعال نفسي إزاء نعمة الله على بعض عباده مع تمني زوالها . وسواء أتبع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ ، أو وقف عند حد الانفعال النفسي ، فإن شرا يمكن أن يعقب هذا الانفعال. . . فإذا حسد الحاسد ، ووجه انفعالا نفسيا معينا إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه لمجرد أن ما لدينا من العلم وأدوات الاختبار ، لا تصل إلى سر هذا الأثر وكيفيته . فنحن لا ندري إلا القليل في هذا الميدان . وهذا القليل يكشف لنا عنه مصادفة في الغالب ، ثم يستقر كحقيقة واقعة بعد ذلك ! فهنا شر يستعاذ منه بالله ، ويستجار منه بحماه والله برحمته وفضله هو الذي يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمته من ورائه إلى الاستعاذة به من هذه الشرور . ومن المقطوع به أنهم متى استعاذوا به - وفق توجيهه - أعاذهم . وحماهم من هذه الشرور إجمالا وتفصيلا . وقد روى البخاري - بإسناده - عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ، ثم نفث فيهما ، وقرأ فيهما ، " قل هو الله أحد " . . و " قل : أعوذ برب الفلق " . . و " قل : أعوذ برب الناس " . . ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات . . وهكذا رواه أصحاب السنن . . .
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } وذلك من خلال الحالة العدوانية التي تعيش في داخل شخصية الحاسد ، فتحوّله إلى إنسان عدوانيّ يعمل على إيقاع الشرّ بالمحسود ، والبغي عليه ... وقيل : إن الشرّ ينطلق من نفس الحاسد في التأثيرات التي تتفاعل في شخصية المحسود من خلال الإشارات التي تنطلق من الحاسد في ما يمكن أن يكون لها من قوّةٍ خفيّةٍ تؤثر في حياة الإنسان المحسود بطريقةٍ مثيرة غير مفهومة من ناحية المقاييس المادية المعروفة للناس ، وقد تكون العين هي التي تثير كل تلك النتائج ، وقد وردت الرواية عن النبي( ص ) بأن العين حقٌّ . ....
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآية تبيّن أنّ الحسد أسوأ الصفات الرذيلة وأحطها ؛ لأنّ القرآن وضعه في مستوى أعمال الحيوانات المتوحشة ، والثعابين اللاسعة ، والشياطين الماكرة . بحوث: 1 ـ أخطر مصادر الشرّ والفساد السّورة تبدأ بأمر النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يستعيذ باللّه من شرّ ما خلق . ثمّ تبيّن ثلاثة أنواع من الشرور كتوضيح للآية : شرّ المهاجمين القساة الذين يتسترون بالليل لشن هجومهم . وشرّ الموسوسين الذين يوهنون بأحابيلهم إرادة الأفراد ، وإيمانهم ، وعقيدتهم ، وأواصر الحبّ والودّ بينهم . وشرّ الحاسدين .
من هذه العبارات المجملة نستطيع أن نستنتج أن أخطر مصادر الشرّ والفساد هي هذه الثلاثة المذكورة في السّورة ، وهذا يستدعي التأمل والتعمق .