{ 1 - 8 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }
يقول تعالى موبخًا عباده عن اشتغالهم عما خلقوا له من عبادته وحده لا شريك له ، ومعرفته ، والإنابة إليه ، وتقديم محبته على كل شيء : { أَلْهَاكُمُ } عن ذلك المذكور { التَّكَاثُرُ } ، ولم يذكر المتكاثر به ، ليشمل ذلك كل ما يتكاثر به المتكاثرون ، ويفتخر به المفتخرون ، من التكاثر في الأموال ، والأولاد ، والأنصار ، والجنود ، والخدم ، والجاه ، وغير ذلك مما يقصد منه مكاثرة كل واحد للآخر ، وليس المقصود به الإخلاص لله تعالى{[1473]} .
سورة التكاثر مكية وآياتها ثمان
هذه السورة ذات إيقاع جليل رهيب عميق وكأنما هي صوت نذير ، قائم على شرف عال . يمد بصوته ويدوي بنبرته . يصيح بنوم غافلين مخمورين سادرين ، أشرفوا على الهاوية وعيونهم مغمضة ، وحسهم مسحور . فهو يمد بصوته إلى أعلى وأبعد ما يبلغ :
( ألهاكم التكاثر . حتى زرتم المقابر ) . .
أيها السادرون المخمورون . أيها اللاهون المتكاثرون بالأموال والأولاد وأعراض الحياة وأنتم مفارقون . أيها المخدوعون بما أنتم فيه عما يليه .
قال الآلوسي أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمونها { المقبرة } اه .
وسميت في معظم المصاحف ومعظم التفاسير { سورة التكاثر } وكذلك عنونها الترمذي في جامعه وهي كذلك معنونة في بعض المصاحف العتيقة بالقيروان .
وسميت في بعض المصاحف { سورة ألهاكم } وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه .
وهي مكية عند الجمهور قال ابن عطية : هي مكية لا أعلم فيها خلافا .
وعن ابن عباس والكلبي ومقاتل : إنها نزلت في مفاخرة جرت بين بني عبد مناف وبني سهم في الإسلام كما يأتي قريبا وكانوا من بطون قريش بمكة ولأن قبور أسلافهم بمكة .
وفي الإتقان : المختار : أنها مدنية . قال : ويدل له ما أخرجه ابن أبي حاتم أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار تفاخروا ، وما أخرجه البخاري عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب . قال أبي : كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت { ألهكم التكاثر } اه . يريد المستدل بهذا أن أبيا أنصاري وأن ظاهر قوله : حتى نزلت { ألهاكم التكاثر } ، أنها نزلت بعد أن كانوا يعدون لو أن لابن آدم واديا من ذهب الخ من القرآن وليس في كلام أبي دليل ناهض إذ يجوز أن يريد بضمير كنا المسلمين ، أي كان من سبق منهم يعد ذلك من القرآن حتى نزلت سورة التكاثر وبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ما كانوا يقولونه ليس بقرآن .
والذي يظهر من معاني السورة وغلظة وعيدها أنها مكية وأن المخاطب بها فريق من المشركين لأن ما ذكر فيها لا يليق بالمسلمين أيامئذ .
وسبب نزولها فيما قال الواحدي والبغوي عن مقاتل والكلبي والقرطبي عنهما وعن ابن عباس : أن بني عبد مناف وبني سهم من قريش تفاخروا فتعادوا السادة والأشراف من أيهم أكثر عددا فكثر بنو عبد مناف بنو سهم بثلاثة أبيات لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بريدة الجرمي قال : نزلت في قبيلتين من الأنصار بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا بالأحياء ثم قالوا : انطلقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول : فيكم مثل فلان ، تشير إلى القبر . ومثل فلان ، وفعل الآخرون مثل ذلك ، فأنزل الله { ألهاكم التكاثر } .
وقد عدت السادسة عشرة في ترتيب نزول السور ، ونزلت بعد سورة الكوثر وقبل سورة الماعون بناء على أنها مكية .
اشتملت على التوبيخ على اللهو عن النظر في دلائل القرآن ودعوة الإسلام بإيثار المال والتكاثر به والتفاخر بالأسلاف وعدم الإقلاع عن ذلك إلى أن يصيروا في القبور كما صار من كان قبلهم وعلى الوعيد على ذلك .
{ ألهاكم } أي شغلكم عما يجب عليكم الاشتغالُ به لأن اللهو شغل يصرف عن تحصيل أمرٍ مهم .
و { التكاثر } : تفاعل في الكثْر أي التباري في الإِكثار من شيء مرغوب في كثرته . فمنه تكاثر في الأموال ، ومنه تكاثر في العَدد من الأولاد والأحلاف للاعتزاز بهم . وقد فسرت الآية بهما قال تعالى : { وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين } [ سبأ : 35 ] .
ولستَ بالأكْثر منهم حَصًى *** وإنما العِزة للكَاثر
روى مسلم عن عبد الله بن الشِّخِّير قال : « انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : { ألهاكم التكاثر } قال : يقول ابنُ آدم مالي مالي ، وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنَيْت أو لَبست فَأَبْلَيْت أو تصدقت فأمضَيْت » فهذا جارٍ مجرى التفسير لمعنى من معاني التكاثر اقتضاه حال الموعظة ساعتئذ وتحتمله الآية .
والخطاب للمشركين بقرينة غلظة الوعيد بقوله : { كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون } وقوله : { لترون الجحيم } [ التكاثر : 6 ] إلى آخر السورة ، ولأن هذا ليس من خُلق المسلمين يومئذ .
والمراد بالخطاب : سادتُهم وأهلُ الثراء منهم لقوله : { ثم لتسئلن يومئذٍ عن النعيم } [ التكاثر : 8 ] ، ولأن سادة المشركين هم الذين آثاروا ما هم فيه من النعمة على التهمّم بتلقي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فتصدَّوا لتكذيبه وإغراء الدهماء بعدم الإِصغاء له . فلم يُذكَر المُلْهَى عنه لظهور أنه القرآن والتدبر فيه ، والإِنصاف بتصديقه . وهذا الإِلهاء حصل منهم وتحقق كما دل عليه حكايته بالفعل الماضي .
وإذا كان الخطاب للمشركين فلأن المسلمين يعلمون أن التلبس بشيء من هذا الخلق مذموم عند الله ، وأنه من خصال أهل الشرك فيعلمون أنهم محذرون من التلبس بشيء من ذلك فيحذرون من أن يُلهيهم حب المال عن شيء من فعل الخير ، ويتوقعون أن يفاجئهم الموت وهم لاهون عن الخير ، قال تعالى يخاطب المؤمنين : { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته } [ الحديد : 20 ] الآية .