فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التكاثر

هي ثماني آيات ، وهي مكية عند الجميع ، وروى البخاري أنها مدنية . قال ابن عباس : نزلت بمكة .

عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم . قالوا : ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم . قال : أما يستطيع أحدكم أن يقرأ { ألهاكم التكاثر } " أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب . قال المنذري : رجال إسناده ثقات ، إلا أن عقبة لا أعرفه .

وعن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " من قرأ في ليلة ألف آية لقي الله وهو ضاحك في وجهه . قيل : يا رسول الله ومن يقوى على ألف آية ، فقرأ : { بسم الله الرحمان الرحيم ألهاكم التكاثر } إلى آخرها ، ثم قال : والذي نفسي بيده إنها لتعدل ألف آية " . أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق والديلمي .

وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عبد الله بن الشخير قال : " انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرأ ألهاكم التكاثر ، وفي لفظ وقد أنزلت عليه ألهاكم التكاثر وهو يقول : " يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مال إلا ما أكلت فأفنيت " ، وأخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة ، ولم يذكر فيه قراءة هذه السورة ، ولا نزولها بلفظ " يقول العبد : مالي مالي ، وإنما له من ماله ثلاثة : ما أكل فأفنى ، وما لبس فأبلى ، وما تصدق فأبقى ، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس " .

وعن جرير بن عبد الله قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني قارئ عليكم سورة ألهاكم التكاثر ، فمن بكى فله الجنة ، فقرأها ، فمنا من بكى ، ومنا من لم يبك ، فقال الذين لم يبكوا : قد جهدنا يا رسول الله أن نبكي فلم نقدر عليه ، فقال : إني قارئها عليكم الثانية ، فمن بكى فله الجنة ، ومن لم يقدر أن يبكي فليتباك " ، أخرجه البيهقي في الشعب وضعفه ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر } أي شغلكم التباري في التكاثر بالأموال والأولاد ، والتباهي والتفاخر بكثرتها عن طاعة الله تعالى والتغالب فيها ، يقال : ألهاه عن كذا وأقهاه إذا شغله ، وقال الحسن : معناه أنساكم حتى أدرككم الموت وأنتم على تلك الحال ، وقال قتادة : إن التكاثر التفاخر بالقبائل والعشائر ، وقال الضحاك : ألهاكم التشاغل بالمعاش ، وقيل : المعنى متم ودفنتم في المقابر ، والمقابر جمع مقبرة . وقال مقاتل وقتادة أيضا وغيرهما : نزلت في اليهود حين قالوا : نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، ألهاهم ذلك حتى ماتوا .

وقال الكلبي : نزلت في حيين من قريش : بني عبد مناف وبني سهم ، تعادوا أو تكاثروا بالسيادة والأشراف في الإسلام ، فقال كل حي منهم : نحن أكثر سيدا ، وأعز عزيزا ، وأعظم نفرا ، وأكثر قائدا ، فكثر بنو عبد مناف بني سهم ، ثم تكاثروا بالأموات فكثرتهم بهم ، فنزلت ( ألهاكم التكاثر ) ، فلم ترضوا حتى زرتم المقابر مفتخرين بالأموات .

وعن أبي بردة في الآية قال : " نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار ، في بني حارثة وبني الحرث ، تفاخروا وتكاثروا ، فقالت إحداهما : فيكم مثل فلان وفلان ، وقال الآخرون مثل ذلك ، تفاخروا بالأحياء ، ثم قالوا : انطلقوا بنا إلى القبور ، فجعلت إحدى الطائفتين تقول : فيكم مثل فلان ، يشيرون إلى القبر ، ومثل فلان ، وفعل الآخرون مثل ذلك ، فأنزل الله هذه الآية " . أي : لقد كان لكم فيما زرتم عبرة وشغل ، أخرجه ابن أبي حاتم{[1737]} .

وفي الآية دليل على أن الاشتغال بالدنيا والمكاثرة بها والمفاخرة فيها من الخصال المذمومة ، والشرع دل على أن التكاثر والتفاخر في السعادات الحقيقية غير مذموم ، فيجوز للإنسان أن يفتخر بطاعاته وحسن أخلاقه إذا كان يظن أن غيره يقتدي به .

وقال سبحانه { ألهاكم التكاثر } ولم يقل : عن كذا ؛ بل أطلقه ؛ لأن الإطلاق أبلغ في الذم ؛ لأنه يذهب فيه الوهم كل مذهب ، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام ؛ لأن حذف المتعلق مشعر بالتعميم كما تقرر في علم البيان .

والمعنى أنه شغلكم التكاثر عن علم كل شيء يجب عليكم الاشتغال به من طاعة الله ، والعمل للآخرة ، وعبر عن موتهم بزيارة المقابر ؛ لأن الميت قد صار إلى قبره كما يصير الزائر إلى الموضع الذي يزوره ، هذا على قول من قال : إن معنى زرتم المقابر متم ، وأما على قول من قال : إن معنى زرتم المقابر ، ذكرتم الموتى وعددتموهم للمفاخرة والمكاثرة فيكون ذلك على طريق التهكم بهم ، وقيل : إنهم كانوا يزورون المقابر ، فيقولون : هذا قبر فلان ، وهذا قبر فلان ، يفتخرون بذلك .


[1737]:روى مسلم في "صحيحه" رقم (2958) عن مطرف عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ{ألهاكم التكاثر}، قال: "يقول ابن آدم: مالي، مالي(قال) وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت". وروى مسلم أيضا رقم(2959) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول العبد: مالي، مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى(ادخره لآخرته) وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس". وروي البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله".