49- وأمرناك - أيها الرسول - بأن تحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع رغباتهم في الحكم ، واحذرهم أن يصرفوك عن بعض ما أنزله الله إليك . فإن أعرضوا عن حكم الله وأرادوا غيره ، فاعلم أن الله إنما يريد أن يصيبهم بفساد أمورهم ، لفساد نفوسهم ، بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها من مخالفة أحكامه وشريعته ، ثم يجازيهم عن كل أعمالهم في الآخرة{[55]} ، وإن كثيراً من الناس لمتمردون على أحكام الشريعة .
قوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } إليك
قوله تعالى : { ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال كعب بن أسيد ، وعبد الله بن صوريا ، وشاس بن قيس ، من رؤساء اليهود بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد ، قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم ، وإنا إن اتبعناك يخالفنا اليهود ، وإن بيننا وبين الناس خصومات فنحاكمهم إليك ، فاقض لنا عليهم نؤمن بك ، ويتبعنا غيرنا . ولم يكن قصدهم الإيمان ، وإنما كان قصدهم التلبيس ودعوته إلى الميل في الحكم ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية .
قوله تعالى : { فإن تولوا } . أي أعرضوا عن الإيمان والحكم بالقرآن .
قوله تعالى : { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } ، أي : فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم .
{ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ْ } هذه الآية هي التي قيل : إنها ناسخة لقوله : { فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ْ }
والصحيح : أنها ليست بناسخة ، وأن تلك الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم مخير بين الحكم بينهم وبين عدمه ، وذلك لعدم قصدهم بالتحاكم للحق . وهذه الآية تدل على أنه إذا حكم ، فإنه يحكم بينهم بما أنزل الله من الكتاب والسنة ، وهو القسط الذي تقدم أن الله قال : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ْ } ودل هذا على بيان القسط ، وأن مادته هو ما شرعه الله من الأحكام ، فإنها المشتملة على غاية العدل والقسط ، وما خالف ذلك فهو جور وظلم .
{ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ْ } كرر النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها . ولأن ذلك في مقام الحكم والفتوى ، وهو أوسع ، وهذا في مقام الحكم وحده ، وكلاهما يلزم فيه أن لا يتبع أهواءهم المخالفة للحق ، ولهذا قال : { وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ْ } أي : إياك والاغترار بهم ، وأن يفتنوك فيصدوك عن بعض ما أنزل [ الله ] إليك ، فصار اتباع أهوائهم سببا موصلا إلى ترك الحق الواجب ، والفرض اتباعه .
{ فَإِن تَوَلَّوْا ْ } عن اتباعك واتباع الحق { فَاعْلَمْ ْ } أن ذلك عقوبة عليهم وأن الله يريد { أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ْ } فإن للذنوب عقوبات عاجلة وآجلة ، ومن أعظم العقوبات أن يبتلى العبد ويزين له ترك اتباع الرسول ، وذلك لفسقه .
{ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ْ } أي : طبيعتهم الفسق والخروج عن طاعة الله واتباع رسوله .
ويعود السياق فيؤكد هذه الحقيقة ، ويزيدها وضوحا . فالنص الأول : ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) . . قد يعني النهي عن ترك شريعة الله كلها إلى أهوائهم ! فالآن يحذره من فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه :
( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) . .
فالتحذير هنا أشد وأدق ؛ وهو تصوير للأمر على حقيقته . . فهي فتنة يجب أن تحذر . . والأمر في هذا المجال لا يعدو أن يكون حكما بما أنزل الله كاملا ؛ أو أن يكون اتباعا للهوى وفتنة يحذر الله منها .
ثم يستمر السياق في تتبع الهواجس والخواطر ؛ فيهون على رسول الله [ ص ] أمرهم إذا لم يعجبهم هذا الاستمساك الكامل بالصغيرة قبل الكبيرة في هذه الشريعة ، وإذا هم تولوا فلم يختاروا الإسلام دينا ؛ أو تولوا عن الاحتكام إلى شريعة الله [ في ذلك الأوان حيث كان هناك تخيير قبل أن يصبح هذا حتما في دار الإسلام ] :
( فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم . وإن كثيرا من الناس لفاسقون )
فإن تولوا فلا عليك منهم ؛ ولا يفتنك هذا عن الاستمساك الكامل بحكم الله وشريعته . ولا تجعل إعراضهم يفت في عضدك أو يحولك عن موقفك . . فإنهم إنما يتولون ويعرضون لأن الله يريد أن يجزيهم على بعض ذنوبهم . فهم الذين سيصيبهم السوء بهذا الإعراض : لا أنت ولا شريعة الله ودينه ؛ ولا الصف المسلم المستمسك بدينه . . ثم إنها طبيعة البشر : ( وإن كثيرا من الناس لفاسقون ) فهم يخرجون وينحرفون . لأنهم هكذا ؛ ولا حيلة لك في هذا الأمر ، ولا ذنب للشريعة ! ولا سبيل لاستقامتهم على الطريق !
وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفس المؤمنة ؛ ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة ؛ لغرض من الأغراض ؛ في ظرف من الظروف . .
{ وأن احكم بينهم بما أنزل الله } عطف على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتاب والحكم ، أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن احكم ، ويجوز أن يكون جملة بتقدير وأمرنا أن أحكم . { ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } أي أن يضلوك ويصرفوك عنه ، وأن بصلته بدل من هم بدل الاشتمال أي احذر فتنتهم ، أو مفعول له أي احذرهم مخافة أن يفتنوك . روي ( أن أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم ، إن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فنزلت . { فإن تولوا } عن الحكم المنزل وأرادوا غيره . { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } يعني ذنب التولي عن حكم الله سبحانه وتعالى ، فعبر عنه بذلك تنبيها على أن لهم ذنوبا كثيرة وهذا مع عظمه واحد منها معدود من جملتها ، وفيه دلالة على التعظيم كما في التنكير ونظيره قول لبيد :
أو يرتبط بعض النفوس حمامها *** . . .
{ وإن كثيرا من الناس لفاسقون } لمتمردون في الكفر معتدون فيه .