107- ومن المنافقين جماعة بنوا مسجدا لا يبتغون به وجه اللَّه ، وإنما يبتغون به الضرار والكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين ، وأنهم سيحلفون على أنهم ما أرادوا ببناء هذا المسجد إلا الخير والعمل الأحسن ، واللَّه يشهد عليهم أنهم كاذبون في أيمانهم{[85]} .
قوله تعالى : { والذين اتخذوا } ، قرأ : أهل المدينة والشام { الذين } بلا واو ، وكذلك هو في مصاحفهم ، وقرأ الآخرون : { والذين } بالواو .
قوله تعالى : { مسجدا ضرارا } ، نزلت هذه الآية في جماعة من المنافقين ، بنوا مسجدا يضارون به مسجد قباء ، وكانوا اثني عشر رجلا من أهل النفاق : وديعة بن ثابت ، وجذام بن خالد ، ومن داره أخرج هذا المسجد ، وثعلبة بن حاطب ، وجارية بن عامر ، وابناه مجمع وزيد ، ومعتب بن قشير ، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، ونبتل بن الحارث ، وبجاد ابن عثمان ، ورجل يقال له : بحزج ، بنوا هذا المسجد ضرارا ، يعني : مضارة للمؤمنين ، { وكفراً } ، بالله ورسوله ، { وتفريقاً بين المؤمنين } ، لأنهم كانوا جميعا يصلون في مسجد قباء ، فبنوا مسجد الضرار ، ليصلي فيه بعضهم ، فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة ، وكان يصلي بهم مجمع بن جارية . فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا وتصلي بنا فيه وتدعو لنا بالبركة ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني على جناح سفر ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه " .
قوله تعالى : { وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل } ، أي : انتظارا وإعدادا لمن حارب الله ورسوله . يقال : أرصدت له : إذا أعددت له . وهو أبو عامر الراهب وكان أبو عامر هذا رجلا منهم ، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة ، وكان قد ترهب في الجاهلية وتنصر ولبس المسوح ، " فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر : ما هذا الذي جئت به ؟ قال : جئت بالحنيفية دين إبراهيم ، قال أبو عامر : فإنا عليها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنك لست عليها ، قال : بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية ، فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمين . وسماه أبا عامر الفاسق " . فلما كان يوم أحد قال أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام فأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح ، وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم ، فأخرج محمدا وأصحابه ، فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء ، فذلك قوله تعالى : { وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله } ، وهو أبو عامر الفاسق ، ليصلي فيه إذا رجع من الشام . قوله : { من قبل } يرجع إلى أبي عامر يعنى حارب الله ورسوله من قبل أي : من قبل بناء مسجد الضرار . { وليحلفن إن أردنا } ، ما أردنا ببنائه ، { إلا الحسنى } ، إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن المسير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . { والله يشهد إنهم لكاذبون } ، في قيلهم وحلفهم . روي أنه لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ونزل بذي أوان موضع قريب من المدينة أتوه فسألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم ، فنزل عليه القرآن وأخبره الله تعالى خبر مسجد الضرار وما هموا به ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ، ومعن بن عدي ، وعامر بن السكن ، ووحشياً قاتل حمزة ، وقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه ، فخرجوا سريعا حتى أتو بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك : انظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي ، فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه نارا ، ثم خرجوا يشتدون ، حتى دخلوا المسجد وفيه أهله ، فحرقوه وهدموه ، وتفرق عنه أهله ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف والنتن والقمامة . ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيدا فريدا غريبا . وروي أن بني عمرو بن عوف ، الذين بنوا مسجد قباء ، أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمهم في مسجدهم ، فقال : لا ، ولا نعمة عين ، أليس بإمام مسجد الضرار ؟ فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين : لا تعجل علي ، فوالله لقد صليت فيه وإني لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، كنت غلاما قارئاً للقرآن ، وكانوا شيوخا لا يقرؤون القرآن فصليت ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله تعالى ، ولم أعلم ما في أنفسهم ، فعذره عمر وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء . قال عطاء : لما فتح على عمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد ، وأمرهم أن لا يبنوا في مدينتهم مسجدين يضار أحدهما صاحبه .
{ 107 - 110 } { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
كان أناس من المنافقين من أهل قباء اتخذوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء ، يريدون به المضارة والمشاقة بين المؤمنين ، ويعدونه لمن يرجونه من المحاربين للّه ورسوله ، يكون لهم حصنا عند الاحتياج إليه ، فبين تعالى خزيهم ، وأظهر سرهم فقال : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا ْ } أي : مضارة للمؤمنين ولمسجدهم الذي يجتمعون فيه { وَكُفْرًا ْ } أي : قصدهم فيه الكفر ، إذا قصد غيرهم الإيمان .
{ وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ْ } أي : ليتشعبوا ويتفرقوا ويختلفوا ، { وَإِرْصَادًا ْ } أي : إعدادا { لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ْ } أي : إعانة للمحاربين للّه ورسوله ، الذين تقدم حرابهم واشتدت عداوتهم ، وذلك كأبي عامر الراهب ، الذي كان من أهل المدينة ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة ، كفر به ، وكان متعبدا في الجاهلية ، فذهب إلى المشركين يستعين بهم على حرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
فلما لم يدرك مطلوبه عندهم ذهب إلى قيصر بزعمه أنه ينصره ، فهلك اللعين في الطريق ، وكان على وعد وممالأة ، هو والمنافقون . فكان مما أعدوا له مسجد الضرار ، فنزل الوحي بذلك ، فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم من يهدمه ويحرقه ، فهدم وحرق ، وصار بعد ذلك مزبلة .
قال تعالى بعدما بين من مقاصدهم الفاسدة في ذلك المسجد { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا ْ } في بنائنا إياه { إِلَّا الْحُسْنَى ْ } أي : الإحسان إلى الضعيف ، والعاجز والضرير .
{ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ْ } فشهادة اللّه عليهم أصدق من حلفهم .
( والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً ، وتفريقاً بين المؤمنين ، وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ، واللّه يشهد إنهم لكاذبون . لا تقم فيه أبدا ، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ، فيه رجال يحبون أن يتطهروا ، واللّه يحب المطهرين . أفمن أسس بنيانه على تقوى من اللّه ورضوان خير ? أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم ? واللّه لا يهدي القوم الظالمين . لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ، إلا أن تَقطع قلوبهم ، واللّه عليم حكيم ) .
وقصة مسجد الضرار قصة بارزة في غزوة تبوك ، لذلك أفرد المنافقون الذين قاموا بها من بين سائر المنافقين ، وخصص لهم حديث مستقل بعد انتهاء الاستعراض العام لطوائف الناس في المجتمع المسلم حينذاك
قال ابن كثير في التفسير : سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول اللّه - [ ص ] - إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب . وكان قد تنصر في الجاهلية . وقرأ علم أهل الكتاب ؛ وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير . فلما قدم رسول اللّه - [ ص ] - مهاجراً إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصارت للإسلام كلمة عالية . وأظهرهم اللّه يوم بدر ، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها ، وخرج فاراً إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول اللّه - [ ص ] - فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام أحد فكان من أمر المسلمين ما كان ، وامتحنهم اللّه عز وجل ، وكانت العاقبة للمتقين . وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول اللّه [ ص ] . وأصيب في ذلك اليوم ، فجرح وجهه ، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى ، وشج رأسه - صلوات اللّه وسلامه عليه - وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم اللّه بك عيناً يا فاسق يا عدو اللّه ! ونالوا منه وسبوه ، فرجع وهو يقول : واللّه لقد أصاب قومي بعدي شر !
وكان رسول اللّه - [ ص ] - قد دعاه إلى اللّه قبل فراره ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرد ، فدعا عليه رسول اللّه - [ ص ] - أن يموت بعيداً طريداً ، فنالته هذه الدعوة . . وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ، ورأى أمر رسول اللّه - [ ص ] - في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي - [ ص ] - فوعده ومناه وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول اللّه - [ ص ] - ويغلبه ، ويرده عما هو فيه ؛ وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ، ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك ؛ فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه قبل خروج رسول اللّه - [ ص ] - إلى تبوك ؛ وجاءوا فسألوا رسول اللّه - [ ص ] - أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ، فيحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته ؛ وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية ! فعصمه اللّه من الصلاة فيه ، فقال : " إنا على سفر ، ولكن إذا رجعنا - إن شاء الله - " فلما قفل - عليه السلام - راجعاً إلى المدينة من تبوك ، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم ، نزل جبريل بخبر مسجد الضرار ، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم - مسجد قباء - الذي أسس من أول يوم على التقوى . فبعث رسول اللّه - [ ص ] - إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة . . [ وكذلك روى - بإسناده - عن ابن عباس وعن سعيد بن جبير ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة ] .
فهذا هو مسجد الضرار الذي أمر اللّه رسوله - [ ص ] - ألا يقوم فيه ، وأن يقوم في المسجد الأول - مسجد قباء - الذي أقيم على التقوى من أول يوم ، والذي يضم رجالاً يحبون أن يتطهروا . ( واللّه يحب المطهرين ) . .
هذا المسجد - مسجد الضرار - الذي اتخذ على عهد رسول اللّه - [ ص ] - مكيدة للإسلام والمسلمين ، لا يراد به إلا الإضرار بالمسلمين ، وإلا الكفر باللّه ، وإلا ستر المتآمرين على الجماعة المسلمة ، الكائدين لها في الظلام ، وإلا التعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين . .
هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين . تتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام وباطنه لسحق الإسلام ، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه ! وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتترس وراءها وهي ترمي هذا الدين ! وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق ، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب إلى أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق ! . . . وتتخذ في صور شتى كثيرة . .
ومن أجل مساجد الضرار الكثيرة هذه يتحتم كشفها وإنزال اللافتات الخادعة عنها ؛ وبيان حقيقتها للناس وما تخفيه وراءها . ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد رسول اللّه - [ ص ] - بذلك البيان القوي الصريح :
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا ، وكفراً ، وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله من قبل . وليحلفن : إن أردنا إلا الحسنى ، واللّه يشهد إنهم لكاذبون .
سبب نزول هذه الآيات{[13833]} الكريمات : أنه كان بالمدينة قبل مَقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له : " أبو عامر الراهبُ " ، وكان قد تَنَصَّر في الجاهلية وقرأ علْم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير . فلما قَدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصارت للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، شَرِق اللعين أبو عامر بريقه ، وبارز بالعداوة ، وظاهر بها ، وخرج فارًّا إلى كفار مكة من مشركي قريش فألَّبهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام أحد ، فكان من أمر المسلمين ما كان ، وامتحنهم الله ، وكانت العاقبة للمتقين{[13834]} . وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصيب ذلك اليوم ، فجرح في وجهه وكُسِرت ربَاعِيتُه اليمنى السفلى ، وشُجَّ رأسه ، صلوات الله وسلامه عليه .
وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار ، فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله ، ونالوا منه وسبُّوه . فرجع وهو يقول : والله لقد أصاب قومي بعدي شَر . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرَّد ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدًا طريدًا ، فنالته هذه الدعوة .
وذلك أنه لما فرغ الناس{[13835]} من أحد ، ورأى أمر الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه{[13836]} في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ، ملك الروم ، يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم ، فوعده ومَنَّاه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويُمنَّيهم أنه سيقدمُ بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وأمرهم أن يتخذوا له مَعقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كُتُبه ويكونَ مرصدًا له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ، ليحتجوا بصلاته ، عليه السلام ، فيه على تقريره وإثباته ، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية ، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال : " إنا على سفر ، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله " .
فلما قفل ، عليه السلام{[13837]} راجعًا إلى المدينة من تبوك ، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم ، نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضِّرار ، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء ، الذي أسس من أول يوم على التقوى . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هَدَمه قبل مقدمه المدينة ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا [ وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ] }{[13838]} وهم أناس من الأنصار ، ابتنوا مسجدًا ، فقال لهم أبو عامر ، ابنوا مسجدًا واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم ، فآتي بجند من الروم وأخرج محمدًا وأصحابه . فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا ، فنحب{[13839]} أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة . فأنزل الله ، عز وجل : { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } إلى { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
وكذا رُوي عن سعيد بن جُبير ، ومجاهد ، وعروة بن الزبير ، وقتادة وغير واحد من العلماء .
وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار ، عن الزهري ، ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن عُمَر بن قتادة وغيرهم ، قالوا : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني : من تبوك - حتى نزل بذي أوان - بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار - وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة ، والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه . فقال : " إني على جناح سَفر وحال شُغل - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه " . فلما نزل بذي أوان أتاه خبرُ المسجد ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخْشُم أخا بني سالم بن عوف ، ومعن بن عدي - أو : أخاه عامر بن عدي - أخا بلعجلان فقال : " انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه " . فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدّخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي . فدخل أهله فأخذ سَعَفا من النخل ، فأشعل فيه نارًا ، ثم خرجا يَشتدَّان حتى دخلا المسجد وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه . ونزل فيهم من القرآن ما نزل : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا } إلى آخر القصة . وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا خذام بن خالد ، من بني عُبَيد بن زيد ، أحد{[13840]} بني عمرو بن عوف ، ومن داره أخرج مسجد الشقاق ، وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وهو إلى بني أمية بن زيد ، ومعتِّب بن قُشير ، من [ بني ]{[13841]} ضُبَيعة بن زيد ، وأبو حبيبة بن الأذعر ، من بني ضُبَيعة بن زيد ، وعَبَّاد بن حُنَيف ، أخو سهل بن حنيف ، من بني عمرو بن عوف ، وجارية بن عامر ، وابناه : مُجَمِّع بن جارية ، وزيد بن جارية ونَبْتَل [ بن ]{[13842]} الحارث ، وهم من بني ضبيعة ، وبحزج وهو من بني ضبيعة ، وبجاد بن عُثمان وهو من بني ضُبَيعة ، [ ووديعة بن ثابت ، وهو إلى بني أمية ]{[13843]} رهط أبي لبابة بن عبد المنذر{[13844]} .
وقوله : { وَلَيَحْلِفُنَّ } أي : الذين بنوه { إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى } أي : ما أردناه ببنيانه إلا خيرًا ورفقًا بالناس ، قال الله تعالى : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : فيما قصدوا وفيما نوَوا ، وإنما بنوه ضِرارا لمسجد قُباء ، وكفرا بالله ، وتفريقًا بين المؤمنين ، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله ، وهو أبو عامر الفاسق ، الذي يقال له : " الراهب " لعنه الله .
وقوله : { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } نهي من الله لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، والأمة تَبَع له في ذلك ، عن أن يقوم فيه ، أي : يصلي فيه أبدا .
ثم حثه على الصلاة في مسجد قُباء الذي أسس من أول يوم بنائه على التقوى ، وهي طاعة الله ، وطاعة رسوله ، وجمعا لكلمة المؤمنين ومَعقلا وموئلا للإسلام وأهله ؛ ولهذا قال تعالى : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ } والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء ؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة في مسجد قُباء كعُمرة " {[13845]} . وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزورُ مسجد قُباء راكبًا وماشيًا{[13846]} وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف ، كان جبريل هو الذي عَيَّن له جِهَة القبلة{[13847]} فالله أعلم .
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن يونس بن الحارث ، عن إبراهيم بن أبي ميمونة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نزلت هذه الآية في أهل قباء : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } قال : كانوا يستنجون بالماء ، فنزلت فيهم الآية .
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث يونس بن الحارث ، وهو ضعيف ، وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه .
وقال الطبراني : حدثنا الحسن بن علي المعمري ، حدثنا محمد بن حميد الرازي ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عُوَيم بن ساعدة فقال : " ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم ؟ " . فقال : يا رسول الله ، ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه - أو قال : مقعدته - فقال النبي صلى الله عليه وسلم . " هو هذا " . {[13848]} وقال الإمام أحمد : حدثنا حُسَين بن محمد ، حدثنا أبو أويس ، حدثنا شرحبيل ، عن عُوَيم بن ساعدة الأنصاري : أنه حَدّثه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قُباء ، فقال : " إن الله تعالى قد أحسن [ عليكم الثناء ]{[13849]} في الطَّهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ " فقالوا : والله - يا رسول الله - ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود ، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط ، فغسلنا كما غسلوا .
ورواه ابن خُزيمة في صحيحه . {[13850]}
وقال هُشَيْم ، عن عبد الحميد المدني ، عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعُوَيم بن ساعدة . " ما هذا الذي أثنى الله عليكم : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } قالوا : يا رسول الله ، إنا نغسل الأدبار بالماء . {[13851]} وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عُمارة الأسدي ، حدثنا محمد بن سعد ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، عن شرحبيل بن سعد قال : سمعت خُزَيمة بن ثابت يقول : نزلت هذه الآية : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } قال : كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط . {[13852]} حديث آخر : قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا مالك - يعني : ابن مغْوَل - سمعت سيارا أبا الحكم ، عن شهر بن حوشب ، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال : لما{[13853]} قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني : قباء ، فقال : " إن الله ، عز وجل ، قد أثنى عليكم في الطهور خيرًا ، أفلا تخبروني ؟ " . يعني : قوله تعالى : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } فقالوا : يا رسول الله ، إنا نجده مكتوبًا علينا في التوراة : الاستنجاءُ بالماء . {[13854]} وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف ، رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . ورواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة بن الزبير . وقاله عطية العوفي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، والشعبي ، والحسن البصري ، ونقله البغوي عن سعيد بن جُبَير ، وقتادة .
وقد ورد في الحديث الصحيح : أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو في جوف المدينة ، هو المسجد الذي أسس على التقوى . وهذا صحيح . ولا منافاة بين الآية وبين هذا ؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى ؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده :
حدثنا أبو نُعيم ، حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سهل بن سعد ، عن أبيّ بن كعب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا " . تفرد به أحمد . {[13855]} حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا ربيعة بن عثمان التيمي ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سهل بن سعد الساعدي قال : اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسِّسَ على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد رسول الله{[13856]} صلى الله عليه وسلم . وقال الآخر : هو مسجد قباء .
فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه ، فقال : " هو مسجدي هذا " {[13857]} تفرد به أحمد أيضا .
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ليث ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سعيد بن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد قباء ، وقال الآخر : هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هو مسجدي هذا " {[13858]} تفرد به أحمد .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا ليث ، حدثني عمران بن أبي أنس ، عن ابن أبي سعيد ، عن أبيه أنه قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال رجل : هو مسجد قباء ، وقال الآخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو مسجدي " .
وكذا رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة ، عن الليث{[13859]} وصححه الترمذي ، ورواه مسلم كما سيأتي .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا يحيى ، عن أُنَيْس بن أبي يحيى ، حدثني أبي قال : سمعت أبا سعيد الخدري قال : اختلف رجلان : رجل من بني خَدْرة ، ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال الخدري : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال العَمْري : هو مسجد قباء ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك ، فقال : " هو هذا المسجد " لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : " في ذاك [ خير كثير ]{[13860]} يعني : مسجد قباء{[13861]} . طريق أخرى : قال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد - حدثنا حميد الخراط المدني ، سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن أبي سعيد{[13862]} فقلت : كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى ؟ فقال أبي : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه في بيت لبعض نسائه ، فقلت : يا رسول الله ، أين المسجد{[13863]} الذي أسس على التقوى ؟ قال : فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض ، ثم قال : " هو مسجدكم هذا " . ثم قال : [ فقلتُ له : هكذا ]{[13864]} سمعتَ أباك يذكره ؟ .
رواه مسلم منفردًا به عن محمد بن حاتم ، عن يحيى بن سعيد ، به{[13865]} ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره ، عن حاتم بن إسماعيل ، عن حميد الخراط ، به{[13866]} . وقد قال بأنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من السلف والخلف ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وزيد بن ثابت ، وسعيد بن المسيب . واختاره ابن جرير .
وقوله : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له ، وعلى استحباب الصلاة مع جماعة الصالحين ، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء ، والتنزه عن{[13867]} ملابسة القاذورات .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، سمعت شبيبا أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى بهم الصبح فقرأ بهم{[13868]} الروم فأوهم ، فلما انصرف قال : " إنه يلبس علينا القرآن ، إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء " .
ثم رواه من طريقين آخرين ، عن عبد الملك بن عمير ، عن شبيب أبي روح من ذي الكَلاع : أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره{[13869]} فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ، ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها .
وقال أبو العالية في قوله تعالى : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } إن الطهور بالماء لحسن ، ولكنهم المطهرون من الذنوب .
وقال الأعمش : التوبة من الذنب ، والتطهير من الشرك .
وقد ورد في الحديث المروي من طرق ، في السنن وغيرها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء : " قد أثنى الله عليكم في الطهور ، فماذا تصنعون ؟ " فقالوا : نستنجي بالماء .
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب ، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز قال : وجدته في كتاب أبي ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء . { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نُتْبِعُ الحجارة الماء .
ثم قال : تفرد به محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، ولم يرو عنه سوى ابنه{[13870]} .
قلت : وإنما ذكرته بهذا اللفظ لأنه مشهور بين الفقهاء{[13871]} ولم يعرفه كثير من المحدّثين المتأخرين ، أو كلهم ، والله أعلم .
وقرأ عاصم وعوام القراء والناس في كل قطر إلا بالمدينة «والذين اتخذوا » ، وقرأ أهل المدينة نافع وأبو جعفر وشيبة وغيرهم «الذين اتخذوا » بإسقاط الواو ، وكذلك في مصحفهم ، قاله أبو حاتم ، وقال الزهراوي : وهي قراءة ابن عامر وهي في مصاحف أهل الشام بغير واو ، فأما من قرأ بالواو فذلك عطف على قوله { وآخرون } أي ومنهم الذين اتخذوا ، وأما من قرأ بإسقاطها فرفع { الذين } بالابتداء .
واختلف في الخبر فقيل الخبر { لا تقم فيه أبداً } [ التوبة : 108 ] قاله الكسائي ، ويتجه بإضمار إما في أول الآية وإما في آخرها ، بتقدير : لا تقم في مسجدهم ، وقيل : الخبر لا يزال بنيانهم قاله النحاس وهذا أفصح ، وقد ذكرت كون { الذين } بدلاً من ، { آخرون } ، آنفاً ، وقال المهدوي : الخبر محذوف تقديره معذبون{[5884]} أو نحوه ، وأما الجماعة المرادة ب { الذين اتخذوا } ، فهم منافقو بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف ، وأسند الطبري عن ابن إسحاق عن الزهري وغيره أنه قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنَّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ، وإنَّا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه ، فقال إني على جناح سفر وحال شغل ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه ، فلما أقبل ونزل بذي أوان نزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي ، فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه ، فانطلقا مسرعين ففعلا وحرقاه بنار في سعف{[5885]} ، وذكر النقاش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث لهدمه وتحريقه عمار بن ياسر ووحشياً مولى المطعم بن عدي{[5886]} ، وكان بانوه اثني عشر رجلاً ، خذام بن خالد ، ومن داره أخرج مسجد الشقاق{[5887]} وثعلبة بن حاطب{[5888]} ومتعب بن قشير ، وأبو حبيبة بن الأزعر{[5889]} وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف ، وجارية بن عمرو{[5890]} وابناه مجمع بن جارية وهو كان إمامهم ، وحلف لعمر بن الخطاب في خلافته أنه لم يشعر بأمرهم وزيد بن جارية ونبتل بن الحارث ، ويخرج وهو من بني ضبيعة{[5891]} وبجاد بن عثمان{[5892]} ووديعة بن ثابت ويخرج منهم هو الذي حلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أردت إلا الحسنى » والتوسعة علينا وعلى من عجز أو ضعف عن المسير إلى مسجد قباء ، وقرأ ابن أبي عبلة «ما أردنا إلا الحسنى » ، والآية تقتضي شرح شيء من أمر هذه المساجد ، فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وقت الهجرة بنى مسجداً في بني عمرو بن عوف وهو مسجد قباء ، وقيل وجده مبنياً قبل وروده ، وقيل وجده موضع صلاة فبناه وتشرف القوم بذلك ، فحسدهم من حينئذ رجال من بني عمهم من بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف ، فكان فيهم نفاق ، وكان موضع مسجد قباء مربطاً لحمار امرأة من الأنصار اسمها لية ، فكان المنافقون يقولون والله لا نصبر على الصلاة في مربط حمار لية ونحو هذا من الأقوال ، وكان أبو عامر عبد عمرو المعروف بالراهب منهم ، وكانت أمه من الروم فكان يتعبد في الجاهلية فسمي الراهب ، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان سيداً نظيراً{[5893]} وقريباً من عبد الله بن أبي ابن سلول ، فلما جاء الله بالاسلام نافق ولم يزل مجاهراً بذلك فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق ، ثم خرج في جماعة من المنافقين فحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحزاب ، فلما ردهم الله بغيظهم أقام أبو عامر بمكة مظهراً لعداوته ، فلما فتح الله مكة هرب إلى الطائف .
فلما أسلم أهل الطائف خرج هارباً إلى الشام يريد قيصر مستنصراً به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتب إلى قومه المنافقين منهم أن ابنوا مسجداً مقاومة لمسجد قباء وتحقيراً له ، فإني سآتي بجيش من الروم أخرج به محمداً وأصحابه من المدينة فبنوه ، وقالوا سيأتي أبو عامر ويصلي فيه ويتخذه متعبداً ويسر به ، ثم إن أبا عامر هلك عند قيصر ونزل القرآن في أمر مسجد الضرار فذلك قوله { وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله } يعني أبا عامر وقولهم سيأتي أبو عامر ، وقرأ الأعمش «للذين حاربوا الله » وقوله { ضراراً } أي داعية للتضار من جماعتين فلذلك قال { ضراراً } وهو في الأكثر مصدر ما يكون من اثنين وإن كان المصدر الملازم لذلك مفاعلة كما قال سيبويه{[5894]} ، ونصب «ضرار » وما بعده على الصدر في موضع الحال ، ويجوز أن يكون على المفعول من أجله ، وقوله { بين المؤمنين } يريد بين الجماعة التي كانت تصلي في مسجد قباء فإن من جاوز مسجدهم كانوا يصرفونه إليه وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان ، وقيل أراد بقوله { بين المؤمنين } جماعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا بحسب الخلاف في المسجد المؤسس على التقوى وسيأتي ذلك ، قال النقاش يلزم من هذا أن لا يصلى في كنيسة ونحوها لأنها بنيت على شر من هذا كله وقد قيل في هذا لا تقم فيه أبداً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تفقه غير قوي{[5895]} ، و «الإرصاد » الإعداد والتهيئة ، والذي حارب الله ورسوله هو أبو عامر الفاسق ، وقوله { من قبل } يريد في غزوة الأحزاب وغيرها ، والحالف المراد في قوله { ليحلفن } هو يخرج ومن حلف من أصحابه ، وكسرت الألف من قوله { إنهم لكاذبون } لأن الشهادة في معنى القول ، وأسند الطبري عن شقيق{[5896]} أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة{[5897]} فوجد الصلاة قد فاتته فقيل له إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد ، فقال : لا أحب أن أصلي فيه فإنه بني على ضرار وكل مسجد بني ضراراً ورياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار ، وروي أن مسجد الضرار لما هدم وأحرق اتخذ مزبلة ترمى فيه الأقذار والقمامات .
هذا كلام على فريق آخر من المؤاخَذين بأعمال عملوها غضب الله عليهم من أجلها ، وهم فريق من المنافقين بنوا مسجداً حول قباء لغرض سيء لينصرف إخوانهم عن مسجد المؤمنين وينفردوا معهم بمسجد يخصهم .
فالجملة مستأنفة ابتدائية على قراءة من قرأها غيرَ مفتتحة بواو العطف ، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر . ونكتة الاستئناف هنا التنبيه على الاختلاف بين حال المراد بها وبين حال المراد بالجملة التي قبلها وهم المرجون لأمر الله . وقرأها البقية بواو العطف في أولها ، فتكون معطوفةً على التي قبلها لأنها مثلها في ذكر فريق آخر مثل مَن ذكر فيما قبلها . وعلى كلتا القراءتين فالكلام جملة أثر جملة وليس ما بعد الواو عطف مفرد .
وقوله { الذين } مبتدأ وخبره جملة : { لا تقم فيه أبداً } كما قاله الكسائي . والرابط هو الضمير المجرور من قوله : { لا تقم فيه } لأن ذلك الضمير عائد إلى المسجد وهو مفعولُ صلةِ الموصول فهو سببي للمبتدأ ، إذ التقدير : لا تقم في مسجد اتخذوه ضراراً ، أو في مسجدهم ، كما قدره الكسائي . ومن أعربوا { أفمن أسس بنيانه } [ التوبة : 109 ] خبراً فقد بعدوا عن المعنى .
والآية أشارت إلى قصة اتخاذ المنافقين مسجداً قُرب مسجد قُباء لقصد الضرار ، وهم طائفة من بني غُنْم بن عَوف وبني سالم بن عَوف من أهل العوالي . كانوا اثني عشر رجلاً سماهم ابن عطية . وكان سبب بنائهم إيَّاه أن أبا عامر واسمه عبد عمرو ، ويلقب بالراهب من بني غنم بن عوف كان قد تنصر في الجاهلية فلما جاء الإسلام كان من المنافقين . ثم جاهر بالعداوة وخرج في جماعة من المنافقين فحزَّب الأحزاب التي حاصرت المدينة في وقعة الخندق فلما هزمهم الله أقام أبو عامر بمكة . ولما فتحت مكة هرب إلى الطائف ، فلما فتحت الطائف وأسلمت ثقيف خرج أبو عامر إلى الشام يستنصر بقيصر ، وكتب إلى المنافقين من قومه يأمرهم بأن يبنوا مسجداً ليخلصوا فيه بأنفسهم ، ويعِدهم أنه سيأتي في جيش من الروم ويخرج المسلمين من المدينة . فانتدب لذلك اثنا عشر رجلاً من المنافقين بعضهم من بني عمرو بن عوف وبعضهم من أحلافهم من بني ضبيعَة بن زيد وغيرهم ، فبنوه بجانب مسجد قباء ، وذلك قُبيل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تَبوك . وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه . فلما قفل من غزوة تبوك سألوه أن يأتي مسجدهم فأنزل الله هذه الآية ، وحلفوا أنهم ما أرادوا به إلا خيراً .
والضرار : مصدر ضار مبالغة في ضر ، أي ضِراراً لأهل الإسلام . والتفريق بين المؤمنين هو ما قصدوه من صرف بني غُنم وبني سالم عن قباء .
والإرصاد : التهيئة . والمراد بمن حارب الله ورسوله أبو عامر الراهب ، لأنه حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب وحاربه مع ثقيف وهوازنَ ، فقوله : { من قبلُ } إشارة إلى ذلك ، أي من قبل بناء المسجد .
وجملة : { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } معترضة ، أو في موضع الحال . والحسنى : الخير .