قوله تعالى : { وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال } . قال الحسن : هو يوم بدر ، وقال مقاتل : يوم الأحزاب ، وقال سائر المفسرين : هو يوم أحد ، وقال مجاهد والكلبي والواقدي : غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة رضي الله عنها يمشي على رجليه إلى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال كما يقوم القدح . قال محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما :إن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول -ولم يدعه قط قبلها-فاستشاره ، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار : يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم ، فو الله ما خرجنا إلى عدو قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا ؟ فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين . فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي . وقال بعض أصحابه : يا رسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب ، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أني رأيت في منامي بقراً مذبوحة فأولتها خيراً ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولتها هزيمةً ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة - وكان يعجبه أن يدخلوا عليه بالمدينة- فيقاتلوا في الأزقة . فقال رجال من المسلمين ممن فاتهم يوم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد ، اخرج بنا إلى أعدائنا ، فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من حبهم للقاء القوم ، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته ، فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا ، وقالوا : بئس ما صنعنا ، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه ! فقاموا واعتذروا إليه وقالوا : اصنع ما رأيت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل ، وكان قد أقام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس ، فراح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعدما صلى بأصحابه الجمعة ، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إليهم ، فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة فكان من حرب أحد ما كان فذلك قوله تعالى( وإذ غدوت من أهلك ) أي واذكر إذا غدوت من اهلك تبوىء : تنزل المؤمنين مقاعد للقتال : أي مواطن ومواضع للقتال ، يقال بوأت القوم إذا وطنتهم ، وتبوؤوا هم إذا تواطئوا قال الله تعالى( ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ) وقال ( أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا ) وقيل تتخذ معسكراً .
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
هذه الآيات نزلت في وقعة " أُحد " وقصتها مشهورة في السير والتواريخ ، ولعل الحكمة في ذكرها في هذا الموضع ، وأدخل في أثنائها وقعة " بدر " لما أن الله تعالى قد وعد المؤمنين أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم ، ورد كيد الأعداء عنهم ، وكان هذا حكما عاما ووعدا صادقا لا يتخلف مع الإتيان بشرطه ، فذكر نموذجا من هذا في هاتين القصتين ، وأن الله نصر المؤمنين في " بدر " لما صبروا واتقوا ، وأدال عليهم العدو لما صدر من بعضهم من الإخلال بالتقوى ما صدر ، ومن حكمة الجمع بين القصتين أن الله يحب من عباده إذا أصابهم ما يكرهون أن يتذكروا ما يحبون ، فيخف عنهم البلاء ويشكروا الله على نعمه العظيمة التي إذا قوبلت بما ينالهم من المكروه الذي هو في الحقيقة خير لهم ، كان المكروه بالنسبة إلى المحبوب نزرا يسيرا ، وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة في قوله { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } وحاصل قضية " أحد " وإجمالها أن المشركين لما رجع فلهم من " بدر " إلى مكة ، وذلك في سنة اثنتين من الهجرة ، استعدوا بكل ما يقدرون عليه من العدد بالأموال والرجال والعدد ، حتى اجتمع عندهم من ذلك ما جزموا بحصول غرضهم وشفاء غيظهم ، ثم وجهوا من مكة للمدينة في ثلاثة آلاف مقاتل ، حتى نزلوا قرب المدينة ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم هو وأصحابه بعد المراجعة والمشاورة حتى استقر رأيهم على الخروج ، وخرج في ألف ، فلما ساروا قليلا رجع عبد الله بن أبي المنافق بثلث الجيش ممن هو على مثل طريقته ، وهمت طائفتان من المؤمنين أن يرجعوا وهم بنو سلمة وبنو حارثة فثبتهم الله ، فلما وصلوا إلى أحد رتبهم النبي صلى الله عليه وسلم في مواضعهم وأسندوا ظهورهم إلى أحد ، ورتب النبي صلى الله عليه وسلم خمسين رجلا من أصحابه في خلة في جبل " أحد " وأمرهم أن يلزموا مكانهم ولا يبرحوا منه ليأمنوا أن يأتيهم أحد من ظهورهم ، فلما التقى المسلمون والمشركون انهزم المشركون هزيمة قبيحة وخلفوا معسكرهم خلف ظهورهم ، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ، فلما رآهم الرماة الذين جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجبل ، قال بعضهم لبعض : الغنيمة الغنيمة ، ما يقعدنا هاهنا والمشركون قد انهزموا ، ووعظهم أميرهم عبد الله بن جبير عن المعصية فلم يلتفتوا إليه ، فلما أخلوا موضعهم فلم يبق فيه إلا نفر يسير ، منهم أميرهم عبد الله بن جبير ، جاءت خيل المشركين من ذلك الموضع واستدبرت المسلمين وقاتلت ساقتهم ، فجال المسلمون جولة ابتلاهم الله بها وكفر بها عنهم ، وأذاقهم فيها عقوبة المخالفة ، فحصل ما حصل من قتل من قتل منهم ، ثم إنهم انحازوا إلى رأس جبل " أحد " وكف الله عنهم أيدي المشركين وانكفأوا إلى بلادهم ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة قال الله تعالى { وإذ غدوت من أهلك } والغدو هاهنا مطلق الخروج ، ليس المراد به الخروج في أول النهار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يخرجوا إلا بعدما صلوا الجمعة { تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } أي : تنزلهم وترتبهم كل في مقعده اللائق به ، وفيها أعظم مدح للنبي صلى الله عليه وسلم حيث هو الذي يباشر تدبيرهم وإقامتهم في مقاعد القتال ، وما ذاك إلا لكمال علمه ورأيه ، وسداد نظره وعلو همته ، حيث يباشر هذه الأمور بنفسه وشجاعته الكاملة صلوات الله وسلامه عليه { والله سميع } لجميع المسموعات ، ومنه أنه يسمع ما يقول المؤمنون والمنافقون كل يتكلم بحسب ما في قلبه { عليم } بنيات العبيد ، فيجازيهم عليها أتم الجزاء ، وأيضا فالله سميع عليم بكم ، يكلؤكم ، ويتولى تدبير أموركم ، ويؤيدكم بنصره كما قال تعالى لموسى وهارون { إنني معكما أسمع وأرى } .
( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ، والله سميع عليم . إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ، والله وليهما ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . .
هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره - وقد كان قريبا من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم . ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو ، واستحضار المشهد الأول بهذا النص ، من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته ؛ وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور - الذي يعرفونه - من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور . وأولها حقيقة حضور الله - سبحانه - معهم ، وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم . وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الإسلامي . وهي هي الحقيقة الأساسية الكبيرة ، التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي . والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي ، بكل تكاليفه ، إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها ، وبكل حيويتها كذلك :
( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال . . والله سميع عليم . . ) . .
والإشارة هنا إلى غدو النبي [ ص ] من بيت عائشة - رضي الله عنها - وقد لبس لأمته ودرعه ؛ بعد التشاور في الأمر ، وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها . وما أعقب هذا من تنظيم الرسول [ ص ] للصفوف ، ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل . . وهو مشهد يعرفونه ، وموقف يتذكرونه . . ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه :
ويا له من مشهد ، الله حاضره ! ويا له من موقف ، الله شاهده ! ويا لها من رهبة إذن ومن روعة تحف به ، وتخالط كل ما دار فيه من تشاور . والسرائر مكشوفة فيه لله . وهو يسمع ما تقوله الألسنة ويعلم ما تهمس به الضمائر .
ثم شَرَعَ تعالى في ذكر قصة أحد ، وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين ، والتمييز بين المؤمنين والمنافقين ، وبيان صَبْر الصابرين ، فقال تعالى :
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
المرادُ بهذه الوقعة يوم أُحُد عند الجمهور ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، وغير واحد . وعن الحسن البصري : المراد بذلك يوم الأحزاب . رواه ابن جرير ، وهو غريب لا يُعَوَّل{[5612]} عليه .
وكانت وقعةُ أحد يومَ السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة . قال [ قتادة ]{[5613]} لإحدى عشرة ليلة خَلَتْ من شَوَّال . وقال عِكْرِمة : يوم السبت للنصف من شوال ، فالله أعلم .
وكان سببها أن المشركين حين قُتل من قتل من أشرافهم يوْمَ بَدْر ، وسَلمَت العيرُ بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سُفْيان ، فلما رجع قفَلُهُم{[5614]} إلى مكة قال أبناء من قُتل ، ورؤساء من بقي لأبي سفيان : ارصد هذه الأموال لقتال محمد ، فأنفقوها في ذلك ، وجمعوا الجموع والأحابيش وأقبلوا في قريب من ثلاثة آلاف ، حتى نزلوا قريبًا من أحد تِلْقاء المدينة ، فصلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الجمعة ، فلما فَرَغَ منها صَلى على رجل من بني النجار ، يقال له : مالك بن عَمْرو ، واستشار{[5615]} الناس : أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة ؟ فأشار عبد الله بن أُبيّ بالمقام بالمدينة ، فإن أقاموا أقاموا بشِرِّ مَحْبس{[5616]} وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين . وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدرا بالخروج إليهم ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمَتَه وخرج عليهم ، وقد نَدم بعضهم وقالوا : لعلنا استكرَهْنَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن شئت أن نمكث ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لأمَتَه أنْ يَرْجِعَ حَتى يَحْكُمَ اللهُ لَه " .
فسار ، عليه السلام{[5617]} في ألف من أصحابه ، فلما كان بالشَّوط رجع عبد الله بن أبيّ في ثُلُث الجيش مُغْضَبا ؛ لكونه لم يرجع إلى قوله ، وقال هو وأصحابه : لو نعلم اليوم قتالا لاتبعناكم ، ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم .
واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا حتى نزل الشِّعْب من أُحُد في عَدْوَةِ الوادي . وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال : " لا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حتى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ " .
وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه ، وأمَّر على الرماة عبد الله بن جُبَيْر أخا بني عَمْرو بن عوف ، والرماة يومئذ خمسون رجلا فقال لهم : " انْضَحُوا الخَيْلَ عَنَّا ، وَلا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكُمْ . والْزَمُوا مَكَانَكُمْ إنْ كَانَتِ النَّوْبَةُ لَنَا أوْعَلَيْنَا ، وإنْ رَأيْتُمُونَا تَخَطَّفُنا الطَّيْرُ فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ " .
وظاهر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين درعين ، وأعطى اللواء مُصْعَب بن عُمَير أخا بني عبد الدار . وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الغِلْمان يومئذ وأرجأ آخرين ، حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين .
وتعبَّأت قريش وهم ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فَرَس قد جَنَبوها {[5618]}فجعلوا على مَيْمَنة الخيل خالد بن الوليد : وعلى الميسرة عِكْرِمة بن أبي جَهْل ، ودفعوا إلى بني عبد الدار اللواء . ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في مواضعه عند هذه الآيات ، إن شاء الله تعالى .
ولهذا قال تعالى : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أي : بَيّن لهم منازلهم ونجعلهم{[5619]} مَيْمَنة ومَيْسَرة وحيث أمرتهم { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع لما تقولون ، عليم بضمائركم .
وقد أورد ابن جرير هاهنا سؤالا حاصله : كيف يقولونَ : إن النبي صلى الله عليه وسلم سار{[5620]} إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة ، وقد قال الله [ تعالى ]{[5621]} { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } ؟ ثم كان جوابه عنه : أن غدوه ليبوئهم{[5622]} مقاعد ، إنما كان يوم السبت أول النهار .
ذهب الطبري رحمه الله إلى أن هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من الآيات والظاهر أنها استقبال أمر آخر ، لأن تلك مقاولة في شأن منافقي اليهود ، وهذا ابتداء عتب المؤمنين في أمر أحد ، فالعامل في { إذ } فعل مضمر تقديره واذكر ، وقال الحسن : هذا الغدو المذكور في هذه الآية «لتبويء المؤمنين » الذي كان في غزوة الأحزاب .
قال القاضي أبو محمد : وخالفه الناس ، والجمهور على أن ذلك كان في غزوة أحد ، وفيها نزلت هذه الآيات كلها ، وكان من أمر غزوة أحد أن المشركين اجتمعوا في ثلاثة آلاف رجل ، وقصدوا المدينة ليأخذوا بثأرهم في يوم بدر ، فنزلوا عند أحد يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة ، على رأس أحد وثلاثين شهراُ من الهجرة ، وأقاموا هنالك يوم الخميس ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يدير وينتظر أمر الله تعالى ، فلما كان في صبيحة يوم الجمعة جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس واستشارهم وأخبرهم أنه كان يرى بقرة تذبح وثلماً في ذباب سيفه ، وأنه يدخل يده في درع حصينة ، وأنه تأولها المدينة ، وقال لهم ، أرى أن لا نخرج إلى هؤلاء الكفار ، فقال له عبد الله بن أبي بن سلول : أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس ، فإن هم أقاموا أقاموا بشر محبس وإن انصرفوا مضوا خائبين ، وإن جاؤونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام ، فوالله ما حاربنا قط عدواً في هذه المدينة إلا غلبناه ، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا ، فوافق هذا الرأي رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأي جماعة عظيمة من المهاجرين والأنصار ، وقال قوم من صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر : يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا ، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس صلاة الجمعة وقد جشمه هؤلاء الداعون إلى الحرب ، فدخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه ، فندم اولئك القوم وقالوا : أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في سلاحه ، قالوا : يا رسول الله أقم إن شئت ، فإنّا لا نريد أن نكرهك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل ثم خرج بالناس ، وسار حتى قرب من عسكر المشركين ، هناك وبات تلك الليلة ، وقد غضب عبد الله بن أبي بن سلول وقال : أطاعهم وعصاني ، فلما كان في صبيحة يوم السبت ، اعتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السير إلى مناجزة المشركين ، فنهض وهو في ألف رجل ، فانعزل عنه عند ذلك عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة رجل من الناس ، من منافق ومتبع ، وقالوا : نظن أنكم لا تلقون قتالاً ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في سبعمائة ، فهمت عند ذلك بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج بالانصراف ، ورأوا كثافة المشركين وقلة المسلمين ، وكادوا أن يجبنوا ويفشلوا فعصمهم الله تعالى ، وذمر{[3474]} بعضهم بعضاً ، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أطل على المشركين ، فتصافَّ الناس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر على الرماة عبد الله بن جبير ، وكانوا خمسين رجلاً ، وجعلهم يحمون الجبل وراء المسلمين ، وأسند هو إلى الجبل ، فلما أضرمت الحرب انكشف المشركون وانهزموا ، وجعل نساء المشركين تبدو خلاخلهن وهن يسندن في صفح{[3475]} جبل ، فلما رأى الرماة ذلك قالوا : الغنيمة الغنيمة أيها المسلمون ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لهم : لا تبرحوا من هنا ولو رأيتمونا تتخطفنا الطير ، فقال لهم عبد الله بن جبير وقوم منهم : اتقوا الله واثبتوا كما أمركم نبيكم ، فعصوا وخالفوا وزالوا متبعين ، وكان خالد بن الوليد قد تجرد في جريدة خيل وجاء من خلف المسلمين حيث كان الرماة ، فحمل على الناس ووقع التخاذل وصيح في المسلمين من مقدمتهم ومن ساقتهم ، وصرخ صارخ : قتل محمد ، فتخاذل الناس واستشهد من المسلمين نيف على سبعين ، قال مكي : قال مالك رحمه الله : قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة ، ومن الأنصار سبعون وتحيز رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى الجبل وتجاوز الناس ، هذا مختصر من القصة يتركب عليه تفسير الآية ، وأمر «أحد » بطوله وما تخلله من الأفعال والأقوال ، مستوعب في كتب السير ، وليس هذا التعليق مما يقتضي ذكره وحكى مكي عن السدي ما يظهر منه أن القتال كان يوم الجمعة ، وحكى عنه الطبري ، أن نزول أبي سفيان بأحد كان في الثالث من شوال ، وذلك كله ضعيف ، وقال النقاش ، وقعة «أحد » في الحادي عشر من شوال ، وذلك خطأ ، قال الطبري وغيره : فغدو رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة إلى التدبير مع الناس واستشارتهم هو الذي عبر عنه بقوله تعالى : { تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال } .
قال القاضي : ولا سيما أن غدو النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان ورأيه أن لا يخرج الناس ، فكان لا يشك في نفسه أن يقسم أقطار المدينة على قبائل الأنصار ، وقال غير الطبري : بل نهوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعد الصلاة ، هو غدوه ، وبوأ المؤمنين في وقت حضور القتال ، وقيل ذلك في ليلته ، وسماه «غدواً » إذ كان قد اعتزم التدبير ، والشروع في الأمر من وقت الغدو .
قال القاضي أبو محمد : ولا سيما أن صلاة الجمعة ربما كانت قبل الزوال ، حسبما وردت بذلك أحاديث{[3476]} ، فيجيء لفظ الغدو متمكناً ، وقيل إن «الغدو » المذكور هو «غدوة » يوم السبت إلى القتال ، ومن حيث لم يكن في تلك الليلة موافقاً للغدو فهو كأنه كان في أهله وبوأ المسلمين بأمره الرماة وبغير ذلك من تدبيره مصاف الناس و { تبوىء } معناه : تعين لهم مقاعد يتمكنون فيها ويثبتون تقول : تبوأت مكان كذا ، إذا حللته حلولاً متمكناً تثبت فيه ، ومنه قوله تعالى : { نتبوأ من الجنة حيث نشاء }{[3477]} ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار »{[3478]} ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل مرفل ]
كم صاحب ليَ صالحٍ . . . بَوَّأْتُهُ بيديَّ لحْدا{[3479]}
وَمَا بَوَّأ الرَّحْمَنُ بَيْتَكَ مَنْزلاً . . . بِشَرْقِيّ أجْيَادِ الصَّفَا والْمحَرَّمِ{[3480]}
وقوله تعالى : { مقاعد } جمع مقعد وهو مكان القعود ، وهذا بمنزلة قولك مواقف ، ولكن لفظة القعود أدل على الثبوت ، ولا سيما أن الرماة إنما كانوا قعوداً ، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولاً ، والمبارزة والسرعان{[3481]} يجولون ، وقوله : { والله سميع } أي ما تقول ويقال لك وقت المشاورة وغيره .