محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (121)

121

( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم121 ) .

( واذ غدوت ) أي خرجت ( من أهلك تبوئ ) أي تنزل ( المؤمنين مقاعد ) أي أماكن ومراكز يقفون فيها ( للقتال والله سميع عليم ) ذهب الجمهور وعلماء المغازي الى أن هذه الآية نزلت في وقعة أحد ، والسر في سوق هذه الوقعة الأحدية وايلائها البدرية ، / هو تقرير ما سبق ، فان المدعي فيما قبلها المساءة بالحسنة والمسرة بالمصيبة وسنة الله تعالى فيهم في باب النصر والمعونة ودفع مضار العدو ، إذا هم صبروا واتقوا ، والتغيير إذا غيروا . أي اذكر لهم ما يصدق ذلك من أحوالكم الماضية حين لم يصبروا في أحد ، فأصيبوا وسرت الأعداء مصيبتكم ، وحين صبروا واتبعوا فنصروا وساء العدو نصرهم . وفي توجيه الخطاب اليه صلى الله عليه وسلم تهييج لغيره الى تدقيق النظر وإتباع الدليل ، من غير أدنى وقوف مع المألوف –كذا يستفاد من ( تفسير البقاعي ) - .

وهذه الآية هي افتتاح القصة ، وقد أنزل فيها ستون آية ، وأشير في هذه السورة الى بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في هذه الوقعة ، كما سيذكر ، وكانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور ، وكان سببها أن الله تعالى لما قتل أشراف قريش ببدر ، وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها ، ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم ، وجاءوا الى أطراف المدينة في غزوة السويق ، ولم ينل ما في نفسه ، أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ، ويجمع الجموع قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش . وجاؤوا بنسائهم لئلا يفروا ليحاموا عنهن . ثم أقبل بهم نحو المدينة ، فنزل قريبا من جبل أحد ، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه : أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه أن لا يخرجوا من المدينة ، وأن يحتصنوا بها ، فان دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة ، والنساء من فوق البيوت ، ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي ، وكان هو الرأي . فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر ، وأشاروا عليه بالخروج ، وألحوا عليه في ذلك ، فنهض ودخل بيته ، ولبس لأمته ، وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك الملحين ، وقالوا : أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج . فقالوا : يا رسول الله ان أحببت أن تمكث في المدينة فافعل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ينبغي لنبي ، إذا لبس لأمته ، أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في / ألف من أصحابه ، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة ببقية المسلمين في المدينة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا وهو بالمدينة : رأى أن في سيفه ثلمة ، ورأى أن بقرا تذبح ، وأنه أدخل يده في درع حصينة . فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته ، وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون . وتأول الدرع بالمدينة . فخرج يوم الجمعة ! فلما صار بالشوط ، بين المدينة وأحد ، انخزل عنه عبد الله بن أبي في ثلث الناس ، مغاضبا لمخالفة رأيه في المقام ، فتبعهم عبد الله بن عمرو ، والد جابر ، يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول : تعالوا قاتلوا في سبيل الله ، أو ادفعوا . قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع . فرجع عنهم وسبهم ، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى ، وسلك حرة بني حارثة ، ومر بين الحوائط ، وأبو خيثمة من بني حارثة يدل به ، حتى نزل الشعب من أحد مستندا الى الجبل ، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم ، فلما أصبح يوم السبت تعبى للقتال وهو في سبعمائة فيهم خمسون فارسا وخمسون راميا وأمر على الرماة عبد الله بن جبير . وأمره وأصحابه أن يلزموا مراكزهم ، وأن لا يفارقوه ولو رأوا الطير تخطف العسكر . وكانوا خلف الجيش . وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم . وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين يومئذ ، وأعطى اللواء مصعب بن عمير ، وجعل على احدى المجنتين الزبير بن العوام ، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو . واستعرض الشباب يومئذ . فرد من استصغره عن القتال . منهم عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعرابة بن أوس وعمرو بن حزام . وأجاز من رآه مطيقا . منهم سمرة بن جندب ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة . فقيل : أجاز من أجازه ، لبلوغه بالسن خمس عشرة سنة ، ورد من رد لصغره عن سن البلوغ ، وقالت طائفة : انما أجاز من أجاز لاطاقته ، ورد من رد لعدم اطاقته ، ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك . قالوا : وفي بعض ألفاظ حديث ابن عمر : " فلما رآني مطيقا أجازني " . / وتعبت قريش للقتال ، وهم في ثلاثة آلاف ، وفيهم مائتا فارس ، فجعلوا على ميمنتهم خالد ابن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه الى أبي دجانة سماك بن خرشة ، وكان شجاعا بطلا يختال الحرب ، وكان أول من بدرمن المشركين أبو عامر الفاسق ، واسمه عبد بن عمرو بن صيفي ، وكان يسمى ( الراهب ) لترهبه وتنسكه في الجاهلية ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الفاسق ) . وكان رأس الأوس في الجاهلية . فلما جاء الاسلام شرق به ، وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة ، فخرج من المدينة ، وذهب الى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله ، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه . فكان أول من لقي من المسلمين . فنادى قومه وتعرف اليهم . قالوا : لا أنعم الله لك عينا يا فاسق ! فقاتل المسلمين قتالا شديدا ، وأبلى يومئذ حمزة وطلحة وشيبة وأبو دجانة والنضر بن أنس بلاء شديدا ، وأصيب جماعة من الأنصار مقبلين غير مدبرين ، واشتد القتال ، وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار ، فانهزمت أعداء الله وولوا مدبرين حتى انتهوا الى نسائهم . فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه ، وقالوا : يا قوم ! الغنيمة ! الغنيمة ! فذكرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يسمعوا ، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة ، فذهبوا في طلب الغنيمة ، وأخلوا الثغر ، ولم يطع أميرهم منهم الا نحو العشرة ، فكر المشركون وقتلوا من بقي من الرماة ، ثم أتوا الصحابة من ورائهم وهم ينتهبون ، فأحاطوا بهم ، واستشهد منهم من أكرمه الله ، ووصل العدو الى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقاتل مصعب بن عمير صاحب اللواء دونه حتى قتل ، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر ، وهشمت البيضة في رأسه ، يقال : ان الذي تولى ذلك عتبة بن أبي وقاص وعمرو بن قميثة الليثي . وشد حنظلة الغسيل على أبي سفيان ليقتله ، فاعترضه شداد الأسود الليثي ، من شعوب ، فقتله . وكان جنبا . فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة غسلته . / وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط من بعض حفر هناك ، فأخذ علي بيده ، واحتضنه طلحة حتى قام ، ومص الدم من جرحه مالك بن سنان الخدري ، والد أبي سعيد ، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه صلى الله عليه وسلم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح . فندرت ثنيتاه فصار أهتم . ولحق المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم . وكر دونه نفر من المسلمين فقتلوا كلهم ، وكان آخرهم عمار بن يزيد بن السكن ، ثم قاتل طلحة حتى أجهض المشركون . وأبو دجانة يلي النبي صلى الله عليه وسلم بظهره وتقع فيه النبل فلا يتحرك ، وأصيبت عين قتادة بن النعمان . فرجع وهي على وجنته . فردها عليه السلام بيده فصحت . وكانت أحسن عينيه . وانتهى النضر بن أنس الى جماعة من الصحابة وقد دهشوا ، وقالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : فما تصنعون في الحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ، ثم استقبل الناس وقاتل حتى قتل ، ووجد به سبعون ضربة . وجرح يومئذ عبد الرحمان بن عوف عشرين جراحة بعضها في رجله . فعرج منها . وقتل حمزة عن النبي صلى الله عليه وسلم . ونادى الشيطان : ألا ان محمدا قد قتل . لأن عمرو بن قميئة كان قد قتل مصعب بن عمير يظن أنه النبي صلى الله عليه وسلم . ووهن المسلمون لصريخ الشيطان . ثم ان كعب بن مالك الشاعر ، من بني سلمة ، عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنادى بأعلى صوته يبشر الناس . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : أنصت . فاجتمع عليه المسلمون ونهضوا معه نحو الشعب ، وأدركه أبي بن خلف في الشعب ، فتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحرث بن الصمة وطعنه بها في عنقه . فكر أبي منهزما . وقال له المشركون : ما بك من بأس . فقال : والله ! لو بصق علي لقتلني ، وكان صلى الله عليه وسلم قد توعده بالقتل . فمات عدو الله بسرف ، مرجعهم الى مكة . ثم جاء علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء فغسل وجهه ونهض . فاستوى على صخرة من الجبل . وحانت الصلاة فصلى بهم قعودا . وغفر الله للمنهزمين من المسلمين . ونزل : ( ان الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان ) . . . الآية / واستشهد نحو من سبعين . معظمهم من الأنصار . وقتل من المشركين اثنان وعشرون . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الى المدينة . ويقال انه قال لعلي : " لا يصيب المشركون منها مثلها حتى يفتح الله علينا " .

هذا ملخص هذه القصة . وقد ساقها بأطول من هذا أهل السير . وفيما ذكر كفاية . وأما ما اشتملت عليه من الأحكام والفقه والحكم والغايات المحمودة ، فقد تكفل بيانها الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) فارجع اليه .

تنبيه :

فسر أكثر العلماء ( غدوت ) بأصلها ، وهو الخروج غدوة أي بكرة . ثم استشكلوا أنه صلى الله عليه وسلم خرج الى أحد بعد صلاة الجمعة كما اتفقت عليه كلمة أهل السير ، فكيف المطابقة ؟

فمنهم من أجاب بأن المراد غدوة السبت ، وأنه كان في صباحه التنبؤ للمقاعد الا أنه لا يساعده ( من أهلك ) لأنه لم يكن وقتئذ أهله معه .

ومنهم من قال : المراد غدوة الجمعة أي : اذكر إذ غدوت من أهلك صبيحة الجمعة الى أصحابك في مسجدك تستشيرهم في أمر المشركين ، ثم قال : وبنى من ( غدوت ) حالا إعلاما بأن الشروع في السبب شروع في مسببه ، فقال ( تبوئ المؤمنين ) أي صبيحة يوم السبت .

وكان يخطر لي أن الأقرب جعل الغدو بمعنى الخروج غير مقيد بالبكرة ، وكثيرا ما يستعمل كذلك . ثم رأيت في ( فتح البيان ) ما استظهرته فحمدت الله على الموافقة ونصه : وعبر عن الخروج بالغدو الذي هو الخروج غدوة مع كونه صلى الله عليه وسلم خرج بعد صلاة الجمعة ، لأنه قد يعبر بالغدوة والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما ، كما يقال ( أضحى ) وان لم يكن في وقت الضحى –انتهى-

/ قال البقاعي : ولما كان رجوع عبد الله بن أبي المنافق ، كما يأتي في صريح الذكر آخر القصة ، من الأدلة على أن المنافقين ، فضلا عن المصارحين بالمصارمة ، متصفون باخبار الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء ، مع أنه كان سببا في هم الطائفتين من الأنصار بالفشل –كان ايلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فساد ، في غاية المناسبة . ولذلك افتتحها سبحانه بقوله مبدلا من ( إذ غدوت ) دليلا على ما قبله من أن بطانة السوء لا يألونهم خبالا .