البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (121)

غدا الرجل : خرج غدوة .

والغدو يكون في أول النهار .

وفي استعمال غدا بمعنى صار ، فيكون فعلاً ناقصاً خلاف .

{ وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال } قال المسور بن مخرمة : قلت لعبد الرحمن بن عوف : أيْ خال أخبرني عن قصتكم يوم أحد ، فقال : اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجد : { وإذ غدوت من أهلك - إلى - ثم أنزل عليكم } ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما نهاهم عن اتخاذ بطانةٍ مِن الكفار ووعدهم أنّهم إنْ صبروا واتقوا فلا يضرُّكم كيدهم .

ذكرهم بحالة اتفق فيها بعض طواعية ، واتباع لبعض المنافقين ، وهو ما جرى يوم أحد لعبد الله بن أبي بن سلول حين انخذل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتبعه في الانخذال ثلاثمائة رجل من المنافقين وغيرهم من المؤمنين .

والجمهور على أن ذلك كان في غزوة أحد ، وفيها نزلت هذه الآيات كلها ، وهو قول : عبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والزهري ، والسدي ، وابن إسحاق .

وقال الحسن : كان هذا الغدو في غزوة الأحزاب .

وهو قول : مجاهد ، ومقاتل ، وهو ضعيف .

لأن يوم الأحزاب كان فيه ظفر المؤمنين ، ولم يجر فيه شيء مما ذكر في هذه الآيات بل قصتاهما متباينتان .

وقال الحسن أيضاً : كان هذا الغدو يوم بدر .

وذكر المفسرون قصة غزوة أحد وهي مستوعبة في كتب السير ، ونحن نذكر منها ما يتعلق بألفاظ الآية بعض تعلقٍ عند تفسيرها .

وظاهر قوله : وإذ غدوت ، خروجه غدوة من عند أهله .

وفسر ذلك بخروجه من حجرة عائشة يوم الجمعة غدوة حين استشار الناس ، فمِنْ مشير بالإقامة وعدم الخروج إلى القتال .

وأن المشركين إنْ جاؤوا قاتلوهم بالمدينة ، وكان ذلك رأيه صلى الله عليه وسلم .

ومن مشير بالخروج وهم : جماعة من صالحي المؤمنين فأتتهم وقعة بدر وتبوئة المؤمنين مقاعد للقتال ، على هذا القول هو أن يقسمَ أفطار المدينة على قبائل الأنصار .

وقيل : غدوه هو نهوضه يوم الجمعة بعد الصلاة وتبوئته في وقت حضور القتال .

وسماه غدواً إذ كان قد عزم عليه غدوة .

وقيل : غدوه كان يوم السبت للقتال .

ولما لم تكن تلك الليلة موافقة للغدو وكأنه كان في أهله ، والعامل في إذا ذكر .

وقيل : هو معطوف على قوله : { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } أي وآية إذ غدوت ، وهذا في غاية البعد .

ولولا أنه مسطور في الكتب ما ذكرته .

وكذلك قولُ مَنْ جعل من في معنى مع ، أي : وإذ غدوت مع أهلك .

وهذه تخريجات يقولها وينقلها على سبيل التجويز من لا بصر له بلسان العرب .

ومعنى تبويّء تنزل ، من المباءة وهي المرجع ومنه { لنبوئنهم من الجنة غرفاً } فليتبوأ مقعده من النار ، وقال الشاعر :

كم صاحب لي صالح *** بوّأته بيديّ لحدا

وقال الأعشى :

وما بوّأ الرحمن بيتك منزلا *** بشرقيّ أجياد الصفا والمحرم

ومقاعد : جمع مقعد ، وهو هناك مكان القعود .

والمعنى : مواطن ومواقف .

وقد استعمل المقعد والمقام في معنى المكان .

ومنه : { في مقعد صدق } { قبل أن تقوم من مقامك }

وقال الزمخشري : وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار انتهى .

أمّا إجراء قعد مجرى صار فقال أصحابنا : إنما جاء في لفظة واحدة وهي شاذة لا تتعدى ، وهي في قولهم : شحذ شفرته حتى قعدت كأنها حربة ، أي صارت .

وقد نقد على الزمخشري تخريج قوله تعالى : { فتقعد ملوماً } على أن معناه : فتصير ، لأن ذلك عند النحويين لا يطرد .

وفي اليواقيت لأبي عمر الزاهد قال ابن الأعرابي : القعد الصيرورة ، والعرب تقول : قعد فلان أميراً بعدما كان مأموراً أي صار .

وأمّا إجراء قام مجرى صار فلا أعلم أحداً عدّها في أخوات كان ، ولا ذكر أنها تأتي بمعنى صار ، ولا ذكر لها خبراً إلا أبا عبد الله بن هشام الحضراوي فإنه قال في قول الشاعر :

على ما قام يشتمني لئيم *** إنها من أفعال المقاربة

وقال ابن عطية : لفظة القعود أدل على الثبوت ، ولا سيما أنّ الرماة إنما كانوا قعوداً ، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولاً ، والمبارزة والسرعان يجولون .

وجمع المقاعد لأنه عيّن لهم مواقف يكونون فيها : كالميمنة والميسرة ، والقلب ، والشاقة .

وبيّن لكل فريق منهم موضعهم الذي يقفون فيه .

خرج صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الجمعة ، وأصبح بالشعب يوم السبت للنصف من شوال ، فمشى على رجليه ، فجعل يصفّ أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح .

إنْ رأى صدراً خارجاً قال : « تأخر » ، وكان نزوله في غدوة الوادي ، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد .

وأمر عبد الله بنَ جبير على الرماة وقال لهم : « انصحوا عنا بالنبل » لا يأتونا من ورائنا « .

وتبوىء جملة حالية من ضمير المخاطب .

فقيل : هي حال مقدرة ، أي خرجت قاصد التبوئة ، لأن وقت الغدوّ لم يكن وقت التبوئة .

وقرأ الجمهور تبوىء من بوّأ .

وقرأ عبد الله : تبوِّىء من أبوأ ، عداه الجمهور بالتضعيف ، وعبد الله بالهمزة .

وقرأ يحيى بن وثاب : تبوى بوزن تحيا ، عداه بالهمزة ، وسهل لام الفعل بإبدال الهمزة ياء نحو : يقرى في يقرئ .

وقرأ عبد الله : للمؤمنين بلام الجر على معنى : ترتب وتهيىء .

ويظهر أنَّ الأصل تعديته لواحد بنفسه ، وللآخر باللام لأن ثلاثيه لا يتعدى بنفسه ، إنما يتعدى بحرف جر .

وقرأ الأشهب : مقاعد القتال على الإضافة ، وانتصاب مقاعد على أنه مفعول ثان لتبوى .

ومَنْ قرأ للمؤمنين كان مفعولاً لتبوىء ، وعداه باللام كما في قوله : { وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت } وقيل : اللام في لابراهيم زائدة ، واللام في للقتال لام العلة تتعلق بتبوىء .

وقيل : في موضع الصفة لمقاعد .

وفي الآية دليل على أن الأئمة هم الذين يتولون أمر العساكر ويختارون لهم المواضع للحرب ، وعلى الأجناد طاعتهم قاله : الماتريدي .

وهو ظاهر .

{ والله سميع عليم } أي سميع وقوالكم ، عليم بنياتكم .

وجاءت هاتان الصفتان هنا لأنّ في ابتداء هذه الغزوة مشاورة ومجاوبة بأقوال مختلفة ، وانطواء على نيات مضطربة حبسما تضمنته قصة غزوة أُحد .

/خ132