ولما كان ما تضمنته هذه الآية من الإخبار ومن الوعد ومن الوعيد{[18805]} منطوقاً ومفهوماً محتاجاً إلى الاجتلاء{[18806]} في صور{[18807]} الجزئيات ذكرهم سبحانه وتعالى بالوقائع التي شوهدت{[18808]} فيها أحوالهم{[18809]} من النصر{[18810]} عند العمل بمنطوق الوعد من الصبر والتقوى وعدمه عند العمل بالمفهوم ، وشوهدت فيها{[18811]} أحوال عدوهم من المساءة عند السرور والسرور{[18812]} عند المساءة{[18813]} ، وذلك {[18814]}غني عن{[18815]} دليل لكونه من المشاهدات ، مشيراً إلى ذلك بواو العطف على غير مذكور ، مخاطباً لأعظم عباده{[18816]} فطنة وأقربهم إليه رتبة ، تهييجاً لغيره إلى تدقيق النظر واتباع الدليل من غير أدنى وقوف{[18817]} مع المألوف فقال تعالى : { وإذ } أي اذكر{[18818]} ما يصدق ذلك من أحوالكم{[18819]} الماضية حين صبرتم واتقيتم{[18820]} فنصرتم ، وحين ساءهم نصركم{[18821]} في كل ذلك في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة ، ثم في بدر ، ثم{[18822]} في غزوة بني قينقاع ونحو{[18823]} ذلك ، واذكر إذ لم يصبر{[18824]} أصحابك فأصيبوا ، وإذ سرتهم{[18825]} مصيبتكم في وقعة أحد إذ{[18826]} { غدوت } أي يا خاتم الأنبياء وأكرم المرسلين ! { من أهلك } أي بالمدينة الشريفة صبيحة يوم الجمعة إلى أصحابك في مسجدك لتستشيرهم{[18827]} في أمر المشركين . وقد {[18828]}نزلوا بأحد{[18829]} في أواخر يوم الأربعاء ، أو في يوم الخميس لقتالكم{[18830]} . وبنى من { غدوت } حالاً إعلاماً بأن الشروع في السبب شروع في مسببه فقال : { تبوىء } أي تنزل { المؤمنين } أي صبيحة يوم السبت ، وعبر بقوله : { مقاعد } إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم تقدم{[18831]} إلى كل{[18832]} أحد بالثبات{[18833]} في مركزه ، وأوعز{[18834]} إليه في أن لا يفعل شيئاً إلا بأمره لا سيما الرماة ، ثم ذكر علة ذلك فقال : { للقتال } .
ولما كان التقدير : وتتقدم{[18835]} إليهم بأبلغ مقال في تشديد الأقوال والأفعال ، أشار تعالى إلى أنه وقع في غضون{[18836]} ذلك منه ومنهم كلام كثير خفي{[18837]} وجلي بقوله : { والله } أي والحال أن الملك الأعظم الذي أنتم في طاعته { سميع } أي لأقوالكم{[18838]} { عليم * } أي بنياتكم في ذلك وغيره فاحذروه ، ولعله خص النبي صلى الله عليه وسلم بلذيذ الخطاب في التذكير{[18839]} تحريضاً لهم{[18840]} مع ما تقدمت الإشارة إليه{[18841]} على المراقبة تعريضاً لهم{[18842]} بأنهم خفوا{[18843]} مع الذين ذكرهم أمر بعاث{[18844]} حتى تواثبوا{[18845]} حين تغاضبوا إلى السلاح - كما ذكر في سبب نزول قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب{[18846]} }[ آل عمران : 100 ] ، فوقفوا عن نافذ الفهم وصافي الفكر خفة إلى ما أراد بهم عدوهم فاقتضى هذا التحذير كله ، ويؤيد ذلك إقباله في الخطاب عليهم عند نسبة الفشل إليهم- كما يأتي قريباً ، ولعله إنما خص هذه الغزوة بالذكر دون{[18847]} ما ذكرت{[18848]} أن واو عطفها دلت عليه مما{[18849]} أيدوا فيه بالنصر لأن الشماتة بالمصيبة{[18850]} أدل على البغضاء والعداوة من الحزن بما يسر ، ودل ذكرها على المحذوف لأن المدعي فيما قبلها شيئان{[18851]} : المساءة بالحسنة{[18852]} ، والفرح{[18853]} والمسرة بالمصيبة ، فإذا برهن المتكلم على الثاني علم ولا بد أنه حذف برهان الأول ، وأنه إنما حذفه - وهو حكيم - لنكتة ، وهي{[18854]} هنا عدم الاحتياج إلى ذكره لوضوحه بدلالة السياق مع واو العطف عليه ، وما تقدم من كونه غير{[18855]} صريح الدلالة في أمر البغض على أنه تعالى قد ذكر بدراً - كما ترى - بعد محكمة{[18856]} ستذكر ، وأطلق{[18857]} سبحانه وتعالى - كما عن الطبري وغيره - التبوء على ابتداء القتال بالاستشارة فإن الكفار لما نزلوا{[18858]} يوم الأربعاء ثاني عشر شوال سنة ثلاث من الهجرة في سفح أحد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر{[18859]} فيهم ما يأتيه من الوحي بقية يوم{[18860]} الأربعاء ويوم الخميس وليلة الجمعة وباتت وجوه الأنصار في المسجد بباب النبي صلى الله عليه وسلم يحرسونه صلى الله عليه وسلم{[18861]} وحرست{[18862]} المدينة الشريفة ، ثم دعا الناس صبيحة يوم الجمعة فاستشارهم في أمرهم وأخبرهم برؤياه تلك الليلة : البقر{[18863]} المذبوحة ، والثلم في سيفه ، وإدخال يده في الدرع الحصينة{[18864]} ، وكان رأيه مع رأي كثير من الصحابة المكث في المدينة ، فإن قاتلوهم فيها قاتلهم{[18865]} الرجال مواجهة و{[18866]}النساء والصبيان من فوق الأسطحة ، وكان عبد الله بن أبيّ المنافق على هذا الرأي ، فلم يزل ناس ممن{[18867]} أكرمهم الله بالشهادة - منهم أسد الله وأسد رسوله عمه{[18868]} حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه - يلحون عليه صلى الله عليه وسلم في الخروج إليهم حتى أجاب فدخل بيته ولبس لأمته بعد أن صلى الجمعة فندموا{[18869]} على استكراههم{[18870]} له صلى الله عليه وسلم وهو يأتيه الوحي ، فلما خرج إليهم أخبروه وسألوه في الإقامة إن شاء فقال : " ما كان ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " .
وفي رواية " حتى يلاقي " فأتى الشيخين - وهما أطمان - فعرض{[18871]} بهما {[18872]}عسكره ففرغ{[18873]} مع غياب الشمس ، ورآه المشركون حين نزل بهما ، واستعمل تلك الليلة على حرسه محمد ابن مسلمة ، واستعمل المشركون على حرسهم{[18874]} عكرمة بن أبي جهل ، ثم أدلج من سحر ليلة السبت ، وندب الأدلاء{[18875]} ليسيروا أمامه ، وحانت صلاة الصبح في الشوط{[18876]} وهم بحيث يرون المشركين ، فأمر بلالاً رضي الله عنه فأذن وأقام{[18877]} ، وصلى بأصحابه صلى الله عليه وسلم الصبح صفوفاً ، فانخزل{[18878]} عبد الله بن أبيّ بثلث العسكر فرجع وقال : أطاع الولدان ، ومن لا رأي له وعصاني ، وما ندري علام نقتل أنفسنا{[18879]} ! وتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام{[18880]} أبو جابر ابن عبد الله -أحد بني سلمة وأحد من استشهد في ذلك اليوم وكلمه الله قبلاً - يناشدهم{[18881]} الله في الرجوع ، فلم يرجعوا فقال : أبعدكم الله{[18882]} ! سيغني الله نبيه صلى الله عليه وسلم{[18883]} عنكم ، ورجع فوافق النبي صلى الله عليه وسلم{[18884]} يصف{[18885]} أصحابه ، وكادت طائفتان من الباقين - وهما{[18886]} بنو سلمة عشيرة{[18887]} عبد الله بن عمرو وبنو حارثة{[18888]} - أن تفشلا لرجوع المنافقين{[18889]} ، ثم ثبتهم الله تعالى ؛ ونزل صلى الله عليه وسلم الشعب من أحد ، فجعل ظهره{[18890]} وعسكره إلى أحد وعبأ أصحابه وقال :
" لا يقاتلن أحد حتى نأمره ! " وعين طائفة من الرماة وأنزلهم بعينين - جبيل{[18891]} هناك{[18892]} من ورائهم{[18893]} - وأوعز إليهم في أن {[18894]}لا يتغيروا منه{[18895]} حتى يأمرهم إن كانت له أو عليه ، حتى قال لهم : " إن رأيتمونا تخطفنا{[18896]} الطير فلا تعينونا ، وإن رأيتمونا هزمناهم فلا تشركونا في الغنيمة ، وانضحوا{[18897]} الخيل{[18898]} عنا إذا أتت من ورائنا " وبرز صاحب لواء المشركين وطلب المبارزة ، فبرز إليه رجل من المسلمين فقتله المسلم فحمله آخر وبرر فقتل ، وفعلوا ذلك واحداً بعد واحد حتى تموا عشرة كلهم يقتل{[18899]} ، فلما انكسرت قلوب المشركين بتوالي القتل في أصحاب اللواء أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فشدوا{[18900]} فهزموا المشركين وخلوا عسكرهم ونساءهم ، وكان الخيل كلما أتت من وراء{[18901]} المسلمين نضحهم{[18902]} الرماة بالنبل فرجعوا ، فلما وقع الصحابة رضي الله عنهم في نهب العسكر خلى الرماة ثغرهم{[18903]} ، فنهاهم أميرهم وحذرهم مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يطعه منهم إلا نحو العشرة ، فأتى أصحاب الخيل فقتلوا من بقي من الرماة ، ثم أتوا الصحابة رضي الله عنهم من ورائهم وهم ينتهبون ، فأسرعوا فيهم القتل ونادى إبليس : إن محمداً قد قتل ، فانهزم{[18904]} الصحابة رضوان الله عليهم ، ولم يثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم منهم إلا قليل ما بين العشرة إلى الثلاثين - على اختلاف الأقوال ، فاستمر يحاول بهم العدو ، والله تعالى يحفظه ويدافع عنه حتى دنت الشمس للمغرب ، وصرف الله العدو ، فدفن النبي صلى الله عليه وسلم الشهداء وصف أصحابه رضي الله عنهم فأثنى على الله عز وجل ثناء عظيماً ، ذكر فيه فضله سبحانه وعدله ، وأن الملك ملكه يتصرف فيه كيف يشاء ، ورجع إلى{[18905]} المدينة الشريفة وقد أصابته الجراحة في مواضع من وجهه بنفسي{[18906]} هو و{[18907]}أبي وأمي ووجهي وعيني .
ولما كان رجوع عبد الله بن أبي المنافق - كما يأتي في صريح الذكر آخر القصة - من الأدلة على أن المنافقين فضلاً عن المصارحين بالمصارمة متصفون {[18908]}بما أخبر{[18909]} الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء مع أنه كان{[18910]} سبباً في هم الطائفتين من الأنصار بالفشل{[18911]} كان إيلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فساد في غاية المناسبة ، ولذلك افتتحها سبحانه وتعالى بقوله - مبدلاً من { إذ غدوت } دليلاً على ما قبله من أن بطانة السوء لا تألوهم{[18912]} خبالاً وغير ذلك