الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (121)

وقوله تعالى : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ }[ آل عمران :121 ] .

هذا ابتداءُ عتْبِ المؤمنين في أَمْر أُحُدٍ ، وفيه نزلَتْ هذه الآياتُ كلُّها ، وكان من أمر غزوة أُحُدٍ أَنَّ المُشْرِكِينَ اجتمعوا في ثلاثة آلاف رجُلٍ ، وقصدوا المدينةَ ليأخذوا بثأرهم في يوم بَدْرٍ ، فنزلوا عند أُحُدٍ يوم الأربعاء ، الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ ، سنَةَ ثلاثٍ من الهجرةِ ، على رأس أَحَدٍ وثلاثين شهرًا من الهجْرة ، وأقاموا هنالك يَوْمَ الخمِيسِ ، ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة يدبِّر ، وينتظرُ أمْرَ اللَّهِ سبحانه ، فلَمَّا كان في صَبِيحَة يَوْم الجُمُعة ، جَمَعَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم النَّاس واستشارهم ، وأخبرهم أنه كان يرى بقرًا تُذْبَح ، وثَلْماً في ذُبَابِ سَيْفه ، وأنَّهُ يُدْخِلُ يده في دِرْعٍ حَصِينَةٍ ، وأنه تأوَّلها المدينةَ ، وقال لهم : أرى أن لاَّ نخرج إلى هؤلاء الكُفَّارِ ، فقال له عبدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ : أَقِمْ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَلاَ تَخْرُجْ إلَيْهِمْ بِالنَّاسِ ، فَإنْ هُمْ أَقَامُوا ، أَقَامُوا بِشَرِّ مَحْبِسٍ ، وإنِ انْصَرَفُوا مَضَوْا خَائِبِينَ ، وَإنْ جَاءُونَا إلَى المَدِينَةِ ، قَاتَلْنَاهُمْ فِي الأَفْنِيَةِ ، وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالحِجَارَةِ مِنَ الآطامِ ، فَوَاللَّهِ ، مَا حَارَبَنَا قَطُّ عَدُوٌّ فِي هَذِهِ المَدِينَةِ إلاَّ غَلَبْنَاهُ ، وَلاَ خَرَجْنَا مِنْهَا إلى عَدُوٍّ إلاَّ غَلَبَنَا ، فَوَافَقَ هَذَا الرَّأْيُ رَأْيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، ورَأْيَ جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ ، وَالأَنْصَارِ ، وقَالَ قَوْمٌ مِنْ صُلَحَاءِ المُؤْمِنِينَ مِمَّنْ فَاتَتْهُ بَدْرٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اخرج بِنَا إلى عَدُوِّنَا ، وَشَجَّعُوا النَّاسَ ، وَدَعوْا إلَى الحَرْبِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فصلى بِالنَّاسِ صَلاَةَ الجُمُعَةِ ، وَقَدْ حَشَّمَهُ هَؤُلاَءِ الدَّاعُونَ إلَى الحَرْبِ ، فَدَخَلَ إثْرِ صَلاَتِهِ بَيْتَهُ ، وَلَبِسَ سِلاَحَهُ ، فَنَدِمَ أُولَئِكَ القَوْمُ ، وَقَالُوا : أَكْرَهْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سِلاَحِهِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَقِمْ ، إنْ شِئْتَ ، فَإنَّا لاَ نُرِيدُ أنْ نُكْرِهَكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ لَبِسَ سِلاَحَهُ أَنْ يَضَعَهَا ، حتى يُقَاتِل ، ثُمَّ خَرَجَ بِالنَّاسِ ، وَسَارَ حتى قَرُبَ مِنْ عَسْكَرِ المُشْرِكِينَ ، فَعَسْكَرَ هُنَالكَ ، وَبَاتَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ، وَقَدْ غَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ ، وَقَالَ : أَطَاعَهُمْ ، وَعَصَانِي ، فَلَمَّا كَانَ فِي صَبِيحَةِ يَوْمَ السَّبْتِ ، اعتزم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى المَسِيرِ إلى مُنَاجَزَةِ المُشْرِكِينَ ، فَنَهَضَ وَهُوَ فِي أَلْفِ رَجُلٍ ، فانخزل عَنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ بِثَلاَثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ مُنَافِقٍ وَمُتَّبِعٍ ، وَقَالُوا : نَظُنُّ أَنَّكُمْ لاَ تَلْقَوْنَ قِتَالاً ، ومضى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سبْعِمِائةٍ ، فَهَمَّتْ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو حَارِثَةَ مِنَ الأَوْسِ ، وَبَنُو سَلِمَةَ مِنَ الخَزْرَجِ بالانْصِرَافِ ، وَرَأَوْا كَثَافَةَ المُشْرِكِينَ ، وَقِلَّةَ المُسْلِمِينَ ، وَكَادُوا أَنْ يَجْبُنُوا ، وَيَفْشَلُوا ، فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ تعالى ، وَذَمَّ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ، وَنَهَضُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حتى أَطَلَّ عَلَى المُشْرِكِينَ ، فَتَصَافَّ النَّاسُ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَّرَ عَلَى الرُّمَاةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ ، وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلاً ، وَجَعَلَهُمْ يَحْمُونَ الجَبَلَ ، وَرَاءَ المُسْلِمِينَ ، وَأسْنَدَ هُوَ إلَى الجَبَلِ ، فَلَمَّا اضطرمت نَارُ الحَرْبِ ، انكشف المُشْرِكُونَ ، وانهزموا ، وَجَعَلَ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ يَشْدُدْنَ فِي الجَبَلِ ، وَيَرْفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ ، قَدْ بَدَتْ خَلاَخِيلُهُنَّ ، فَجَعَلَ الرُّمَاةُ يَقُولُونَ : الغَنِيمَةَ الغَنِيمَةَ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ لَهُمْ : ( لاَ تَبْرَحُوا مِنْ هُنَا ، وَلَوْ رَأَيْتُمُونَا تَخَطَّفُنَا الطَّيْرُ ) ، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَقَوْمٌ مِنْهُمْ : اتقوا اللَّهَ واثبتوا ، كَمَا أَمَرَكُمْ نَبِيُّكُمْ ، فَعَصَوْا ، وَخَالَفُوا ، وانصرفوا يُرِيدُونَ النَّهْبَ ، وَخَلَّوْا ظُهُورَ المُسْلِمِينَ لِلْخَيْلِ .

وَجَاءَ خَالِدٌ فِي جَرِيدَةِ خَيْلٍ مِنْ خَلْفِ المُسْلِمِينَ ، حَيْثُ كَانَ الرُّمَاةُ ، فَحَمَلَ عَلَى النَّاسِ ، وَوَقَعَ التَّخَاذُلُ ، وَصِيحَ فِي المُسْلِمِينَ مِنْ مُقَدِّمَتِهِم ، وَمِنْ سَاقَتِهِمْ ، وَصَرَخَ صَارِخٌ : قُتِلَ مُحَمَّدٌ ، فَتَخَاذَلَ النَّاسِ ، واستشهد مِنَ المُسْلِمِينَ سَبْعُونَ ، وَتَحَيَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَعْلَى الجَبَلِ ، وَتَحَاوَزَ النَّاسُ " .

هَذَا مختصرٌ من القصَّة ، يتركَّب عليه تفسيرُ الآياتِ ، وأمْرِ أُحُدٍ مستوعَبٌ في السِّيَرِ ، وليس هذا التعليقُ ممَّا يقتضي ذكْرَهُ ، و{ تُبَوِّئُ } : معناه : تُعَيِّنُ لهم مقاعدَ ، يتمكَّنون فيها ، ويثْبُتُون ، وقوله سبحانه : { مقاعد } : جمعُ مَقْعَدٍ ، وهو مكانُ القعود ، وهذا بمنزلة قولك : مَوَاقِف ، ولكنَّ لفظة القُعُود أدلُّ على الثبوتِ ، ولا سيَّما أنَّ الرماة إنما كانوا قُعُوداً ، وكذلك كانَتْ صفوفُ المسلمين أولاً ، والمُبَارِزَةُ والسَّرعَان يَجُولُون .

وقوله تعالى : { والله سَمِيعٌ } ، أي : ما تقولُ ، وما يقالُ لك وقْتَ المشاورة وغيره .