ثم ذكر جرمهم الكبير فقال : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } من الكتب الإلهية ، والخوارق العظيمة ، والعلم النافع المبين ، للهدي من الضلال ، والحق من الباطل { فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } المناقض لدين الرسل .
ومن المعلوم ، أن فرحهم به ، يدل على شدة رضاهم به ، وتمسكهم ، ومعاداة الحق ، الذي جاءت به الرسل ، وجعل باطلهم حقًا ، وهذا عام لجميع العلوم ، التي نوقض بها ، ما جاءت به الرسل ، ومن أحقها بالدخول في هذا ، علوم الفلسفة ، والمنطق اليوناني ، الذي رُدَّت به كثير من آيات القرآن ، ونقصت قدره في القلوب ، وجعلت أدلته اليقينية القاطعة ، أدلة لفظية ، لا تفيد شيئًا من اليقين ، ويقدم عليها عقول أهل السفه والباطل ، وهذا من أعظم الإلحاد في آيات الله ، والمعارضة لها ، والمناقضة ، فالله المستعان .
{ وَحَاقَ بِهِمْ } أي : نزل { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } من العذاب .
( فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم ) . .
والعلم - بغير إيمان - فتنة . فتنة تعمي وتطغي . ذلك أن هذا اللون من العلم الظاهري يوحي بالغرور ، إذ يحسب صاحبه أنه يتحكم بعلمه هذا في قوى ضخمة ، ويملك مقدرات عظيمة ، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها ! وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها . وهي موجودة في هذا الكون ؛ ولا سلطان له عليها . بل لا إحاطة له بها . بل لا معرفة له بغير أطرافها القريبة . وبذلك ينتفخ فيأخذ أكثر من حقيقته . ويستخفه علمه وينسى جهله . ولو قاس ما يعلم إلى ما يجهل وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز حتى عن إدراك سره لطامن من كبريائه ، وخفف من فرحه الذي يستخفه .
وهؤلاء فرحوا بما عندهم من العلم . واستهزأوا بمن يذكرهم بما وراءه :
وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل{[25601]} بالبينات ، والحجج القاطعات ، والبراهين الدامغات ، لم يلتفتوا إليهم ، ولا أقبلوا عليهم ، واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءتهم به الرسل .
قال مجاهد : قالوا : نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نعذب .
وقال السدي : فرحوا بما عندهم من العلم بجهالتهم ، فأتاهم من بأس الله ما لا قِبَل لهم به .
{ وَحَاقَ بِهِمْ } أي : أحاط بهم { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : يكذبون ويستبعدون وقوعه .
{ فلما جاءتهم رسلهم بالبينات } بالمعجزات أو الآيات الواضحات . { فرحوا بما عندهم من العلم } واستحقروا علم الرسل ، والمراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة كقوله : { بل ادراك علمهم في الآخرة } وهو قولهم : لا نبعث ولا نعذب ، وما أظن الساعة قائمة ونحوها ، وسماها علما على زعمهم تهكما بهم ، أو علم الطبائع والتنجيم والصنائع ونحو ذلك ، أو علم الأنبياء ، وفرحهم به ضحكهم منه واستهزاؤهم به ويؤيده : { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } وقيل الفرح أيضا للرسل فإنهم لما رأوا تمادي جهل الكفار وسوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم .
وجملة { فَلَمَّا جَاءَتْهُم رُسُلُهم بالبينات } الآية مفرعة على جملة { كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم } أي كانوا كذلك إلى أن جاءتهم رسل الله إليهم بالبينات فلم يُصدقوهم فرأوا بأسنا . وجعلها في « الكشاف » جارية مجرى البيان والتفسير لقوله : { فَمَا أغنى عَنْهُم } ، وما سلَكْتُه أنا أحسن ومَوقع الفاء يؤيده .
ولِما في ( لَمَّا ) من معنى التوقيت أفادت معنى أن الله لم يغير ما بهم من النعم العظمى حتى كذبوا رسله . وجواب ( لمّا ) جملة { فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلْمِ } وما عطف عليها .
واعلم أن المفسرين ذهبوا في تفسير هذه الآية طرائق قِدداً ذكر بعضها الطبري عن بعض سلف المفسرين . وأنهاها صاحب « الكشاف » إلى ستّ ، ومال صاحب « الكَشف » إلى إحداها ، وأبو حيان إلى أُخرى ولا حاجة إلى جلب ذلك .
والطريقة التي يرجح سلوكها هي أن هنا ضمائر عشرة هي ضمائر جمع الغائبين وأن بعضها عائد لا محالة على { الَّذِينَ مِن قَبلِهم } وأن وجه النظم أن تكون الضمائر متناسقة غير مفككة فلذا يتعين أن تكون عائدة إلى معاد واحد ، فالذين ( فَرحوا بما عندهم من العلم ) هم ( الذين جَاءتهم رُسُلهم بالبينات ) ، وهم الذين ( حَاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) ، والذين رأوا بأس الله ، فما بنا إلا أن نُبين معنى { فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلمِ } .
فالفَرَح هنا مكنّى به عن آثاره وهي الازدهاء كما في قوله تعالى : { إذ قال له قومه لا تفرح } [ القصص : 76 ] أي بما أنت فيه مكنىًّ به هنا عن تمسكهم بما هم عليه ، فالمعنى : أنهم جادلوا الرسل وكابروا الأدلة وأعرضوا عن النظر . l وما عندهم من العلم هو معتقداتهم الموروثة عن أَهل الضلالة من أسلافهم .
قال مجاهد : قالوا لرسلهم : نحن أعلم منكم لن نُبعث ولن نُعذب اهـ . وإطلاق العلم على اعتقادهم تهكم وجري على حسب معتقدهم وإلا فهو جهل . وقال السُدّي : فرحوا بما عندهم من العلم بجهلهم يعني فهو من قبيل قوله تعالى : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } [ الأنعام : 148 ] .
وحاق بهم : أحاط ، يقال : حاق يحيق حيقا ، إذا أحاط ، وهو هنا مستعار للشدة التي لا تنفيس بها لأن المحيط بشيء لا يدع له مَفرجاً .
و { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهزِءُونَ } هو الاستئصال والعذاب . والمعنى : أن رسلهم أوعدوهم بالعذاب فاستهزؤوا بالعذاب ، أي بوقوعه وفي ذكر فعل الكون تنبيه على أن الاستهزاء بوعيد الرسل كان شنشنة لهم ، وفي الإتيان ب { يستهزؤون } مُضارعاً إفادة لتكرر استهزائهم .