البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (83)

والضمير في { جاءتهم } عائد على { الذين من قبلهم } .

وجاء قوله : { من العلم } على جهة التهكم بهم ، أي في الحقيقة لا علم لهم ، وإنما لهم خيالات واستبعادات لما جاءت به الرسل ، وكانوا يدفعون ما جاءت به الرسل بنحو قولهم : { ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيراً منها منقلباً } أو اعتقدوا أن عندهم علماً يستغنون به عن علم الأنبياء ، كما تزعم الفلاسفة .

والدهريون كانوا إذا سمعوا بوحي الله ، دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم .

ولما سمع سقراط ، لعنه الله ، بموسى ، صلوات الله على نبينا وعليه ، قيل له : لو هاجرت إليه ، فقال : نحن قوم مهذبون ، فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا .

وعلى هذين القولين تكون الضمائر متناسقة عائدة على مدلول واحد .

وقيل : الضمير في { فرحوا } ، وفي { بما عندهم } عائد على الرسل ، أي فرحت الرسل بما أوتوا من العلم ، وشكروا الله عليه ، لما رأوا جهل من أرسلوا إليهم واستهزاءهم بالحق ، وعلموا سوء عاقبتهم .

وقيل : الضمير في { فرحوا } عائد على الأمم ، وفي { بما عندهم } عائد على الرسل ، أي فرح الكفار بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء .

وقال الزمخشري : ومنها ، أي من الوجوه التي في الآية في قوله : { فرحوا بما عندهم من العلم } ، مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والسرور في تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلم . انتهى .

ولا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام ، نحو قولهم : شر أهر ذا ناب ، على خلاف فيه ، ولما آل أمره إلى الإيتاء المحصور جاز .

وأما في الآية فينبغي أن لا يحمل على القليل ، لأن في ذلك تخليطاً لمعاني الجمل المتباينة ، فلا يوثق بشيء منها .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد { فرحوا بما عندهم من العلم } : علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال تعالى : { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } ذلك مبلغهم من العلم ، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات ، وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات ، لم يلتفتوا إليها ، وصغروها واستهزؤوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ، ففرحوا به .

انتهى ، وهو توجيه حسن ، لكن فيه إكثار وشقشقة .