جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي - الإيجي محيي الدين  
{فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (83)

{ فلما جاءتهم } ، الفاء تفسير وتفصيل لما أبهم ، وأجمل من عدم الإغناء { رسلهم بالبينات فرحوا } : رضوا ، { بما عندهم من العلم{[4403]} } : بزعمهم أو سماه علما سخرية ، هو قولهم : نحن أعلم لا بعث ولا عذاب وهذا في الحقيقة جهل ، وقيل : معناه استهزءوا بما عند الأنبياء من العلم ، وقيل : رضوا بما عندهم من علم الدنيا ومعرفة تدبيرها واكتفوا بها { وحاق بهم } : وبال { ما كانوا به يستهزئون } ، قيل : فيه إشعار إلى المعنى الثاني


[4403]:قال الرازي: ويجوز أن يكون المراد علوم الفلاسفة والدهريين فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم، وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه السلام وقيل له لو هاجرت إليه فقال:" نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا" انتهى. قال ابن القيم في الإغاثة بعد ذكر فضائح الفلاسفة وتعطيلهم وكفرهم بالأنبياء فصل: وهذه البلايا ليست عامة لجميع الفلاسفة؛ فإن الفلسفة من حيث هي لا يقتضي ذلك، فإن معناها محبة الحكمة والفيلسوف محب الحكمة وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصا بمن خرج عن ديانات الأنبياء وذهب إلى ما يقتضيه مجرد العقل في زعمه، وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو وهم الذين هذب ابن سينا طريقتهم وهم فرقة شاذة من فرق الفلاسفة حتى قيل أنه لم يقل من الفلاسفة بقدم الأفلاك غير أرسطو وأصحابه، والأساطين قبله كانوا يقولون بحدوثه وإثبات الصانع ومبائنة للعالم، وأنه فوق العالم وفوق السماوات بذاته إلى أن قال، وحكى أرباب المقالات أن أول من عرف منه القول بقدم العالم أرسطو، وكان مشركا يعبد الأصنام وله في الإلهيات كلام كله خطأ قد رده عليه طوائف المسلمين حتى الجهمية والمعتزلة والقدرية والرافضة وفلاسفة الإسلام وأنكر أن يعلم الله شيئا من الموجودات، وقال: لو علم شيئا لكمل بمعلوماته ولم يكن كاملا في نفسه وكان يلحقه التعب من تصور المعلومات وتبعه من تستر بإتباع الرسل وهو منحل من كل ما جاءوا به. ويسمونه المعلم الأول لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية، وزعم أرسطو وأتباعه أن المنطق ميزان المعاني، كما أن العروض ميزان الشعر، وقد بين نظار الإسلام فساد هذا الميزان وعوجه وتخبيطه للأذهان وصنفوا في رده وتهافته وآخر من صنف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- ألف في رده، وإبطاله كتابين بين فيهما تناقضه وتهافته وفساد كثير من أوضاعه رأيت فيه تصنيفا لأبي سعيد السيرافي، والمقصود أن الملاحدة درجت على إثر هذا المعلم حتى انتهت النوية إلى معلمهم أبي نصر الفارابي فوضع لهم التعاليم الصوتية، كما أن المعلم الأول وضع التعاليم الحرفية، ثم وسع هذا المعلم الثاني الكلام في صناعة المنطقية وشرح فلسفة أرسطو وهذبها والله عند هؤلاء كما قرره - أفضل متأخريهم وقدوتهم الذي يقدمونه على الرسل أبو علي بن سينا- هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق وليس له صفة ثبوتية يقوم به، ولا يفعل شيئا باختياره، ولا يعلم شيئا من المجودات أصلا، ولا يعلم عدد الأفلاك، ولا شيئا من المغيبات ولا كلام له يقوم به ومعلوم أن هذا إنما هو خيال مقدر في الذهن لا حقيقة له وليس هو الرب الذي دعت إليه الرسل وعرف الأمم بل الرب الذي دعت إليه الملاحدة، وجردته عن الماهية وعن كل صفة ثبوتية وكل فعل اختياري وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا مبائنا له ولا فوقه ولا تحته ولا أمامه ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن شماله، وقول هؤلاء الملاحدة أصلح من قول معلمهم أرسطو فإن هؤلاء أثبتوا واجبا وممكنا هو معلول له، صادر عنه صدور المعلول عن علته وأما أرسطو فلم يثبته إلا من جهة كونه مبدأ عقليا للكثرة وعلة غائية لحركة الفلك فقط، وصرح بأنه لا يفعل شيئا باختياره وهذا الذي يوجد في كتب المتأخرين من حكاية مذاهبه من وضع ابن سينا فإنه قربه من دين الإسلام بجهده وغاية ما أمكنه أن قربه من قول غلاة الجهمية انتهى /12.