اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (83)

قوله : { عِندَهُمْ مِّنَ العلم } فيه أوجه :

أحدهما : أنه تهكم بهم ، والمعنى ليْسَ عندهم عِلْم{[48476]} .

الثاني : أن ذلك جاء على زَعْمِهِمْ أنَّ عندهم علماً ينتفعون{[48477]} به .

الثالث : أن «مِنْ » بمعنى بدل أي بما عندهم من الدنيا بدل العلم .

الرابع : أن يكون الضمير للرسل ، أي فَرِحَ الرسل بما عندهم من العلم .

الخامس : أن الأول للكفار ، وأما الثاني لِلرسل ، ومعناه فرح الكفار فَرَحَ ضَحِكٍ واستهزاءٍ بما عند الرسل من العلم ؛ إذ لم يأخذوه بقبول ويمتثلوا أوامر الوحي ونواهيه{[48478]} . وقال الزمخشري : وَمِنْهَا أي من والوجوه أن يوضع قوله : { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم } مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة مع تهكم بفَرْطِ خُلُوِّهم من العلم{[48479]} وجهلهم .

قال أبو حيان : ولا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام ، نحو : «شَرٌّ أهَرَّ ذا ناب » على خلاف فيه ، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز . وأما في الآية فينبغي أن لا يحمل على القليل لأن في ذلك تخليطاً لمعاني الجمل المتباينة{[48480]} .

فصل

قال المفسرون{[48481]} : الضمير في قوله : «فَرِحُوا » يحتمل أن يكون عائداً على الكفار وأن يكون عائداً إلى الرسل فإن عاد إلى الكفار ، فذلك العلم الذي فرحوا به قيل : هو الأشياء التي كانوا يسمونها علماً ، وهي الشبهات المحكيّة عنهم في القرآن ، كقولهم : { وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر } [ الجاثية : 24 ] وقولهم : { لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 184 ] وقولهم : { مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء ، كما قال { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ المؤمنون : 53 ] و [ الروم : 32 ] وقيل : المراد{[48482]} علوم الفلاسفة فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغَّروا علوم الأنبياء عن علومهم كما روي عن سقراط أن سمع بمجيء أحد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقيل له : لو هاجرت إليه فقال : نحن قوم مهتدون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا . وقيل : المراد علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها{[48483]} ، كقوله تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ } [ الروم : 7 ] { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم } [ النجم : 30 ] فلما جاءت الرسل بعلوم الديانات ومعرفة الله تعالى ، ومعرفة المعاد وتطهير النفس من الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزأوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفائدة من علمهم ففرحوا به .

وإن عاد الضمير إلى الأنبياء ففيه وجهان :

الأول : أن يفرح الرُّسُلُ إِذَا رَأوا من قومهم جهلاً كاملاً وإعراضاً عن الحقِّ وعلموا سوء غَفْلَتِهِمْ وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم يفرحوا بما أوتوا من العلم ، ويشركوا الله عليه «وَحَاقَ » بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم .

الثاني : أن المراد أن الرسل فرحوا بما عندهم من العلم فَرَحَ ضَحِكٍ{[48484]} واستهزاء .


[48476]:السابقين أيضا والأسبقية للزمخشري وعنه أخذ أبو حيان.
[48477]:قال السمين في الدر 4/714.
[48478]:قال بهذين الوجهين أبو حيان في البحر 7/479.
[48479]:في الكشاف العلماء وانظر الكشاف 3/439.
[48480]:البحر المرجع السابق.
[48481]:يعني بهم الرازي.
[48482]:هذا هو رأي الزمخشري وممن نقله عنه الرازي في تفسيره، انظر الكشاف 3/439 والرازي 27/91.
[48483]:المرجعين السابقين.
[48484]:الرازي في مرجعه السابق.