الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (83)

{ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ العلم } فيه وجوه : منها أنه أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله تعالى : { بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِى الاخرة } [ النمل : 66 ] : وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون : لا نبعث ولا نعذب ، { وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] ، { وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به البينات وعلم الأنبياء ، كما قال عزّ وجلّ : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ الروم : 32 ] ومنها : أن يريد علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان ، وكانوا إذ سمعوا بوحي الله : دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم . وعن سقراط : أنه سمع بموسى صلوات الله عليه وسلامه ، وقيل له : لو هاجرت إليه فقال : نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا . ومنها : أن يوضع قوله { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ العلم } [ غافر : 83 ] ولا علم عندهم البتة ، موضع قوله : لم يفرحوا بما جاءهم من العلم ، مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة ، مع تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلماء . ومنها أن يراد : فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به ، كأنه قال : استهزؤوا بالبينات وبما جاؤوا به من علم الوحي فرحين مرحين . ويدلّ عليه قوله تعالى : { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } ومنها : أن يجعل الفرح للرسل . ومعناه : أن الرسل لما رأوا جهلهم المتمادي واستهزائهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم : فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه . وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم . ويجوز أن يريد بما فرحوا به من العلم : علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غافلون } [ الروم : 7 ] ، { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم } [ النجم : 30 ] فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات - وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات - لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ، ففرحوا به .