{ 78 ْ } { قَالُوا ْ } لموسى رادين لقوله بما لا يرده : { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ْ } أي : أجئتنا لتصدنا عما وجدنا عليه آباءنا ، من الشرك وعبادة غير الله ، وتأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له ؟ فجعلوا قول آبائهم الضالين حجة ، يردون بها الحق الذي جاءهم به موسى عليه السلام .
وقولهم{[411]} : { وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ْ } أي : وجئتمونا لتكونوا أنتم الرؤساء ، ولتخرجونا من أرضنا . وهذا تمويه منهم ، وترويج على جهالهم ، وتهييج لعوامهم على معاداة موسى ، وعدم الإيمان به .
وهذا لا يحتج به ، من عرف الحقائق ، وميز بين الأمور ، فإن الحجج لا تدفع إلا بالحجج والبراهين .
وأما من جاء بالحق ، فرد قوله بأمثال هذه الأمور ، فإنها تدل على عجز موردها ، عن الإتيان بما يرد القول الذي جاء خصمه ، لأنه لو كان له حجة لأوردها ، ولم يلجأ إلى قوله : قصدك كذا ، أو مرادك كذا ، سواء كان صادقًا في قوله وإخباره عن قصد خصمه ، أم كاذبًا ، مع أن موسى عليه الصلاة والسلام كل من عرف حاله ، وما يدعو إليه ، عرف أنه ليس له قصد في العلو في الأرض ، وإنما قصده كقصد إخوانه المرسلين ، هداية الخلق ، وإرشادهم لما فيه نفعهم .
ولكن حقيقة الأمر ، كما نطقوا به بقولهم : { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ْ } أي : تكبرًا وعنادًا ، لا لبطلان ما جاء به موسى وهارون ، ولا لاشتباه فيه ، ولا لغير ذلك من المعاني ، سوى الظلم والعدوان ، وإرادة العلو الذي رموا به موسى وهارون .
وهنا يكشف الملأ عن حقيقة الدوافع التي تصدهم عن التسليم بآيات اللّه :
( قالوا : أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ، وتكون لكما الكبرياء في الأرض ? وما نحن لكما بمؤمنين ) . .
وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة ، التي يقوم عليها نظامهم السياسي والاقتصادي . وهو الخوف على السلطان في الأرض ، هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة .
إنها العلة القديمة الجديدة ، التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة الدعوات ، وانتحال شتى المعاذير ، ورمي الدعاة بأشنع التهم ، والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة . . إنها هي " الكبرياء في الأرض " وما تقوم عليه من معتقدات باطلة يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير ، بكل ما فيها من زيف ، وبكل ما فيها من فساد ، وبكل ما فيها من أوهام وخرافات . لأن تفتح القلوب للعقيدة الصحيحة ، واستنارة العقول بالنور الجديد ، خطر على القيم الموروثة ، وخطر على مكانة الطغاة ورهبتهم في قلوب الجماهير ، وخطر على القواعد التي تقوم عليها هذه الرهبة وتستند . إنها الخوف على السلطان القائم على الأوهام والأصنام ! وعلى تعبيد الناس لأرباب من دون اللّه . . ودعوة الإسلام - على أيدي الرسل جميعاً - إنما تستهدف تقرير ربوبية اللّه وحده للعالمين ؛ وتنحية الأرباب الزائفة التي تغتصب حقوق الألوهية وخصائصها ، وتزاولها في حياة الناس . وما كانت هذه الأرباب المستخفة للجماهير لتدع كلمة الحق والهدى تصل إلى هذه الجماهير . ما كانت لتدع الإعلان العام الذي يحمله الإسلام بربوبية اللّه وحده للعالمين وتحرير رقاب البشر من العبودية للعباد . .
ما كانت لتدع هذا الإعلان العام يصل إلى الجماهير ؛ وهي تعلم أنه إعلان بالثورة على ربوبيتهم ، والانقلاب على سلطانهم ، والانقضاض على ملكهم ، والانطلاق إلى فضاء الحرية الكريمة اللائقة بالإنسان !
إنها هي هي العلة القديمة الجديدة كلما قام من يدعو إلى اللّه رب العالمين !
وما كان رجال من أذكياء قريش مثلاً ليخطئوا إدراك ما في رسالة محمد - [ ص ] - من صدق وسمو ، وما في عقيدة الشرك من تهافت وفساد . ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم الموروثة ، القائمة على ما في تلك العقيدة من خرافات وتقاليد . كما خشي الملأ من قوم فرعون على سلطانهم في الأرض ، فقالوا متبجحين :
يقول تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا } من بعد تلك الرسل { مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي : قومه . {[14341]} { بِآيَاتِنَا } أي : حجَجنا وبراهيننا ، { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } أي : استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له ، { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ } كأنهم - قبَّحهم الله - أقسموا على ذلك ، وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان ، كما قال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] .
{ قَاَلَ } لهم { مُوسَى } منكرا عليهم : { أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } أي : تثنينا { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي : الدّين الذي كانوا عليه ، { وَتَكُونَ لَكُمَا } أي : لك ولهارون { الْكِبْرِيَاء } أي : العظمة والرياسة { فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } .
وكثيرًا ما يذكر الله تعالى قصة موسى ، عليه السلام ، مع فرعون في كتابه العزيز ؛ لأنها من أعجب القصص ، فإن فرعون حَذر من موسى كل{[14342]} الحذر ، فسخره القدر أن رَبَّى هذا الذي يُحذَّر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد ، ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم ، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم ، وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده{[14343]} ويرجع إليه ، هذا ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان ، فجاءه برسالة الله ، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه{[14344]} السلام ، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية ، والنفس الخبيثة الأبية ، وقوى رأسه وتولّى بركنه ، وادعى ما ليس له ، وتجهرم على الله ، وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل ، والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون ، ويحوطهما ، بعنايته ، ويحرسهما بعينه التي لا تنام ، ولم تزل{[14345]} المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا{[14346]} بعد شيء ، ومرة{[14347]} بعد مرة ، مما يبهر العقول ويدهش الألباب ، مما لا يقوم له شيء ، ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله ، وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها ، وصمم فرعون وَمَلَؤه - قبحهم الله - على التكذيب بذلك كله ، والجحد والعناد والمكابرة ، حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يُرَد ، وأغرقهم في صبيحة{[14348]} واحدة أجمعين ، { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 45 ] .
وقوله تعالى : { قالوا أجئتنا } الآية ، المعنى قال قوم فرعون لموسى : أجئتنا لتصرفنا وتلوينا وتردنا عن دين آبائنا ، ويقال لفت الرجل عن الآخر إذا لواه ، ومنه قولهم : التفت فإنه افتعل من لفت عنقه ، ومنه قول رؤبة : [ الرجز ]
لفتاً وتهزيعاً سواء اللفت . . {[6189]}
وقرأ السبعة سوى أبي عمرو فإنه اختلف عنه «وتكون » بالتاء من فوق وهي قراءة جمهور الناس ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن فيما زعم خارجة وإسماعيل ، «ويكون » بالياء من تحت ورويت عن أبي عمرو وعن عاصم وهي قراءة ابن مسعود ، و { الكبرياء } : مصدر مبالغ من الكبر ، والمراد به في هذا الموضع الملك ، وكذلك قال فيه مجاهد والضحاك وأكثر المتأولين ، لأنه أعظم تكبر الدنيا ، ومنه قول الشاعر [ ابن الرقاع ] : [ الخفيف ]
مؤددا غير فاحش لا تداني*** ه تجبارة ولا كبرياء{[6190]}
الكلام على جملة : { قالوا أجئتنا } مثل الكلام على جملة : { قال موسى أتقولون } [ يونس : 77 ] .
والاستفهام في { أجئتنا } إنكاري ، بنَوا إنكارهم على تخطئة موسى فيما جاء به ، وعلى سوء ظنهم به وبهارون في الغاية التي يتطلبانها مما جاء به موسى . وإنما واجهوا موسى بالخطاب لما تقدم من أنه الذي باشر الدعوة وأظهر المعجزة ، ثم أشركاه مع أخيه هارون في سوء ظنهم بهما في الغاية من عملهما .
و { تلْفِتَنَا } مضارع لَفَتَ من باب ضرَب متعدياً : إذا صرف وجهه عن النظر إلى شيء مقابل لوجهه . والفعل القاصر منه ليس إلا لا لمطاوعة . يقال : التفت . وهو هنا مستعمل مجازاً في التحويل عن العمل أو الاعتقاد إلى غيره تحويلاً لا يبقى بعده نظر إلى ما كان ينظره ، فأصله استعارة تمثيلية ثم غلبت حتى صارت مساوية الحقيقة .
وقد جمعت صلة { ما وجدنا عليه آباءنا } كل الأحوال التي كان آباؤهم متلبسين بها . واختير التعبير ب { وَجدنا } لما فيه من الإشارة إلى أنهم نشأوا عليها وعقلوها ، وذلك مما يكسبهم تعلقاً بها ، وأنها كانت أحوال آبائهم وذلك مما يزيدهم تعلقاً بها تبعاً لمحبة آبائهم لأن محبة الشيء تقتضي محبة أحواله وملابساته .
وفي ذلك إشارة إلى أنها عندهم صواب وحق لأنهم قد اقتدوا بآبائهم كما قال تعالى : { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمَّة وإنَّا على آثارهم مقتدون } [ الزخرف : 23 ] . وقال عن قوم إبراهيم عليه السلام : { قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين } [ الأنبياء : 53 ، 54 ] ، وقد جاءهم موسى لقصد لفتهم عما وجدوا عليه آباءهم فكان ذلك محل الإنكار عندهم لأن تغيير ذلك يحسبونه إفساداً { قال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } [ الأعراف : 127 ] . والإتيان بحرف ( على ) للدلالة على تمكن آبائهم من تلك الأحوال وملازمتهم لها .
وعطف { وتكون لكما الكبرياء } على الفعل المعلَّل به ، والمعطوف هو العلة في المعنى لأنهم أرادوا أنهم تفطنوا لغرض موسى وهارون في مجيئهما إليهم بما جاءوا به ، أي أنهما يحاولان نفعاً لأنفسهما لا صلاحاً للمدعوين ، وذلك النفع هو الاستحواذ على سيادة مصر بالحيلة .
والكبرياء : العظمة وإظهار التفوق على الناس .
والأرض : هي المعهودة بينهم ، وهي أرض مصر ، كقوله : { يريد أن يخرجكم من أرضكم } [ الأعراف : 110 ] . ولما كانوا ظنوا تطلبهما للسيادة أتوا في خطاب موسى بضمير المثنى المخاطب لأن هارون كان حاضراً فالتفتوا عن خطاب الواحد إلى خطاب الاثنين . وإنَّما شرّكوا هارون في هذا الظن من حيث إنه جاء مع موسى ولم يباشر الدعوة فظنوا أنه جاء معه لينال من سيادة أخيه حظاً لنفسه .
وجملة : { وما نحن لكما بمؤمنين } عطف على جملة : { أجئتنا } . وهي في قوة النتيجة لتلك الجملة بما معها من العلة ، أي لما تبين مقصدكما فما نحن لكما بمؤمنين . وتقديم { لكما } على متعلَّقه لأن المخاطبين هما الأهم من جملة النفي لأن انتفاء إيمانهم في زعمهم كان لأجل موسى وهارون إذ توهموهما متطلبي نفع لأنفسهما . فالمراد من ضمير التثنية ذاتاهما باعتبار ما انطويا عليه من قصد إبطال دين آباء القبط والاستيلاء على سيادة بلادهم .
وصيغت جملة : { وما نحن لكما بمؤمنين } اسمية دون أن يقولوا وما نؤمن لكُما لإفادة الثبات والدوام وأن انتفاء إيمانهم بهما متقرر متمكن لا طماعية لأحد في ضده .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا أجئتنا لتلفتنا} يعني لتصدنا، {عما وجدنا عليه آباءنا}، يعني عما كانت آباؤنا تعبد، {وتكون لكما الكبرياء}، يعني موسى وهارون، الكبرياء يعني الملك، {في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين} يعني بمصدقين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال فرعون وملؤه لموسى:"أجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا" يقول: لتصرفنا وتلوينا، "عَمّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا "من قبل مجيئك من الدين، يقال منه: لفت فلان عنق فلان إذا لواها...
وقوله: "وَتَكُونَ لَكُما الكِبْرِياءُ فِي الأرْضِ" يعني العظمة، وهي الفعلياء من الكبر... عن مجاهد: "وَتَكُونَ لَكُما الكِبْرِياءُ فِي الأرْضِ" قال: السلطان في الأرض...
عن الضحاك: "وَتَكُونَ لَكُما الكِبْرِياءُ فِي الأرْضِ" قال: الطاعة...
عن مجاهد: "وَتَكُونَ لَكُما الكِبْرِياءُ فِي الأرْضِ" قال: الملك...
وهذه الأقوال كلها متقاربات المعاني، وذلك أن الملك سلطان، والطاعة ملك غير أن معنى الكبرياء هو ما ثبت في كلام العرب، ثم يكون ذلك عظمة بملك وسلطان وغير ذلك.
وقوله: "وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ" يقول: وما نحن لكما يا موسى وهارون "بمؤمنين"، يعني بمقرّين بأنكما رسولان أرسلتما إلينا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والكبرياء: استحقاق صفة الكبر في أعلى المراتب.
والألف في قوله "أجئتنا "ألف استفهام، والمراد به الإنكار على طريق اللجاج والحجاج منهم. فتعلقوا بالشبهة في أنهم على رأي آبائهم. وأن من دعاهم إلى خلافه فظاهر أمره أنه يريد التأمر عليهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ركنوا إلى تقليد آبائهم فيما عليه كانوا، واستحبُّوا استدامة ما عليه كانوا... فلحقهم شؤمُ العقيدةِ وسوءُ الطريقة حتى توهموا أن الأنبياءَ عليهم السلام إنما دَعَوْهم إلى الله لتكونَ لهم الكبرياءُ على عباد الله، ولم يعلموا أنهم إنما دَعَوْهم إلى الله بأمر الله.
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى حكى عن فرعون وقومه أنهم لم يقبلوا دعوة موسى عليه السلام، وعللوا عدم القبول بأمرين: الأول: قوله: {أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آبائنا}... واعلم أن حاصل هذا الكلام أنهم قالوا: لا نترك الدين الذي نحن عليه، لأنا وجدنا آبائنا عليه، فقد تمسكوا بالتقليد ودفعوا الحجة الظاهرة بمجرد الإصرار.
والسبب الثاني: في عدم القبول قوله: {وتكون لكما الكبرياء في الأرض} قال المفسرون: المعنى ويكون لكما الملك والعز في أرض مصر، والخطاب لموسى وهارون. قال الزجاج: سمى الملك كبرياء، لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وأيضا فالنبي إذا اعترف القوم بصدقه صارت مقاليد أمر أمته إليه، فصار أكبر القوم.
واعلم أن السبب الأول: إشارة إلى التمسك بالتقليد، والسبب الثاني: إشارة إلى الحرص على طلب الدنيا، والجد في بقاء الرياسة، ولما ذكر القوم هذين السببين صرحوا بالحكم وقالوا: {وما نحن لكما بمؤمنين}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ} هذا استفهام توريط وتقرير تجاه ما أورده موسى من استفهام الإنكار والتعجيب، فحواه أتقر وتعترف بأنك جئتنا لتصرفنا وتحولنا عما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا من الدين القومي الوطني لنتبع دينك، وتكون لك ولأخيك كبرياء الرياسة الدينية، وما يتبعها من كبرياء الملك والعظمة الدنيوية التابعة لها في أرض مصر كلها؟ يعنون أنه لا غرض لك من دعوتك إلا هذا، وإن لم تعترف به اعترافا، جعلوا الخطاب الخاص بالدعوة والغرض منها لموسى؛ لأنه هو الداعي لهم بالذات، وأشركوا معه أخاه في ثمرة الدعوة وفائدتها؛ لأنها تكون مشتركة بينهما بالضرورة.
{ومَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} أي وما نحن بمتبعين لكما اتباع إيمان وإذعان فيما يخرجنا من دين آبائنا الذين تقلده عامتنا، ويسلبنا ملكنا الذي تتمتع بكبريائه خاصتنا وهم الملك وأركان دولته وبطانته وحواشيه وهذان الأمران هما اللذان كانا يمنعان جميع الأقوام من اتباع الأنبياء والمصلحين في كل زمان.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: وجئتمونا لتكونوا أنتم الرؤساء، ولتخرجونا من أرضنا. وهذا تمويه منهم، وترويج على جهالهم، وتهييج لعوامهم على معاداة موسى، وعدم الإيمان به. وهذا لا يحتج به، من عرف الحقائق، وميز بين الأمور، فإن الحجج لا تدفع إلا بالحجج والبراهين. {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ْ} أي: تكبرًا وعنادًا، لا لبطلان ما جاء به موسى وهارون، ولا لاشتباه فيه، ولا لغير ذلك من المعاني، سوى الظلم والعدوان، وإرادة العلو الذي رموا به موسى وهارون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا يكشف الملأ عن حقيقة الدوافع التي تصدهم عن التسليم بآيات اللّه:
(قالوا: أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا، وتكون لكما الكبرياء في الأرض؟ وما نحن لكما بمؤمنين)..
وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة، التي يقوم عليها نظامهم السياسي والاقتصادي. وهو الخوف على السلطان في الأرض، هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة.
إنها العلة القديمة الجديدة، التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة الدعوات، وانتحال شتى المعاذير، ورمي الدعاة بأشنع التهم، والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة.. إنها هي "الكبرياء في الأرض "وما تقوم عليه من معتقدات باطلة يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير، بكل ما فيها من زيف، وبكل ما فيها من فساد، وبكل ما فيها من أوهام وخرافات. لأن تفتح القلوب للعقيدة الصحيحة، واستنارة العقول بالنور الجديد، خطر على القيم الموروثة، وخطر على مكانة الطغاة ورهبتهم في قلوب الجماهير، وخطر على القواعد التي تقوم عليها هذه الرهبة وتستند. إنها الخوف على السلطان القائم على الأوهام والأصنام! وعلى تعبيد الناس لأرباب من دون اللّه.. ودعوة الإسلام -على أيدي الرسل جميعاً- إنما تستهدف تقرير ربوبية اللّه وحده للعالمين؛ وتنحية الأرباب الزائفة التي تغتصب حقوق الألوهية وخصائصها، وتزاولها في حياة الناس. وما كانت هذه الأرباب المستخفة للجماهير لتدع كلمة الحق والهدى تصل إلى هذه الجماهير. ما كانت لتدع الإعلان العام الذي يحمله الإسلام بربوبية اللّه وحده للعالمين وتحرير رقاب البشر من العبودية للعباد..
ما كانت لتدع هذا الإعلان العام يصل إلى الجماهير؛ وهي تعلم أنه إعلان بالثورة على ربوبيتهم، والانقلاب على سلطانهم، والانقضاض على ملكهم، والانطلاق إلى فضاء الحرية الكريمة اللائقة بالإنسان!
إنها هي هي العلة القديمة الجديدة كلما قام من يدعو إلى اللّه رب العالمين!
وما كان رجال من أذكياء قريش مثلاً ليخطئوا إدراك ما في رسالة محمد -[ص]- من صدق وسمو، وما في عقيدة الشرك من تهافت وفساد. ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم الموروثة، القائمة على ما في تلك العقيدة من خرافات وتقاليد. كما خشي الملأ من قوم فرعون على سلطانهم في الأرض، فقالوا متبجحين:
وهنا نجد سحرة فرعون ينسبون مجيء معجزة تحول العصا إلى حية، ينسبونها لموسى-عليه السلام-رغم أمن موسى عليه السلام قد نسب مجيء المعجزة إلى الله تعالى.
وكان واجب المرسل إليه-فرعون وملئه أن ينظر إلى ما جاءه به الرسول، لا إلى شخصية الرسول.
ولو قال فرعون لموسى:"جيء بك" لكان معنى ذلك أن فرعون يعلن الإيمان بأن هناك إلها أعلى، ولكن فرعون لم يؤمن لحظتها؛ لذلك جاء قوله: {أجئتنا} فنسب المجيء على لسان فرعون لموسى عليه السلام.
يقول الحق سبحانه على لسان فرعون وقومه: {أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا}: والالتفات هو تحويل الوجه عن شيء مواجه له، وما دام الإنسان بصدد شيء؛ فكل نظره واتجاهه يكون إليه، وكان قوم فرعون على فساد وضلال، وليس أمامهم إلا ذلك الفساد وذلك الضلال.
وجاء موسى عليه السلام؛ ليصرف وجوههم عن ذلك الفساد والضلال، فقالوا: {أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا}: وهكذا يكشفون حقيقة موقفهم، فقد كانوا يقلدون آباءهم، والتقليد يريح المقلّد، فلا يعمل عقله أو فكره في شيء ليقتنع به، ويبني عليه سلوكه...
والمقلد إنما يعطل فكره، ولا يختار بين البدائل، ولا يميز الصواب ليفعله، ولا يعرف الخطأ فيتجنَّبه.
وفرعون وملأه كانوا على ضلال، هو نفس ضلال الآباء، والضلال لا يكلف الإنسان تعب التفكير ومشقة الاختيار، بل قد يحقق شهوات عاجلة.
أما تمييز الصواب من الخطأ وإتباع منهج السماء، فهو يحجب الشهوة، ويلزم الإنسان بعدم الانفلات عكس الضلال الذي يطيل أمد الشهوة. إذن: فالمقلد بين حالتين:
الحالة الأولى: أنه لا يعمل عقله، بل يفعل مثل من سبقوه، أو مثل من يحيا بينهم.
والحالة الثانية: أنه رأى أن ما يفعله الناس لا يلزمه بتكليف، ولكن الرسول الذي يأتي إنما يلزمه بمنهج، فلا يكسب-على سبيل المثال- إلا من حلال، ولا يفعل منكرا، ولا يذم أحدا، وهكذا يقيد المنهج حركته، لكن إن اتبع حركة آبائه الضالين، فالحركة تتسع ناحية الشهوات.
ولذلك أقول دائما: إن مسألة التقليد هذه يجب أن تلفت إلى قانون التربية، فالنشء ما دام لم يصل إلى البلوغ فأنت تلاحظ أنه بلا ذاتية ويقلد الآباء، لكن فور أن تتكون له ذاتية يبدأ في التمرد، وقد يقول للآباء: أنتم لكم تقاليد قديمة لا تصلح لهذا الزمان، لكن إن تشرب النشء القيم الدينية الصحيحة؛ فسيمتثل لقانون الحق، ويحجز نفسه عن الشهوات...
ثم إن تقليد الآباء قد يجعل الأبناء مجرد نسخ مكررة من آبائهم، أما تدريب وتربية الأبناء على إعمال العقل في كل الأمور، فهذه هي التنشئة التي تتطور بها المجتمعات إلى الأفضل إن اتبع الآباء منهج الله تعالى، وتتكون ذاتية الإبن على ضوء منهج الحق سبحانه، فلا يتمرد الابن متجها إلى الشر، بل قد يتمرد إلى تطوير الصالح ليزيده صلاحا.
التقليد-إذن-يحتاج إلى بحث دقيق؛ لأن الإنسان الذي سوف تقلده، لن يكون مسئولا عنك؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو القائل: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن والده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا} [لقمان 33]: إذن: فأمر الابن يجب أن يكون نابعا من ذاته، وكذلك أمر الأب، وعلى كل إنسان أن يعمل عقله بين البدائل.
ولذلك تجد القرآن الكريم يقول على ألسنة من قلدوا الآباء: {وإذ قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} [البقرة 170]: فإذا كانت المسألة مسألة تقليد، فلماذا يتعلم الإبن؟...
فالتقليد هو إلغاء العقل والفكر، وفي إلغائهما إلغاء التطور والتقدم نحو الأفضل.
إذن: فالقرآن يحثنا على أن نستخدم العقل؛ لنختار بين البدائل، وإذا كان المنهج قد جاء من السماء، فلتهتد بما جاء لك ممن هو فوقك، وهذا الاهتداء المختار هو السمو نحو الحياة الفاضلة...
وهنا يقول الحق سبحانه على لسان فرعون وقومه: {قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض}: أي: هل جئت لتصرفنا، وتحوّل وجوهنا أو جهتنا أو طريقنا وتأخذنا عن وجهة آبائنا الذين نقلدهم} لتأخذ أنت وأخوك الكبرياء في الأرض؟
وهكذا يتضح أنهم يعتقدون أن الكبرياء الذي لهم في الأرض قد تحقق لهم بتقليدهم آباءهم، وهم يحبون الحفاظ عليه، والأمر هنا يشمل نقطتين:
الأولى: هي ترك ما وجدوا عليه الآباء.
والثانية: هيب الكبرياء والعظمة في الأرض...
وهم هنا وجدوا في دعوة موسى عليه السلام مصيبة مركبة.
والثانية: هي سلب الكبرياء، أي: السلطة الزمنية والجاه والسيادة والعظمة والائتمار، والمصالح المقضية، فكل واحد من بطانة الفرعون يأخذ حظه حسب اقترابه من الفرعون.
ولذلك أعلنوا عدم الإيمان، وقالوا ما ينهي به الحق سبحانه الآية الكريمة التي نحن بصددها: {وما نحن لكما بمؤمنين}: أي: أن قوم فرعون والملأ أقرُّوا بما حرصوا عليه من مكاسب الدنيا والكبرياء فيها، ورفضوا الإيمان بما جاء به موسى وهارون-عليهما السلام.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هؤلاء الذين واجهوا موسى لم ينطلقوا من موقع التفكير والإخلاص للحقيقة عندما أنكروا عليه ذلك، وقالوا له: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ثم وجهوا خطابهم إلى موسى وهارون معاً، {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِي الأرضِ} لأنهم يظنون أن الناس مثلهم لا ينطلقون من قاعدة الحق عندما يعارضون، بل يعتبرون الدعوة الجديدة التي يثيرونها في الساحة وسيلةً من وسائل الإمساك بالسلطة، والحصول على الامتيازات الاجتماعية والسياسية، والوصول إلى مواقع الكبرياء في الأرض، وبهذا كان موقفهم من موسى وهارون، هو موقف الذي يدافع عن امتيازاته، بمواجهة الامتيازات التي يريد الآخرون أن يكتسبوها في طموحاتهم وأطماعهم، ولهذا أطلقوا الصرخة في وجه الرسولين الأخوين {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} فافعلا ما تريدان، فلن نستمع لكما، ولن نفكر في ما تقولانه، لأننا لن نتنازل عما نحن عليه من عقيدة وسلطة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في الحقيقة، إِنّ هؤلاء لما كانوا يسعون دائماً من أجل الحكم الظالم على الناس، كانوا يظنون أنّ الآخرين مثلهم، وهكذا كانوا يفسرون مساعي المصلحين والأنبياء. (وما نحن لكما بمؤمنين) لأنا على علم بنواياكم و خططكم الهدامة. وكانت هذه هي المرحلة الأُولى من المواجهة السلبية مع موسى.