قوله تعالى : { ويا قوم لا يجرمنكم } ، لا يحملنكم ، { شقاقي } ، خلافي { أن يصيبكم } ، أي : على فعل ما أنهاكم عنه ، { مثل ما أصاب قوم نوح } ، من الغرق ، { أو قوم هود } ، من الريح ، { أو قوم صالح } ، من الصيحة ، { وما قوم لوط منكم ببعيد } ، وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط . وقيل معناه وما دار قوم لوط منكم ببعيد ، وذلك أنهم كانوا جيران قوم لوط .
( ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح . وما قوم لوط منكم ببعيد ) . .
لا يجملنكم الخلاف معي والعناد في مواجهتي على أن تلجوا في التكذيب والمخالفة ، خشية أن يصيبكم ما أصاب الأقوام قبلكم . وهؤلاء قوم لوط قريب منكم في المكان . وقريب كذلك في الزمان . فمدين كانت بين الحجاز والشام .
يقول لهم : { وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي } أي : لا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد ، فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط من النقمة والعذاب .
قال قتادة : { وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي } يقول : لا يحملنكم فراقي .
وقال السدي : عداوتي ، على أن تتمادوا في الضلال والكفر ، فيصيبكم من العذاب ما أصابهم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج ، حدثنا ابن أبي غَنيَّة ، حدثني عبد الملك بن أبي سليمان ، عن أبي ليلى الكندي قال : كنت مع مولاي أمسك دابته ، وقد أحاط الناس بعثمان بن عفان ؛ إذ أشرف علينا من داره فقال : { وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ } يا قوم ، لا تقتلوني ، إنكم إن تقتلوني كنتم هكذا ، وشَبَّك بين أصابعه .
وقوله : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ } [ قيل : المراد في الزمان ، كما قال قتادة في قوله : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ } يعني ]{[14889]} إنما أهلكوا{[14890]} بين أيديكم بالأمس ، وقيل : في المكان ، ويحتمل الأمران ،
{ ويا قوم لا يجرمنّكم } لا يكسبنكم . { شِقاقي } معاداتي . { أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح } من الغرق . { أو قوم هود } من الريح . { أو قوم صالح } من الرجفة و{ أن } بصلتها ثاني مفعولي جزم ، فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب . وعن ابن كثير " يجرمنكم " بالضم وهو منقول من المتعدي إلى مفعول واحد ، والأول أفصح فإن أجرم أقل دورانا على ألسنة الفصحاء . وقرئ { مثل } بالفتح لإضافته إلى المبني كقوله :
لم يُمنع الشّرب منها غير أن نطقت *** حمامة ف يغصون ذات أرقالِ
{ وما قوم لوط منكم ببعيد } زمانا أو مكانا فإن لم تعتبروا بمن قبلهم فاعتبروا بهم ، أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي فلا يبعد عنكم ما أصابهم ، وإفراد البعيد لأن المراد وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد ، ولا يبعد أن يسوى في أمثاله بين المذكر والمؤنث لأنها على زنة المصادر كالصهيل والشهيق .
{ لا يجرمنكم } معناه : لا يكسبنكم ، يقال : جرمه كذا وكذا وأجرمه إذا أكسبه ، كما يقال : كسب وأكسب بمعنى{[6477]} ، ومن ذلك قول الشاعر :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة*** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا{[6478]}
وقرأ الجمهور «يَجرمنكم » بفتح الياء ، وقرأ الأعمش وابن وثاب «يُجرمنكم » بضمها ، و { شقاقي } معناه : مشاقتي وعداوتي{[6479]} ، و { أن } مفعولة ب { يجرمنكم } .
وكانت قصة قوم لوط أقرب القصص عهداً بقصة قوم شعيب ، وقد يحتمل أن يريد وما منازل قوم لوط منكم ببعيد ، فكأنه قال : وما قوم لوط منكم ببعيد بالمسافة ، ويتضمن هذا القول ضرب المثل لهم بقوم لوط .
وقرأ الجمهور «مثلُ » بالرفع على أنه فاعل { يصبكم } وقرأ مجاهد والجحدري وابن أبي إسحاق «مثلَ » بالنصب ، وذلك على أحد وجهين : إما أن يكون «مثل » فاعلاً ، وفتحة اللام فتحة بناء لما أضيف لغير متمكن ، فإن «مثل » قد يجري مجرى الظروف في هذا الباب وإن لمن يكن ظرفاً محضاً .
وإما أن يقدر الفاعل محذوفاً يقتضيه المعنى ، ويكون «مثلَ » منصوباً على النعت لمصدر محذوف تقديره : إصابة مثل .