{ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } أي : يا ذرية من مننا عليهم وحملناهم مع نوح ، { إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } ففيه التنويه بالثناء على نوح عليه السلام بقيامه بشكر الله واتصافه بذلك والحث لذريته أن يقتدوا به في شكره ويتابعوه عليه ، وأن يتذكروا نعمة الله عليهم إذ{[467]} أبقاهم واستخلفهم في الأرض وأغرق غيرهم .
ولقد خاطبهم باسم آبائهم الذين حملهم مع نوح ، وهم خلاصة البشرية على عهد الرسول الأول في الأرض . خاطبهم بهذا النسب ليذكرهم باستخلاص الله لآبائهم الأولين ، مع نوح العبد الشكور ، وليردهم إلى هذا النسب المؤمن العريق .
ووصف نوحا بالعبودية لهذا المعنى ولمعنى آخر ، هو تنسيق صفة الرسل المختارين وإبرازها . وقد وصف بها محمدا [ ص ] من قبل . على طريقة التناسق القرآنية في جو السورة وسياقها .
ثم قال : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } تقديره : يا ذرية من حملنا مع نوح . فيه تهييج وتنبيه على المنة ، أي : يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة ، تشبهوا بأبيكم ، { إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } فاذكروا أنتم نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمدًا صلى الله عليه وسلم . وقد ورد في الحديث وفي الأثر عن السلف : أن نوحًا ، عليه السلام ، كان يحمد الله [ تعالى ]{[17225]} على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله ؛ فلهذا سمي عبدًا شكورًا .
قال : الطبراني حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن أبي حُصَين ، عن عبد الله بن سنان ، عن سعد بن مسعود الثقفي قال : إنما سمي نوح عبدًا شكورًا ؛ لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله{[17226]} .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو أسامة ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة ، عن سعيد بن أبي بُرْدَة ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها " .
وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريق أبي أسامة ، به{[17227]} .
وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : كان يحمد الله على كل حال .
وقد ذكر البخاري هنا حديث أبي زُرْعَة ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[17228]} ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنا سيد الناس يوم القيامة - بطوله ، وفيه - : فيأتون نوحًا فيقولون : يا نوح ، أنت{[17229]} أول الرسل إلى أهل الأرض ، وقد سماك الله عبدًا شكورًا ، اشفع لنا إلى ربك " وذكر الحديث بكماله{[17230]} .
{ ذرية من حملنا مع نوح } نصب على الاختصاص أو النداء أن قرى " أن لا تتخذوا " بالتاء على النهي يعني : قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا ، أو على أنه أحد مفعولي { لا تتخذوا } و{ من دوني } حال من { وكيلا } فيكون كقوله : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً } وقرئ بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من واو { تتخذوا } ، و{ ذرية } بكسر الذال . وفيه تذكير بإنعام الله تعالى عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح عليه السلام في السفينة . { إنه } إن نوحا عليه السلام . { كان عبدا شكورا } يحمد الله تعالى على مجامع حالاته ، وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره ، وحث للذرية على الاقتداء به . وقيل الضمير لموسى عليه الصلاة والسلام .
وقرأ جمهور الناس «ذُرية » بضم الذال وقرأ مجاهد بفتحها ، وقرأ زيد بن ثابت وأبان بن عثمان ومجاهد أيضاً بكسرها ، وكل هذا بشد الراء والياء ، ورويت عن زيد بن ثابت بفتح الذال وتسهيل الراء وشد الياء على وزن فعيلة ، و { ذرية } وزنها فعولة ، أصلها ذرورة ، أبدلت الراء الثانية ياء كما قالوا قصيت شعري أي قصصته ، ثم قلبت الواو ياء وأدغمت ثم كسرت الراء لتناسب الياء ، وكل هؤلاء قرؤوا { ذرية } بالنصب ، وذلك متجه إما على المفعول ب «يتخذوا » ويكون المعنى أن لا يتخذ بشر إلهاً من دون الله ، وإما على النداء أي يا ذرية ، فهذه مخاطبة للعالم ، قال قوم : وهذا لا يتجه إلا على قراءة من قرأ «تتخذوا » بالتاء من فوق ، ولا يجوز على قراءة من قرأ «ويتخذوا » بالياء لأن الفعل الغائب والنداء لمخاطب والخروج من الغيبة إلى الخطاب إنما يستسهل مع دلالة الكلام على المراد ، وفي النداء لا دلالة إلا على التكلف ، وإما على النصب بإضمار أعني وذلك متجه على القراءتين على ضعف النزعة في إضمار أعني ، وإما على البدل من قوله { وكيلاً } وهذا أيضاً فيه تكلف ، وقرأت فرقة «ذريةٌ » بالرفع على البدل من الضمير المرفوع في «يتخذوا » وهذا إنما يتوجه على القراءة بالياء ، ولا يجوز على القراءة بالتاء لأنك لا تبدل من ضمير مخاطب لو قلت : ضربتك زيداً على البدل لم يجز ، وقوله : { ذرية من حملنا مع نوح } إنما عبر بهذه العبارة عن الناس الذين عناهم في الآية بحسب الخلاف المذكور لأن في هذه العبارة تعديد النعمة على الناس في الإنجاء المؤدي إلى وجودهم ، ويقبح الكفر والعصيان مع هذه النعمة ، والذين حملوا مع نوح وأنسلوا هم بنوه لصلبه لأنه آدم الأصغر ، وكل من على الأرض اليوم من نسله هذا قول الجمهور ذكره الطبري عن قتادة ومجاهد وإن كان معه غيرهم فلم ينسل قال النقاش : اسم نوح عبد الجبار ، وقال ابن الكلبي : اسمه فرج ، ووصفه ب «الشكر » لأنه كان يحمد الله في كل حال وعلى كل نعمة على المطعم والمشرب والملبس والبراز وغير ذلك صلى الله عليه وسلم ، قاله سلمان الفارسي وسعيد بن مسعود وابن أبي مريم وقتادة ،