{ 10-12 } { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
يقول تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ } من أصول دينكم وفروعه ، مما لم تتفقوا عليه { فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } يرد إلى كتابه ، وإلى سنة رسوله ، فما حكما به فهو الحق ، وما خالف ذلك فباطل . { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي } أي : فكما أنه تعالى الرب الخالق الرازق المدبر ، فهو تعالى الحاكم بين عباده بشرعه في جميع أمورهم .
ومفهوم الآية الكريمة ، أن اتفاق الأمة حجة قاطعة ، لأن اللّه تعالى لم يأمرنا أن نرد إليه إلا ما اختلفنا فيه ، فما اتفقنا عليه ، يكفي اتفاق الأمة عليه ، لأنها معصومة عن الخطأ ، ولا بد أن يكون اتفاقها موافقا لما في كتاب اللّه وسنة رسوله .
وقوله : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي : اعتمدت بقلبي عليه في جلب المنافع ودفع المضار ، واثقا به تعالى في الإسعاف بذلك . { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي : أتوجه بقلبي وبدني إليه ، وإلى طاعته وعبادته .
وهذان الأصلان ، كثيرا ما يذكرهما اللّه في كتابه ، لأنهما يحصل بمجموعهما كمال العبد ، ويفوته الكمال بفوتهما أو فوت أحدهما ، كقوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ }
ثم يعود إلى الحقيقة الأولى ، لبيان الجهة التي يرجع إليها عند كل اختلاف . وهي هذا الوحي الذي جاء من عند الله يتضمن حكم الله كي لا يكون للهوى المتقلب أثر في الحياة بعد ذلك المنهج الإلهي القويم :
( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله . ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب . فاطر السماوات والأرض ، جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً ، يذرؤكم فيه ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير . له مقاليد السماوات والأرض ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، إنه بكل شيء عليم ) . .
وطريقة إيراد هذه الحقائق وتسلسلها وتجمعها في هذه الفقرة طريقة عجيبة ، تستحق التدبر . فالترابط الخفي والظاهر بين أجزائها ترابط لطيف دقيق .
إنه يرد كل اختلاف يقع بين الناس إلى الله : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) . . والله أنزل حكمه القاطع في هذا القرآن ؛ وقال قوله الفصل في أمر الدنيا والآخرة ؛ وأقام للناس المنهج الذي اختاره لهم في حياتهم الفردية والجماعية ، وفي نظام حياتهم ومعاشهم وحكمهم وسياستهم ، وأخلاقهم وسلوكهم . وبيّن لهم هذا كله بياناً شافيا . وجعل هذا القرآن دستوراً شاملاً لحياة البشر ، أوسع من دساتير الحكم وأشمل . فإذا اختلفوا في أمر أو اتجاه فحكم الله فيه حاضر في هذا الوحي الذي أوحاه إلى رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] لتقوم الحياة على أساسه .
وعقب تقرير هذه الحقيقة يحكي قول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مسلما أمره كله لله ، منيبا إلى ربه بكليته :
( ذلكم الله ربي عليه توكلت ، وإليه أنيب ) . .
فتجيء هذه الإنابة ، وذاك التوكل ، وذلك الإقرار بلسان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في موضعها النفسي المناسب للتعقيب على تلك الحقيقة . . . فها هو ذا رسول الله ونبيه يشهد أن الله هو ربه ، وأنه يتوكل عليه وحده ، وأنه ينيب إليه دون سواه . فكيف يتحاكم الناس إذن إلى غيره عند اختلافهم في شيء من الأمر ، والنبي المهدي لا يتحاكم إلا إليه ، وهو أولى من يتحاكم الناس إلى قوله الفصل ، لا يتلفتون عنه لحظة هنا أو هناك ? وكيف يتجهون في أمر من أمورهم وجهة أخرى ، والنبي المهدي يتوكل على الله وحده ، وينيب إليه وحده ، بما أنه هو ربه ومتولي أمره وكافله وموجهه إلى حيث يختار ?
واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن ينير له الطريق ويحدد معالمه ، فلا يتلفت هنا أو هناك . ويسكب فيه الطمأنينة إلى طريقه ، والثقة بمواقع خطواته ، فلا يتشكك ولا يتردد ولا يحتار . ويشعره أن الله راعيه وحاميه ومسدد خطاه في هذا الاتجاه . والنبي المهدي سالك هذا الطريق إلى الله .
واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن يرفع من شعوره بمنهجه وطريقه ، فلا يجد أن هناك منهجاً آخر أو طريقاً يصح أن يتلفت إليه ؛ ولا يجد أن هنالك حكماً غير قول الله وحكمه يرجع عند الاختلاف إليه . والنبي المهدي ينيب إلى ربه الذي شرع هذا المنهج وحكم هذا الحكم .
ثم قال : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } أي : مهما اختلفتم فيه من الأمور وهذا عام في جميع الأشياء ، { فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } أي : هو الحاكم فيه بكتابه ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، كقوله : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [ النساء : 59 ] . .
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي } أي : الحاكم في كل شيء ، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي : أرجع في جميع الأمور .
{ وما اختلفتم } أنتم والكفار . { فيه من شيء } من أمر من أمور الدنيا أو الدين . { فحكمه إلى الله } مفوض إليه يميز المحق من المبطل بالنصر أو بالإثابة والمعاقبة . وقيل { وما اختلفتم فيه } من تأويل متشابه فارجعوا فيه إلى المحكم من كتاب الله . { ذلكم الله ربي عليه توكلت } في مجامع الأمور . { وإليه أنيب } إليه أرجع في المعضلات .