في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَمَا ٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِيهِ مِن شَيۡءٖ فَحُكۡمُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ} (10)

ثم يعود إلى الحقيقة الأولى ، لبيان الجهة التي يرجع إليها عند كل اختلاف . وهي هذا الوحي الذي جاء من عند الله يتضمن حكم الله كي لا يكون للهوى المتقلب أثر في الحياة بعد ذلك المنهج الإلهي القويم :

( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله . ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب . فاطر السماوات والأرض ، جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً ، يذرؤكم فيه ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير . له مقاليد السماوات والأرض ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، إنه بكل شيء عليم ) . .

وطريقة إيراد هذه الحقائق وتسلسلها وتجمعها في هذه الفقرة طريقة عجيبة ، تستحق التدبر . فالترابط الخفي والظاهر بين أجزائها ترابط لطيف دقيق .

إنه يرد كل اختلاف يقع بين الناس إلى الله : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) . . والله أنزل حكمه القاطع في هذا القرآن ؛ وقال قوله الفصل في أمر الدنيا والآخرة ؛ وأقام للناس المنهج الذي اختاره لهم في حياتهم الفردية والجماعية ، وفي نظام حياتهم ومعاشهم وحكمهم وسياستهم ، وأخلاقهم وسلوكهم . وبيّن لهم هذا كله بياناً شافيا . وجعل هذا القرآن دستوراً شاملاً لحياة البشر ، أوسع من دساتير الحكم وأشمل . فإذا اختلفوا في أمر أو اتجاه فحكم الله فيه حاضر في هذا الوحي الذي أوحاه إلى رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] لتقوم الحياة على أساسه .

وعقب تقرير هذه الحقيقة يحكي قول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مسلما أمره كله لله ، منيبا إلى ربه بكليته :

( ذلكم الله ربي عليه توكلت ، وإليه أنيب ) . .

فتجيء هذه الإنابة ، وذاك التوكل ، وذلك الإقرار بلسان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في موضعها النفسي المناسب للتعقيب على تلك الحقيقة . . . فها هو ذا رسول الله ونبيه يشهد أن الله هو ربه ، وأنه يتوكل عليه وحده ، وأنه ينيب إليه دون سواه . فكيف يتحاكم الناس إذن إلى غيره عند اختلافهم في شيء من الأمر ، والنبي المهدي لا يتحاكم إلا إليه ، وهو أولى من يتحاكم الناس إلى قوله الفصل ، لا يتلفتون عنه لحظة هنا أو هناك ? وكيف يتجهون في أمر من أمورهم وجهة أخرى ، والنبي المهدي يتوكل على الله وحده ، وينيب إليه وحده ، بما أنه هو ربه ومتولي أمره وكافله وموجهه إلى حيث يختار ?

واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن ينير له الطريق ويحدد معالمه ، فلا يتلفت هنا أو هناك . ويسكب فيه الطمأنينة إلى طريقه ، والثقة بمواقع خطواته ، فلا يتشكك ولا يتردد ولا يحتار . ويشعره أن الله راعيه وحاميه ومسدد خطاه في هذا الاتجاه . والنبي المهدي سالك هذا الطريق إلى الله .

واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن يرفع من شعوره بمنهجه وطريقه ، فلا يجد أن هناك منهجاً آخر أو طريقاً يصح أن يتلفت إليه ؛ ولا يجد أن هنالك حكماً غير قول الله وحكمه يرجع عند الاختلاف إليه . والنبي المهدي ينيب إلى ربه الذي شرع هذا المنهج وحكم هذا الحكم .