ثم فسر ذلك بقوله : { يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ } أي : في انتشارهم وتفرقهم ، وذهابهم ومجيئهم ، من حيرتهم مما هم فيه ، كأنهم فراش مبثوث{[30424]} كما قال في الآية الأخرى : { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ } .
وقوله : { يَوْمَ يَكُونُ النّاسُ كالْفَرَاشِ المَبْثُوثِ } يقول تعالى ذكره : القارعة يوم يكون الناس كالفَراش ، وهو الذي يتساقط في النار والسراج ، ليس ببعوض ولا ذباب ، ويعني بالمبثوث : المفرّق . وكالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { يَوْمَ يَكُونُ النّاسُ كالفَرَاشِ المَبْثُوثِ } هذا الفراش الذي رأيتم يتهافت في النار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { يَوْمَ يَكُونُ النّاسُ كالْفَرَاشِ المَبْثُوثِ } قال : هذا شَبَه شبهه الله .
وكان بعض أهل العربية يقول : معنى ذلك : كغوغاء الجراد ، يركب بعضه بعضا ، كذلك الناس يومئذ ، يجول بعضهم في بعض .
و «الفراش » : طير دقيق يتساقط في النار ويقصدها ، ولا يزال يقتحم على المصباح ونحوه حتى يحترق ، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «أنا آخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم تقتحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب{[11958]} » ، وقال الفراء : «الفراش » في الآية : غوغاء الجراد ، وهو صغيره الذي ينتشر في الأرض والهواء ، و { المبثوث } هنا معناه : المتفرق ، جمعه وجملته موجودة متصلة ، وقال بعض العلماء : الناس أول قيامهم من القبور { كالفراش المبثوث } ؛ لأنهم يجيئون ويذهبون على غير نظام ، يدعوهم الداعي فيتوجهون إلى ناحية المحشر فهم حينئذ كالجراد المنتشر ؛ لأن الجراد إنما توجهه إلى ناحية مقصودة .
{ يوم } مفعول فيه منصوب بفعل مضمر دل عليه وصف القارعة لأنه في تقدير : تَقْرع ، أو دل عليه الكلام كله فيقدر : تكون ، أو تحصل ، يوم يكون الناس كالفراش .
وجملة : { يوم يكون الناس } مع متعلقها المحذوف بيان للإِبهامين اللذين في قوله : { ما القارعة } [ القارعة : 2 ] وقوله : { وما أدراك ما القارعة } [ القارعة : 3 ] .
وليس قوله : { يوم يكون الناس } خبراً عن { القارعة } إذ ليس سياق الكلام لتعيين يوم وقوع القارعة .
والمقصود بهذا التوقيت زيادة التهويل بما أضيف إليه { يوم } من الجملتين المفيدتين أحوالاً هائلة ، إلا أن شأن التوقيت أن يكون بزمان معلوم ، وإذ قد كان هذا الحال الموقت بزمانه غير معلوم مَداه . كان التوقيت لهُ إطماعاً في تعيين وقت حصوله إذ كانوا يَسألون متى هذا الوعد ، ثم توقيته بما هو مجهول لهم إبهاماً آخر للتهويل والتحذير من مفاجأته ، وأبرز في صورة التوقيت للتشويق إلى البحث عن تقديره ، فإذا باء الباحث بالعجز عن أخذ بحيطة الاستعداد لحلوله بما ينجيه من مصائبه التي قرَعتْ به الأسماع في آي كثيرة .
فحصل في هذه الآية تهويل شديد بثمانية طرق : وهي الابتداء باسم القارعة ، المؤذن بأمر عظيم ، والاستفهام المستعمل في التهويل ، والإِظهار في مقام الإِضمار أول مرة ، والاستفهامُ عما ينْبىءُ بكنه القارعة ، وتوجيهُ الخطاب إلى غير معين ، والإِظهار في مقام الإِضمار ثاني مرة ، والتوقيتُ بزمان مجهولٍ حصوله وتعريف ذلك الوقت بأحوال مهولة .
والفَراش : فرخ الجَراد حين يخرُج من بيضه من الأرض يَركب بعضه بعضاً وهو ما في قوله تعالى : { يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر } [ القمر : 7 ] . وقد يطلق الفراش على ما يطير من الحشرات ويتساقط على النار ليْلاً وهو إطلاق آخر لا يناسب تفسيرُ لفظ الآية هنا به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عنها ، فقال :{ يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } يقول : إذا خرجوا من قبورهم تجول بعضهم في بعض ، فشبههم بالفراش المبثوث .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره : القارعة يوم يكون الناس كالفَراش ، وهو الذي يتساقط في النار والسراج ، ليس ببعوض ولا ذباب ، ويعني بالمبثوث : المفرّق ... وكان بعض أهل العربية يقول : معنى ذلك : كغوغاء الجراد ، يركب بعضه بعضا ، كذلك الناس يومئذ ، يجول بعضهم في بعض .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلفوا في تأويله من وجوه ، لكنه في الحاصل يرجع إلى معنى واحد : فمنهم من قال : أي كالجراد المنتشر حين أرادت الطيران ، ومنهم من قال : كالجراد الذي يموج بعضهم في بعض ، ومنهم من قال : { كالفراش المبثوث } الذي يتهافت في النار ، فيحترق . وكل ذلك يؤدي معنى الحيرة والاضطراب من هول ذلك اليوم . وأصل ذلك قوله تعالى : { وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } ( الحج : 2 ) فكأن الله تعالى قال : إنهم يصيرون في الحيرة من هول ذلك اليوم وشدته كالطائر الذي لا يدري أين يطير ؟ وأين يثبت ؟ وأين ينزل ؟ ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...والمبثوث : المتفرق في الجهات ، كأنه محمول على الذهاب فيها ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة ، والتطاير إلى الداعي من كل جانب ، كما يتطاير الفراش إلى النار ... وفي أمثالهم : أضعف من فراشة ، وأذل وأجهل . وسمى فراشا : لتفرّشه وانتشاره .
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «الفراش » : طير دقيق يتساقط في النار ويقصدها ، ولا يزال يقتحم على المصباح ونحوه حتى يحترق ... وقال بعض العلماء : الناس أول قيامهم من القبور { كالفراش المبثوث } ؛ لأنهم يجيئون ويذهبون على غير نظام ، يدعوهم الداعي فيتوجهون إلى ناحية المحشر فهم حينئذ كالجراد المنتشر ؛ لأن الجراد إنما توجهه إلى ناحية مقصودة .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فحصل في هذه الآية تهويل شديد بثمانية طرق : وهي الابتداء باسم القارعة ، المؤذن بأمر عظيم ، والاستفهام المستعمل في التهويل ، والإِظهار في مقام الإِضمار أول مرة ، والاستفهامُ عما ينْبئ بكنه القارعة ، وتوجيهُ الخطاب إلى غير معين ، والإِظهار في مقام الإِضمار ثاني مرة ، والتوقيتُ بزمان مجهولٍ حصوله وتعريف ذلك الوقت بأحوال مهولة . ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«الفراش » جمع فراشة ، وهي الحشرة المعروفة ذات الألوان الزاهية ، وقيل : إنّها الجراد . ويبدو أنّ هذا المعنى مستلهم من قوله تعالى حيث يصف النّاس يوم القيامة : { كأنّهم جراد منتشر } ، لكن المعنى اللغوي للكلمة هو الحشرة المعروفة . والتشبيه بالفراش قد يكون لأن هذه الحشرات تلقي بنفسها بشكل جنوني في النّار ، وهذا ما يفعله أهل السيئات ؛ إذ يلقون بأنفسهم في جهنّم . ويحتمل أن يكون التشبيه لما يصيب جميع النّاس في ذلك اليوم من حيرة . وإن كان الفراش بمعنى الجراد ، فوجه التشبيه هو أنّ الجراد خلافاً لكل الحيوانات التي تطير بشكل جماعي ليس لها مسير مشخص في حركتها ، وكل منها يطير في اتجاه . ...