اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَوۡمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ كَٱلۡفَرَاشِ ٱلۡمَبۡثُوثِ} (4)

قوله : { يَوْمَ يَكُونُ } . في ناصب «يَوْمَ » أوجه :

أحدها : مضمر يدلّ عليه القارعة ، أي : تقرعهم يوم يكون ، وقيل : تقديره : تأتي القارعة يوم .

الثاني : أنه " اذكر " مقدراً ، فهو مفعول به لا ظرف .

الثالث : أنه «القَارِعَةُ » ، قاله ابن{[60744]} عطية ، وأبو البقاء{[60745]} ، ومكيٌّ .

قال أبو حيان{[60746]} : فإن كان عنى ابن عطيَّة اللفظ الأول ، فلا يجوز ، للفصل بين العاملين وهو في صلة «أل » ، والمعمول بأجنبي ، وهو الخبر ، وإن جعل القارعة علماً للقيامة ، فلا يعمل أيضاً ، وإن عنى الثاني والثالث ، فلا يلتئم معنى الظرفية معه .

الرابع : أنه فعل مقدر رافع للقارعة الأولى ، كأنه قيل : تأتي القارعة يوم يكون . قاله مكي . وعلى هذا يكون ما بينهما اعتراضاً ، وهو بعيد جداً ، منافر لنظم الكلامِ .

وقرأ زيد{[60747]} بن علي : «يَوْمُ » بالرفع ، خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : وقتها يوم .

قوله : «كالفَراشِ » . يجوز أن يكون خبراً للناقصة ، وأن يكون حالاً من فاعل التامة ، أي : يؤخذون ويحشرون شبه الفراش ، وهو طائر معروف .

وقال قتادة : الفراش : الطَّير الذي يتساقط في النار والسراج ، الواحدة : فراشة .

وقال الفراءُ : هو الهمج من البعوض والجراد وغيرهما ، وبه يضرب المثل في الطّيش والهوج ، يقال : أطيش من فراشة ؛ وأنشد : [ البسيط ]

5288- فَراشَةُ الحِلْمِ فِرعَوْنُ العَذابُ وإنْ *** يَطلُبْ نَداهُ فَكَلْبٌ دُونَهُ كُلُبُ{[60748]}

وقال آخر : [ الطويل ]

5289- وقَدْ كَانَ أقْوَامٌ رَدَدْتَ قُلوبَهُمْ*** عَليْهِمْ وكَانُوا كالفَراشِ مِنَ الجَهْلِ{[60749]}

وقال آخر : [ الرجز ]

5290- طُويِّشٌ من نَفرٍ أطْيَاشِ*** أطْيَشُ من طَائرةِ الفَراشِ{[60750]}

والفراشة : الماءُ القليلُ في الإناء ، وفراشة القُفل لشبهها بالفراشة ، وروى «مسلم » عن جابر - رضي الله عنه - قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «مَثلِي ومَثلكُمْ كَمَثلِ رجُلٍ أوْقدَ نَاراً ، فجعَلَ الجنَادِبُ والفراشُ يَقعْنَ فِيهَا وهو يذُبُّهُنَّ عَنْهَا ، وأنَا آخِذٌ بحُجَزِكُمْ عَن النَّارِ ، وأنْتُمْ تَفْلتُونَ مِنْ يَدِي »{[60751]} .

في تشبيه الناس بالفراش مبالغات شتَّى : منها الطيشُ الذي يلحقهم ، وانتشارهم في الأرض ، وركوب بعضهم بعضاً ، والكثرة ، والضعف ، والذلة والمجيء من غير ذهاب ، والقصد إلى الداعي من كل جهة ، والتطاير إلى النار ؛ قال جريرٌ : [ الكامل ]

5291- إنَّ الفَرزْدَقَ ما عَلمْتَ وقوْمَهُ *** مِثْلُ الفَرَاشِ غشيْنَ نَارَ المُصْطَلِي{[60752]}

والمبثوث : المتفرق ، وقال تعالى في موضع آخر : { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } [ القمر : 7 ] .

فأول حالهم كالفراش لا وجه له ، يتحير في كل وجه ، ثم يكون كالجراد ؛ لأن لها وجهاً تقصده ، والمبثوث : المتفرق المنتشر ، وإنما ذكر على اللفظ كقوله تعالى : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] .

قال ابن عباس : «كالفَرَاشِ المبثُوثِ » كغوغاء الجراد ، يركب بعضها بعضاً ، كذلك الناس ، يجول بعضهم في بعض إذا بعثوا{[60753]} .

فإن قيل : كيف يشبهُ الشيء الواحد بالصغير والكبير معاً ؛ لأنه شبههم بالجراد المنتشر والفراش المبثوث ؟

فالجواب : أما التشبيه بالفراش ، فبذهاب كل واحد إلى جهة الآخر ، وأما التشبيه بالجراد ، فبالكثرة والتتابع ، ويكون كباراً ، ثم يكون صغاراً .


[60744]:المحرر الوجيز 5/516.
[60745]:الإملاء 2/293.
[60746]:البحر المحيط 8/504.
[60747]:ينظر: البحر المحيط 8/504، والدر المصون 6/564.
[60748]:نسب البيت إلى الضحاك بن سعد، ولسعيد بن العاصي. ينظر الحيوان 1/257، وديوان المعاني 1/196، والدرر 5/293، وشرح الأشموني 2/362، وهمع الهوامع 2/101.
[60749]:ينظر القرطبي 20/112، والدر المصون 6/564.
[60750]:ينظر القرطبي 20/112.
[60751]:أخرجه مسلم (4/1798). وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري (11/316)، كتاب الرقاق، باب: الانتهاء عن المعاصي حديث (6483)، ومسلم (4/1789)، كتاب الفضائل، باب: شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته رقم (18/2283).
[60752]:ينظر ديوانه (337)، والكشاف 4/789، والبحر 8/504، والدر المصون 6/654.
[60753]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/113)، عن ابن عباس.