قوله تعالى : { قال فاهبط منها } ، أي : من الجنة ، وقيل : من السماء إلى الأرض ، وكان له ملك الأرض فأخرجه منها إلى جزائر البحر وعرشه في البحر الأخضر ، فلا يدخل الأرض إلا خائفاً على هيئة السارق ، مثل شيخ عليه أطمار يروع فيها حتى يخرج منها .
قوله تعالى : { فما يكون لك أن تتكبر } ، بمخالفة الأمر .
قوله تعالى : { فيها } ، أي : في الجنة ، ولا ينبغي أن يسكن الجنة ولا السماء متكبر مخالف لأمر الله .
قوله تعالى : { فاخرج إنك من الصاغرين } ، من الأذلاء ، والصغار : الذل والمهانة .
ولهذا لما جرى من إبليس ما جرى ، انحط من مرتبته العالية إلى أسفل السافلين .
فقال اللّه له : { فَاهْبِطْ مِنْهَا } أي : من الجنة { فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا } لأنها دار الطيبين الطاهرين ، فلا تليق بأخبث خلق اللّه وأشرهم .
{ فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } أي : المهانين الأذلين ، جزاء على كبره وعجبه بالإهانة والذل .
فكان الجزاء العاجل الذي تلقاه لتوه :
( قال : فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها ، فاخرج إنك من الصاغرين ) . .
إن علمه بالله لم ينفعه ، واعتقاده بوجوده وصفاته لم ينفعه . . وكذلك كل من يتلقى أمر الله ؛ ثم يجعل لنفسه نظراً في هذا الأمر يترتب عليه قبوله أو رفضه ؛ وحاكمية في قضية قضى الله فيها من قبل ؛ يرد بها قضاء الله في هذه القضية . . إنه الكفر إذن مع العلم ومع الاعتقاد . فإبليس لم يكن ينقصه العلم ؛ ولم يكن ينقصه الاعتقاد !
لقد طرد من الجنة ، وطرد من رحمة الله ، وحقت عليه اللعنة ، وكتب عليه الصغار .
يقول تعالى مخاطبًا لإبليس بأمر قدري كوني : { فَاهْبِطْ مِنْهَا } أي : بسبب عصيانك لأمري ، وخروجك عن طاعتي ، فما يكون لك أن تتكبر فيها .
قال كثير من المفسرين : الضمير عائد إلى الجنة ، ويحتمل أن يكون عائدًا إلى المنزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى .
{ فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } أي : الذليلين الحقيرين ، معاملة له بنقيض قصده ، مكافأة لمراده بضده ، فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين ، قال : { أَنْظِرْنِي{[11589]} إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِين } أجابه تعالى إلى ما سأل ، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع ، ولا مُعَقِّبَ لحكمه ، وهو سريع الحساب .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قال الله لإبليس عند ذلك : فاهْبِطْ مِنْها وقد بيّنا معنى الهبوط فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته . فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبّرَ فِيها يقول تعالى ذكره : فقال الله له : اهبط منها يعني : من الجنة فما يكون لك ، يقول : فليس لك أن تستكبر في الجنة عن طاعتي وأمري .
فإن قال قائل : هل لأحد أن يتكبر في الجنة ؟ قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ ، وإنما معنى ذلك : فاهبط من الجنة ، فإنه لا يسكن الجنة متكبر عن أمر الله ، فأما غيرها فإنه قد يسكنها المستكبر عن أمر الله والمستكين لطاعته .
وقوله : فاخْرُجْ إنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ يقول : فاخرج من الجنة إنك من الذين قد نالهم من الله الصغار والذلّ والمهانة ، يقال منه : صَغِرَ يَصْغَرا وصَغْرانا وقد قيل : صَغُر يَصْغُر صَغَارا وصَغَارَةً . وبنحو الذي قلنا قال السديّ .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فاخْرُجْ إنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ والصغار : هو الذلّ .
{ قال فاهبط منها } من السماء أو الجنة . { فما يكون لك } فما يصح . { أن تتكبر فيها } وتعصي فإنها مكان الخاشع والمطيع . وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة وانه سبحانه وتعالى إنما طرده وأهبطه لتكبره لا لمجرد عصيانه . { فاخرج إنك من الصاغرين } ممن أهانه الله لتكبره ، قال عليه الصلاة والسلام " من تواضع رفعه الله ومن تكبر وضعه الله " .
وقوله تعالى : { فاهبط منها } الآية ، أمر من الله عز وجل لإبليس بالهبوط في وقت عصيانه في السجود ، فيظهر من هذا أنه إنما ُأهبط أولاً وُأخرج من الجنة وصار في السماء ، لأن الأخبار تظاهرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنة ثم ُأمر آخراً بالهبوط من السماء مع آدم وحواء والحية .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله بحسب ألفاظ القصة والله أعلم .
وقوله { فما يكون لك } معناه فما يصح لك ولا يتم ، وليس يقتضي هذا اللفظ أن التكبر له في غيرها على ما ذهب إليه بعض المعترضين ، تضمنت الآية أن الله أخبر إبليس أن الكبرياء لا يتم له ولا يصح في الجنة مع نهيه له ولغيره عن الكبرياء في كل موضع وأما لو أخذنا { فما يكون } على معنى فما يحسن وما يجمل كما تقول للرجل : ما كان لك أَّلا تصل قرابتك لفتر معنى الإغلاظ على إبليس ، وقوله : { إنك من الصاغرين } حكم عليه بضد المعصية التي عصى بها وهي الكبرياء فعوقب بالحمل عليه بخلاف شهوته وأمله ، والصغار الذل ، قاله السدي .
وقد عاقبه الله على عصيانه بإخراجه من المكان الذي كان فيه في اعتلاء وهو السّماء ، وأحل الملائكة فيه ، وجعله مكاناً مقدّساً فاضِلاً على الأرض فإنّ ذلك كلّه بجعل آلهي بإفاضة الأنوار وملازمة الملائكة ، فقال له : { فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها } .
والتّعبير بالهبوط إمّا حقيقة إن كان المكان عالياً ، وإمّا استعارة للبعد عن المكان المشرّف ، بتشبيه البُعد عنه بالنّزول من مكان مرتفع وقد تقدّم ذلك في سورة البقرة .
والفاء في جملة : { فاهبط } لترتيب الأمر بالهبوط على جواب إبليس ، فهو من عطف كلام متكلّم على كلام متكلّم آخر ، لأنّ الكلامين بمنزلة الكلام الواحد في مقام المحاورة ، كالعطف الذي في قوله تعالى : { قال إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي } [ البقرة : 124 ] .
والفاء دالة على أن أمره بالهبوط مسبّب عن جوابه .
وضمير المؤنّث المجرور بمن في قوله : { منها } عائد على المعلوم بين المتكلّم والمخاطب ، وتأنيثه إمّا رعي لمعناه بتأويل البقعة ، أو للفظ السّماء لأنّها مكان الملائكة ، وقد تكرّر في القرآن ذكر هذا الضّمير بالتّأنيث .
وقوله : { فما يكون لك أن تتكبر فيها } الفاء للسّببيّة والتّفريع تعليلاً للأمر بالهبوط ، وهو عقوبة خاصه عقوبةَ إبعاد عن المكان المقدّس ، لأنّه قد صار خُلُقُه غير ملائم لمّا جعل الله ذلك المكان له ، وذلك خُلقُ التّكبر لأنّ المكان كان مكاناً مقدّساً فاضلاً لا يكون إلاّ مطهّراً من كلّ ما له وصف ينافيه وهذا مبدأ حاوله الحكماء الباحثون عن المدينة الفاضلة وقد قال مالك رحمه الله : لا تحْدِثوا بدعة في بلدنا . وهذه الآية أصل في ثبوت الحقّ لأهل المحلّة أن يخرجوا من محلّتهم من يخشى من سيرته فشّو الفساد بينهم .
ودلّ قوله : { ما يكون لك } على أنّ ذلك الوصف لا يغتفر منه ، لأنّ النّفي بصيغة ( ما يكون لك ) كذا أشدّ من النّفي ب ( ليس لك كذا ) كما تقدّم عند قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الآية في آل عمران ( 79 ) ، وهو يستلزم هنا نهيا لأنّه نفاه عنه مع وقوعه ، وعليه فتقييد نفي التّكبّر عنه بالكون في السّماء لوقوعه علّة للعقوبة الخاصة وهي عقوبة الطّرد من السّماء ، فلا دلالة لذلك القيد على أنّه يكون له أن يتكبّر في غيرها ، وكيف وقد علم أنّ التّكبّر معصية لا تليق بأهل العالم العلويّ .
وقوله : { فاخرج } تأكيد لجملة { فاهبط } بمرادفها ، وأُعيدت الفاء مع الجملة الثّانية لزيادة تأكيد تسبّب الكبر في إخراجه من الجنّة .
وجملة : { إنك من الصاغرين } يجوز أن تكون مستأنفة استينافاً بيانياً ، إذا كان المراد من الخبر الإخبار عن تكوين الصّغار فيه بجعل الله تعالى إياه صاغراً حقيراً حيثما حلّ ، ففصلها عن التي قبلها للاستيناف ، ويجوز أن تكون واقعة موقع التّعليل للإخراج على طريقة استعمال ( إنّ ) في مثل هذا المقام استعمال فاء التّعليل ، فهذا إذا كان المراد من الخبر إظهار ما فيه من الصّغار والحقارة التي غَفَل عنها فذهبت به الغفلة عنها إلى التّكبّر .
وقوله : { إنك من الصاغرين } أشدّ في إثبات الصّغار له من نحو : إنّك صَاغر ، أوْ قد صَغُرت ، كما تقدّم في قوله تعالى : { قد ضللتُ إذا وما أنا من المهتدين } في سورة الأنعام ( 56 ) ، وقوله آنفاً : { لم يكن من الساجدين } . والصّاغر المتّصف بالصّغار وهو الذلّ والحقارة ، وإنّما يكون له الصّغار عند الله لأنّ جبلته صارت على غير ما يرضي الله ، وهو صغار الغواية ، ولذلك قال بعد هذا : { فبما أغويتني } [ الأعراف : 16 ] .