مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ} (13)

وأما قوله : { قال فاهبط منها } فلا شك أن قائل هذا القول هو الله تعالى ، ومثل هذه المناظرة بين الله سبحانه وبين إبليس مذكور في سورة { ص } على سبيل الاستقصاء .

إذا ثبت هذا فنقول : إنه لم يتفق لأحد من أكابر الأنبياء عليهم السلام مكالمة مع الله مثل ما اتفق لإبليس ، وقد عظم الله تشريف موسى بأن كلمه حيث قال : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } وقال : { وكلم الله موسى تكليما } فإن كانت هذه المكالمة ( تفيد الشرف العظيم ) فكيف حصلت على أعظم الوجوه لإبليس ؟ وإن لم توجب الشرف العظيم ، فكيف ذكره الله تعالى في معرض التشريف الكامل لموسى عليه السلام ؟

والجواب : أن بعض العلماء قال : إنه تعالى قال لإبليس على لسان من يؤدي إليه من الملائكة ما منعك من السجود ؟ ولم يسلم أنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة . قالوا : لأنه ثبت أن غير الأنبياء لا يخاطبهم الله تعالى إلا بواسطة ، ومنهم من قال : إنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة ، ولكن على وجه الإهانة بدليل أنه تعالى قال له : { فاخرج إنك من الصاغرين } وتكلم مع موسى ومع سائر الأنبياء عليهم السلام على سبيل الإكرام ألا ترى أنه تعالى قال لموسى : { وأنا اخترتك } وقال له { واصطنعتك لنفسي } وهذا نهاية الإكرام .

المسألة الثامنة : قوله تعالى : { فاهبط منها } قال ابن عباس : يريد من الجنة ، وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم . وقال بعض المعتزلة : إنه إنما أمر بالهبوط من السماء ، وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في سورة البقرة . { فما يكون لك أن تتكبر فيها } أي في السماء . قال ابن عباس : يريد أن أهل السماوات ملائكة متواضعون خاشعون فاخرج إنك من الصاغرين ، والصغار الذلة . قال الزجاج : إن إبليس طلب التكبر فابتلاه الله تعالى بالذلة والصغار تنبيها على صحة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم : ( من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله ) وقال بعضهم : لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار ، والله أعلم .