{ 80 - 82 } { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى }
يذكر تعالى بني إسرائيل منته العظيمة عليهم بإهلاك عدوهم ، ومواعدته لموسى عليه السلام بجانب الطور الأيمن ، لينزل عليه الكتاب ، الذي فيه الأحكام الجليلة ، والأخبار الجميلة ، فتتم عليهم النعمة الدينية ، بعد النعمة الدنيوية ، ويذكر منته أيضا عليهم في التيه ، بإنزال المن والسلوى ، والرزق الرغد الهني الذي يحصل لهم بلا مشقة ، وأنه قال لهم : { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ }
وفي ظلال النصر والنجاة يتوجه الخطاب إلى الناجين بالتذكير والتحذير ، كي لا ينسوا ولا يبطروا ؛ ولا يتجردوا من السلاح الوحيد الذي كان لهم في المعركة فضمنوا به النصر والنجاح :
( يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم ؛ وواعدناكم جانب الطور الأيمن ، ونزلنا عليكم المن والسلوى . كلوا من طيبات ما رزقناكم ، ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ، ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى . وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ) . .
لقد جازوا منطقة الخطر ، وانطلقوا ناجين ناحية الطور . وتركوا وراءهم فرعون وجنده غرقى : وإنجاؤهم من عدوهم واقع قريب يذكرونه اللحظة فلم يمض عليه كثير . ولكنه إعلان التسجيل . والتذكير بالنعمة المشهودة ليعرفوها ويشكروها .
ومواعدتهم جانب الطور الأيمن يشار إليها هنا على أنها أمر واقع ؛ وكانت مواعدة لموسى - عليه السلام - بعد خروجهم من مصر ، أن يأتي إلى الطور بعد أربعين ليلة يتهيأ فيها للقاء ربه ، ليسمع ما يوحى إليه في الألواح من أمور العقيدة والشريعة ، المنظمة لهذا الشعب الذي كتب له دورا يؤديه في الأرض المقدسة بعد الخروج من مصر .
وتنزيل المن . وهو مادة حلوة تتجمع على أوراق الشجر . والسلوى وهو طائر السماني يساق إليهم في الصحراء ، قريب المتناول سهل التناول ، كان نعمة من الله ومظهرا لعنايته بهم في الصحراء الجرداء . وهو يتولاهم حتى في طعامهم اليومي فييسره لهم من أقرب الموارد .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مّنْ عَدُوّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطّورِ الأيْمَنَ وَنَزّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ وَالسّلْوَىَ * كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىَ } .
يقول تعالى ذكره : فلما نجا موسى بقومه من البحر ، وغَشِيَ فرعون قومه من اليم ما غشيهم ، قلنا لقوم موسى : يَا بَنِي إسْرَائِيلَ قَدْ أنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوّكُمْ فرعون وَوَاعَدْناكُمْ جانِبَ الطّورِ الأيمَنَ وَنَزّلْنا عَلَيْكُمُ المَنّ والسّلْوَى . وقد ذكرنا كيف كانت مواعدة الله موسى وقومه جانب الطور الأيمن . وقد بيّنا المنّ والسلوى باختلاف المختلفين فيهما ، وذكرنا الشواهد على الصواب من القول في ذلك فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : " قَدْ أْنْجَيْناكُمْ " فكانت عامة قرّاء المدينة والبصرة يقرءونه : قَد أنْجَيْناكُمْ بالنون والألف وسائر الحروف الأخر معه كذلك ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «قَدْ أنْجَيْتُكُمْ » بالتاء ، وكذلك سائر الحروف الأخر ، إلا قوله : " وَنَزّلْنا عَلَيْكُمُ المَنّ والسّلْوَى " فإنهم وافقوا الاَخرين في ذلك وقرءوه بالنون والألف .
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان باتفاق المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء ذلك فمصيب .
{ يا بني إسرائيل } خطاب لهم بعد إنجائهم من البحر وإهلاك فرعون على إضمار قلنا ، أو للذين منهم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بما فعل بآبائهم . { قد أنجيناكم من عدوكم } فرعون وقومه . { وواعدناكم جانب الطور الأيمن } بمناجاة موسى وإنزال التوراة ، وإنما عد المواعدة إليهم وهي لموسى أوله وللسبعين المختارين للملابسة { ونزلنا عليكم المن والسلوى } يعني في التيه .
هذه الجمل معترضة في أثناء القصة مثل ما تقدم آنفاً في قوله تعالى : { إنه من يأت ربه مجرماً } الآية . وهذا خطاب لليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تذكيراً لهم بنعم أخرى .
وقُدّمت عليها النعمة العظيمة ، وهي خلاصهم من استعباد الكفرة .
وقرأ الجمهور { قد أنجيناكم وواعدناكم بنون العظمة . وقرأهما حمزة ، والكسائي ، وخلف قد أنجيتكم ووعدتكم بتاء المتكلّم .
وذكّرهم بنعمة نزول الشريعة وهو ما أشار إليه قوله { وواعدناكم جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ } . والمواعدة : اتّعاد من جانبين ، أي أمرنا موسى بالحضور للمناجاة فذلك وعد من جانب الله بالمناجاة ، وامتثالُ موسى لذلك وعدٌ من جانبه ، فتم معنى المواعدة ، كما قال تعالى في سورة البقرة ( 52 ) : { وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة } .
ويظهر أنّ الآية تشير إلى ما جاء في الإصحاح 19 من سفر الخروج : في الشهر الثالث بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر جاءوا إلى برّية سيناء هنالك نزل إسرائيل مقابل الجبل . وأما موسى فصعد إلى الله فناداه الربّ من الجبل قائلاً : هكذا نقول لبيت يعقوب أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين وأنا حملتكم على أجنحة النّسور ، إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة . . . إلخ .
وذكر الطور تقدم في سورة البقرة .
وجانب الطور : سفحه . ووصفه بالأيمن باعتبار جهة الشخص المستقبل مشرقَ الشمس ، وإلاّ فليس للجبل يمين وشمال معيّنان ، وإنما تعرَّف بمعرفة أصل الجهات وهو مطلع الشمس ، فهو الجانب القبلي باصطلاحنا . وجُعل محلّ المواعدة الجانب القبلي وليس هو من الجانب الغربي الذي في سورة القصص ( 30 ) : { فلما أتاها نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة } وقال فيها { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } [ القصص : 44 ] فهو جانب غربي ، أي من جهة مغرب الشمس من الجبل ، وهو الذي آنس موسى منه ناراً .
وانتصب { جَانِبَ الطُّورِ } على الظرفية المكانية لأنّه لاتساعه بمنزلة المكان المبهم .
ومفعول المواعدة محذوف ، تقديره : المناجاة .
وتعدية { واعدناكم } إلى ضمير جماعة بني إسرائيل وإن كانت مواعدة لموسى ومن معه الذين اختارهم من قومه باعتبار أنّ المقصد من المواعدة وحي أصول الشريعة التي تصير صلاحاً للأمّة فكانت المواعدة مع أولئك كالمواعدة مع جميع الأمّة .
وقرأ الجميع { ونزَّلنا عليكم } الخ ؛ فباعتبار قراءة حمزة ، والكسائي ، وخلف قد أنجيتكم وواعدتكم بتاء المفرد تكون قراءة وأنزلنا بنون العظمة قريباً من الالتفات وليس عينه ، لأن نون العظمة تساوي تاء المتكلّم .
والسلوَى تقدم في سورة البقرة . وكان ذلك في نصف الشهر الثاني من خروجهم من مصر كما في الإصحاح 16 من سفر الخروج .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فلما نجا موسى بقومه من البحر، وغَشِيَ فرعون قومه من اليم ما غشيهم، قلنا لقوم موسى:"يَا بَنِي إسْرَائِيلَ قَدْ أنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوّكُمْ" فرعون "وَوَاعَدْناكُمْ جانِبَ الطّورِ الأيمَنَ وَنَزّلْنا عَلَيْكُمُ المَنّ والسّلْوَى"...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم} هذا خبر يخبر عما أنعم عليهم، ومن على أوائلهم وآبائهم ويخاطب من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب الذين هم أولاد بني إسرائيل يذكر هؤلاء بما أنعم، ومن على أولئك، وإلا لم يكن هؤلاء يومئذ. وفيه تذكير النعم والمنن على الصحابة في أواخر أمورهم لأنه أمنهم في آخر أمرهم من عدوهم وإياسهم من عود هؤلاء إلى دينهم. وفيه تذكير لنا في ما أنعم علينا، ومن في أوائل أمورنا وآخرها. ليس التذكير لبني إسرائيل خاصة، ولكن لنا ولكل من أنعم عليه... وقوله تعالى: {ونزلنا عليكم المن والسلوى} يذكر هؤلاء ما وسع على أوائلهم من الرزق وأخصبهم ليستأدي بذلك الشكر على ما أنعم عليهم. وذلك تذكير لنا ولمن وسع عليه ذلك، إذ لم يزل علينا يوسع الرزق من أول عمرنا إلى آخره.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم عدد الله على بني إسرائيل نعمه، بأن قال "يا بني إسرائيل قد أنجيناكم "أي خلصناكم "من عدوكم "فرعون" وواعدناكم جانب الطور الايمن "معناه إن الله واعدكم جانب الجبل الذي هو الطور، لتسمعوا كلام الله لموسى بحضرتكم هناك "ونزلنا عليكم المن والسلوى" يعني في زمان التيه أنزل عليهم المن، وهو الذي يقع على بعض الأشجار، والسلوى طائر أكبر من السمان.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يُذَكِّرُهم آلاءَه، ويعدُّ عليهم نعماءَه، ويأمرهم بالتزام الطاعة والقيام بالشكر لِمَا أسبغ عليهم من فنون النِّعم، ثم يذكرهم ما مَنَّ به على أسلافهم من إنزال المنَّ والسلوى، وضروب المِحَنِ وفنون البلوى.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يا بني إسرائيل} خطاب لهم بعد إنجائهم من البحر وإهلاك آل فرعون. وقيل: هو للذين كانوا منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منّ الله عليهم بما فعل بآبائهم والوجه هو الأوّل...
اعلم أنه تعالى لما أنعم على قوم موسى عليه السلام بأنواع النعم ذكرهم إياها، ولا شك أن إزالة المضرة يجب أن تكون متقدمة على إيصال المنفعة ولا شك أن إيصال المنفعة الدينية أعظم في كونه نعمة من إيصال المنفعة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى على فرعون، فقال:"نحن أولى بموسى فصوموه" رواه مسلم أيضًا في صحيحه...
ثم إنه تعالى واعد موسى وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون إلى جانب الطور الأيمن، وهو الذي كلمه تعالى عليه، وسأل فيه الرؤية، وأعطاه التوراة هناك. وفي غُضُون ذلك عَبَدَ بنو إسرائيل العجل، كما يقصه تعالى قريبا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا موجباً للتشوف إلى ما وقع لبني إسرائيل بعده، قال تعالى شافياً لهذا الغليل، أقبلنا على بني إسرائيل ممتنين بما مضى وما يأتي قائلين: {يا بني إسرائيل} معترفين لهم أنا نظرنا إلى السوابق فأكرمناهم لأجل أبيهم.
ولما كان درء المفاسد وإزالة الموانع قبل جلب المصالح واستدرار المنافع قال: {قد أنجيناكم} بقدرتنا الباهرة {من عدوكم} الذي كنتم أحقر شيء عنده.
ولما تفرغوا لإنفاذ ما يراد منهم من الطاعة قال: {وواعدناكم} أي كلكم -كما مضى في البقرة عن نص التوراة- للمثول بحضرتنا والاعتزاز بمواطن رحمتنا {جانب الطور الأيمن} أي الذي على أيمانكم في توجهكم هذا الذي وجوهكم فيه إلى بيت أبيكم إبراهيم عليه السلام، وهو جانبه الذي يلي البحر وناحية مكة واليمن.
ولما بدأ بالمنفعة الدينية، ثنى بالمنفعة الدنيوية فقال: {ونزلنا عليكم} بعد إنزال هذا الكتاب في هذه المواعدة لإنعاش أرواحكم {المن والسلوى} لإبقاء أشباحكم، فبدأ بالإنجاء الممكن من العبادة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ظلال النصر والنجاة يتوجه الخطاب إلى الناجين بالتذكير والتحذير، كي لا ينسوا ولا يبطروا؛ ولا يتجردوا من السلاح الوحيد الذي كان لهم في المعركة فضمنوا به النصر والنجاح: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم؛ وواعدناكم جانب الطور الأيمن، ونزلنا عليكم المن والسلوى. كلوا من طيبات ما رزقناكم، ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي، ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى. وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى).. لقد جازوا منطقة الخطر، وانطلقوا ناجين ناحية الطور. وتركوا وراءهم فرعون وجنده غرقى: وإنجاؤهم من عدوهم واقع قريب يذكرونه اللحظة فلم يمض عليه كثير. ولكنه إعلان التسجيل. والتذكير بالنعمة المشهودة ليعرفوها ويشكروها. ومواعدتهم جانب الطور الأيمن يشار إليها هنا على أنها أمر واقع؛ وكانت مواعدة لموسى -عليه السلام- بعد خروجهم من مصر، أن يأتي إلى الطور بعد أربعين ليلة يتهيأ فيها للقاء ربه، ليسمع ما يوحى إليه في الألواح من أمور العقيدة والشريعة، المنظمة لهذا الشعب الذي كتب له دورا يؤديه في الأرض المقدسة بعد الخروج من مصر. وتنزيل المن. وهو مادة حلوة تتجمع على أوراق الشجر. والسلوى وهو طائر السماني يساق إليهم في الصحراء، قريب المتناول سهل التناول، كان نعمة من الله ومظهرا لعنايته بهم في الصحراء الجرداء. وهو يتولاهم حتى في طعامهم اليومي فييسره لهم من أقرب الموارد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وذكّرهم بنعمة نزول الشريعة وهو ما أشار إليه قوله {وواعدناكم جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ}. والمواعدة: اتّعاد من جانبين، أي أمرنا موسى بالحضور للمناجاة فذلك وعد من جانب الله بالمناجاة، وامتثالُ موسى لذلك وعدٌ من جانبه، فتم معنى المواعدة، كما قال تعالى في سورة البقرة (52): {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة}...
وجانب الطور: سفحه. ووصفه بالأيمن باعتبار جهة الشخص المستقبل مشرقَ الشمس، وإلاّ فليس للجبل يمين وشمال معيّنان، وإنما تعرَّف بمعرفة أصل الجهات وهو مطلع الشمس، فهو الجانب القبلي باصطلاحنا. وجُعل محلّ المواعدة الجانب القبلي وليس هو من الجانب الغربي الذي في سورة القصص (30): {فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة} وقال فيها {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} [القصص: 44] فهو جانب غربي، أي من جهة مغرب الشمس من الجبل، وهو الذي آنس موسى منه ناراً.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد قال تعالى: {واعدناكم جانب الطور الأيمن} وهنا ملاحظتان: إحداهما أن الله تعالى جعلهم طرفا في المواعدة وهي مفاعلة تكون من جانبين، جعلهم الله سبحانه وتعالى طرفا مقابلا لذاته، وذلك تكريم لهم، ورفع لنفوسهم التي استخدمت بإذلال فرعون، فأعلاهم رب العالمين ورفع كبوتهم وأزل عنهم خسيسة الذل. والثانية أن المواعدة كانت مع موسى رسولهم، لا معهم كلهم، ولكن موسى يجيء بهذه الشرائع إليهم، وقد قال تعالى في هذه المواعدة {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة 142} (الأعراف)، ولأن موسى وهو رسولهم الذي أرسل إليهم كانت المواعدة معه مواعدة لهم. ولأن موسى اختار منهم من سيلونهم في هذا اللقاء، فقد قال تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا 155} (الأعراف)، فكان اختيار لهذا الموعد فيه معنى أنهم كانوا مواعدين، وخصوصا أنهم كانوا يمثلون بني إسرائيل، ولذا قال تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلا 155} (الأعراف)، أي أنهم كأنهم قوم موسى جميعهم، كان ذلك كله تشريفا وتكريما، ورفعا لهم مما كانوا فيه من كبوة.وقد ذكر سبحانه وتعالى طعامهم في هذه الصحراء الجرداء، فبدلهم الله بطعام مصر طعاما أشهى وأمرأ وأجدى وهو المن الذي أنزله الله في الأشجار، والسلوى ذلك اللحم الطري، ولذا قال تعالى: {ونزلنا عليكم المن والسلوى} وقال: {ونزلنا} ولم يقل "أنزلنا"، لأن المن والسلوى لم ينزل عليهم دفعة واحدة، فيغمرهم فيحتاجون إلى وسائل لادخاره وحفظه، بل كان يعرض لهم على حسب حاجتهم شيئا فشيئا غير مقطوع فلا يحتاجون إلى الادخار، ولا يقطع عنهم فيكون الجوع، بل يجئ إليهم غير مقطوع ولا ممنوع، بل مستمر رحمة من الله تعالى.
والحق – تبارك وتعالى – هنا يذكرهم ببعض نعمه، ويناديهم بأحب نداء {يا بني إسرائيل} وإسرائيل يعني عبد الله، عبده المخلص، كما تقول لصاحبك، يا ابن الرجل الطيب.. الورع، فالحق يذكرهم بأصلهم الطيب، وينسبهم إلى نبي من أنبيائه، كأنه يلفت أنظارهم أنه لا يليق بكم المخالفة، ولا الخروج عن المنهج، وأنتم سلالة هذا الرجل الصالح. وقوله تعالى: {قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ} أي: من فرعون الذي استذلكم، وذبح أبناءكم، واستحيى نساءكم ويسخرهم في الأعمال دون أجر، وفعل بكم الأفاعيل، ثم {وواعدناكم جانب الطور الأيمن} لتأخذوا المنهج السليم لحركة الحياة، إذن: خلصناكم من أذى، وواعدناكم لنعمة... واعد: مفاعلة لا تكون إلا من طرفين مثل: شارك وخاصم، فهل كان الوعد من جانبهما معا: الله عز وجل وبني إسرائيل؟ الوعد كان من الله تعالى، لكن لم يقل القرآن: وعدناكم. بل أشرك بني إسرائيل في الوعد، وهذا ينبهنا إلى أنه إذا وعدك إنسان بشيء ووافقت، فكأنك دخلت في الوعد. وجانب الطور الأيمن: مكان تلقي منهج السماء، وهو مكان بعيد في الصحراء، لا زرع فيه ولا ماء؛ لذلك يضمن لهم ربهم عز وجل ما يقيتهم: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} المن: سائل أبيض يشبه العسل، يتساقط مثل قطرات بلورية تشبه الندى على ورق الأشجار، وفي الصباح يجمعونه كطعام حلو...والسلوى: طائر يشبه طائر السمان...وهكذا وفر لهم الحق – تبارك وتعالى – مقومات الحياة بهذه المادة السكرية لذيذة الطعم تجمع بين القشدة مع عسل النحل، وطائر شهي دون تعب منهم، و دون مجهود، بل يرونه بين أيديهم معدا جاهزا، وكان المنتظر منهم أن يشكروا نعمة الله عليهم...