قوله تعالى : { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } ، قرأ نافع و ابن عامر و عاصم بفتح السين ، أي : قطعاً ، وهي جمع كسفة ، وهي : القطعة والجانب ، مثل : كسرة وكسر . وقرأ الآخرون بسكون السين على التوحيد ، وجمعه أكساف وكسوف ، أي : تسقطها طبقاً واحداً ، وقيل : أراد جانبها علينا . وقيل : معناه أيضاً القطع ، وهي جمع التكسير مثل سدرة وسدر في الشعراء وسبأ كسفاً بالفتح ، حفص ، وفي الروم ساكنة أبو جعفر ، و ابن عامر . { أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً } ، قال ابن عباس : كفيلاً ، أي : يكفلون بما تقول . وقال الضحاك : ضامناً . وقال مجاهد : هو جمع القبيلة ، أي : بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة . وقال قتادة : عياناً أي : تراهم القابلة أي : معاينة . وقال الفراء : هو من قول العرب لقيت فلاناً قبيلاً ، وقبيلاً أي : معاينة .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ تُسْقِطَ السّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : كِسَفا فقرأته عامّة قرّاء الكوفة والبصرة بسكون السين ، بمعنى : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كِسفا ، وذلك أن الكِسْف في كلام العرب : جمع كِسْفة ، وهو جمع الكثير من العدد للجنس ، كما تجمع السّدْرة بسِدْر ، والتمرة بتمر ، فحُكي عن العرب سماعا : أعطني كِسْفة من هذا الثوب : أي قطعة منه ، يقال منه : جاءنا بثريد كِسْف : أي قطع خبز . وقد يحتمل إذا قرىء كذلك «كِسْفا » بسكون السين أن يكون مرادا به المصدر من كسف . فأما الكِسَفُ بفتح السين ، فإنه جمع ما بين الثلاث إلى العشر ، يقال : كِسَفة واحدة ، وثلاث كِسَف ، وكذلك إلى العشر . وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض الكوفيين كِسَفا بفتح السين بمعنى : جمع الكِسْفة الواحدة من الثلاث إلى العشر ، يعني بذلك قِطَعا : ما بين الثلاث إلى العشر .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه بسكون السين ، لأن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، لم يقصدوا في مسألتهم إياه ذلك أن يكون بحدّ معلوم من القطع ، إنما سألوا أن يُسقط عليهم من السماء قِطَعا ، وبذلك جاء التأويل أيضا عن أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله كِسْفا قال : السماء جميعا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
قال ابن جريج : قال عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قوله كمَا زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفا قال : مرّة واحدة ، والتي في الروم ويَجْعَلُهُ كِسَفا قال : قطعا ، قال ابن جريج : كسفا لقول الله : إنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفا مِنَ السّماءِ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أوْ تُسْقِطَ السّماءَ كمَا زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفا قال : أي قطعا .
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : كِسَفا يقول : قطعا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة كِسَفا قال : قطعا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله أوْ تُسْقِطَ السّماءَ كمَا زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفا يعني قِطَعا .
القول في تأويل قوله : أوْ تَأْتِيَ باللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً : يقول تعالى ذكره عن قيل المشركين لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم : أو يأتي بالله يا محمد والملائكة قبيلاً .
واختلف أهل التأويل في معنى القبيل في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناه : حتى يأتي الله والملائكة كلّ قبيلة منا قبيلة قبيلة ، فيعاينونهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً قال : على حدتنا ، كلّ قبيلة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله أوْ تَأْتِي باللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً قال : قبائل على حدتها كلّ قبيلة .
وقال آخرون : معنى ذلك : أوْ تأتي بالله والملائكة عيانا نقابلهم مقابلة ، فنعاينهم معاينة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أوْ تَأْتيَ باللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً نعاينهم معاينة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج أوْ تَأْتيَ باللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً فنعاينهم .
ووجّهه بعض أهل العربية إلى أنه بمعنى الكفيل من قولهم : هو قَبيلُ فلان بما لفلان عليه وزعيمه .
وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب ، القول الذي قاله قتادة من أنه بمعنى المعاينة ، من قولهم : قابلت فلانا مقابلة ، وفلان قبيل فلان ، بمعنى قبالته ، كما قال الشاعر :
نُصَالِحُكُمْ حتى تَبُوءُوا بِمِثْلِها *** كصَرْخَةِ حُبْلَى يَسّرَتْها قَبِيلُها
يعني قابِلَتها . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : إذا وصفوا بتقدير فعيل من قولهم قابلت ونحوها ، جعلوا لفظ صفة الاثنين والجميع من المؤنث والمذكر على لفظ واحد ، نحو قولهم : هذه قبيلي ، وهما قبيلي ، وهم قبيلي ، وهن قبيلي .
وقوله تعالى : { أو تسقط السماء } الآية ، قرأ الجمهور «أو تُسقط » بضم التاء ، «السماءَ » نصب ، وقرأ مجاهد «أو تَسقط السماءُ » برفع «السماءُ » وإسناد الفعل إليها ، وقوله { كما زعمت } إشارة إلى ما تلي عليهم قبل ذلك في قوله عز وجل { إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء }{[7707]} [ سبأ : 9 ] ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «كسْفاً » بسكون السين إلا في الروم{[7708]} ، فإنهم حركوها ، ومعناه قطعاً واحداً ، قال مجاهد : السماء جميعاً وتقول العرب : كسفت الثوب ونحوه قطعته ، ف «الكسَف » بفتح السين المصدر ، والكسف الشيء المقطوع ، قال الزجاج : المعنى أو تسقط السماء علينا قطعاً ، واشتقاقه من كسفت الشيء إذا غطيته .
قال القاضي أبو محمد : وليس بمعروف في دواوين اللغة كسف بمعنى غطى ، وإنما هو بمعنى قطع ، وكأن كسوف الشمس والقمر قطع منهما ، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر{[7709]} «كسَفاً » بفتح السين أي قطعاً جمع كسفه ، وقوله { قبيلاً } قيل معناه مقابلة وعياناً ، وقيل معناه ضامناً وزعيماً بتصديقك ، ومنه القبالة وهي الضمان والقبيل ، والمتقبل الضامن ، وقيل معناه نوعاً وجنساً لا نظير له عندنا ، وقرأ الأعرج «قبلاً » وقيل بمعنى المقابلة .