50- تنبه الملك إلى يوسف بسبب تعبيره لرؤياه ، وعزم على استدعائه فأمر أعوانه أن يحضروه ، فلما أتاه من يبلغه رغبة الملك لم يستخِفَّه الخبر ، رغم ما يحمل من بشرى الفرج ولم تزعزع حلمه لهفة السجين على الخلاص من ضيق السجن ووحشته ، وآثر التمهل حتى تظهر براءته ، على التعجل بالخروج وآثار التهمة عالقة بأردافه ، فقال للرسول : عُدْ إلى سيدك واطلب منه أن يعود إلى تحقيق تهمتي ، فيسأل النسوة اللواتي جمعتهن امرأة العزيز كيداً لي ، فغلبهن الدهش وقطعن أيديهن : هل خرجن من التجربة معتقدات براءتي وطهري ، أو دنسي وعهري ؟ إني أطلب ذلك كشفاً للحقيقة في عيون الناس ، أما ربي فإنه راسخ العلم باحتيالهن .
قوله تعالى : { وقال الملك ائتوني به } ، وذلك أن الساقي لما رجع إلى الملك وأخبره بما أفتاه يوسف من تأويل رؤياه ، وعرف الملك أن الذي قاله كائن ، قال : ائتوني به . { فلما جاءه الرسول } ، وقال له : أجب الملك ، أبى أن يخرج مع الرسول حتى تظهر براءته ثم ، { قال } ، للرسول : { ارجع إلى ربك } ، يعني : سيدك الملك ، { فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } ، ولم يصرح بذكر امرأة العزيز أدبا واحتراما . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي " . { إن ربي بكيدهن عليم } ، أي : إن الله بصنيعهن عالم ، وإنما أراد يوسف بذكرهن بعد طول المدة حتى لا ينظر إليه الملك بعين التهمة ، ويصير إليه بعد زوال الشك عن أمره ، فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالته ، فدعا الملك النسوة وامرأة العزيز
{ 50 - 57 } { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }
يقول تعالى : { وَقَالَ الْمَلِكُ } لمن عنده { ائْتُونِي بِهِ } أي : بيوسف عليه السلام ، بأن يخرجوه من السجن ويحضروه إليه ، فلما جاء يوسف الرسول وأمره بالحضور عند الملك ، امتنع عن المبادرة إلى الخروج ، حتى تتبين براءته التامة ، وهذا من صبره وعقله ورأيه التام .
ف { قَالَ } للرسول : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } يعني به الملك . { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي : اسأله ما شأنهن وقصتهن ، فإن أمرهن ظاهر متضح { إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمّا جَآءَهُ الرّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىَ رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أَيْدِيَهُنّ إِنّ رَبّي بِكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : فلما رجع الرسول الذي أرسلوه إلى يوسف ، الذي قال : أنا أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فأرْسِلُونِ فأخبرهم بتأويل رؤيا الملك عن يوسف ، علم الملك حقيقة ما أفتاه به من تأويل رؤياه وصحة ذلك ، وقال الملك : ائتوني بالذي عَبَر رؤياي هذه . كالذي :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فخرج «نبو » من عند يوسف بما أفتاهم به من تأويل رؤيا الملك حتى أتى الملك ، فأخيره بما قال ، فلما أخبره بما في نفسه كمثل النهار وعرف أن الذي قال كائن كما قال ، قال : ائتوني به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : لما أتى الملكَ رسولُه ، قال : ائتوني به .
وقوله : فَلَمّا جاءَهُ الرّسُولُ يقول : فلما جاءه رسول الملك يدعوه إلى الملك ، قالَ ارْجِعْ إلى رَبّكَ يقول : قال يوسف للرسول : ارجع إلى سيدك فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ . وأبى أن يخرج مع الرسول وإجابة الملك حتى يعرف صحة أمره عندهم مما كانوا قذفوه به من شأن النساء ، فقال للرسول : سل الملك ما شأن النسوة اللاتي قطّعن أيدَيهن ، والمرأة التي سُجِنتُ بسببها كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فَلَمّا جاءَهُ الرّسُولُ قالَ ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ والمرأة التي سجنت بسبب أمرها عما كان من ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : لما أتى الملك رسوله فأخبره قالَ ائْتُونِي بِهِ فلما أتاه الرسول ودعاه إلى الملك أبى يوسف الخروج معه ، وقال : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ . . . الآية ، قال السديّ ، قال ابن عباس : لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه ، ما زالت في نفس العزيز منه حاجة ، يقول : هذا الذي راود امرأته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن رجل ، عن أبي الزناد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَرْحَمُ اللّهُ يُوسُفَ إنْ كانَ ذَا أناةٍ ، لَوْ كُنْتُ أنا المَحْبُوسَ ثُمّ أُرْسِلَ إليّ لَخَرَجْتُ سَرِيعا ، إنْ كان لَحَلِيما ذَا أناةٍ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَوْ لَبِثْتُ فِي السّجْنِ ما لَبِثَ يُوسُفُ ثُمّ جاءَنِي الدّاعِي لأَجَبْتُهُ ، إذْ جاءَهُ الرّسُولُ فَقالَ ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ » . . . الآية .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلاد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بمثله .
حدثنا زكريا بن أبان المقريء ، قال : حدثنا سعيد بن تليد ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن القاسم ، قال : ثني بكر بن مُضَر ، عن عمرو بن الحارث ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لَوْ لَبِثْتُ فِي السّجْنِ ما لَبِثَ يُوسُفُ لاَءَجَبْتُ الدّاعِيَ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بمثله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، قال : حدثنا حماد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقرأ هذه الآية : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ إنّ رَبّي بكَيْدِهُنّ عَليمٌ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَوْ كُنْت أنا لأَسْرَعْتُ الإجابَةَ ، وَما ابْتَغَيْتُ العُذْرَ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم . ومحمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قرأ : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ . . . . الآية ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَوْ بُعِثَ إليّ لأَسْرَعْتُ فِي الإجابَةِ وَما ابْتَغَيْتُ العُذْرَ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ عَجبْتُ مِنْ يُوسُفَ وَصَبْرِهِ وكَرَمِهِ ، وَاللّهُ يَغْفِرُ لَهُ حِينَ سُئِلَ عَن البَقَرَاتِ العِجافِ والسّمانِ ، وَلَوْ كُنْتُ مَكانَهُ ما أخْبَرْتُهُمْ بِشَيْءٍ حتى أشْتَرِطَ أنْ يُخْرِجُونِي وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسفَ وَصَبْرِهِ وكرَمِهِ واللّهُ يَغْفِرُ لَهُ حِينَ أتاهُ الرّسُولُ ، وَلَوْ كُنْتُ مَكانَهُ لَبادَرْتُهُمُ البابَ ، وَلكنّهُ أرَادَ أنْ يَكُونَ لَهُ العُذْرُ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ارْجِعْ إلى رَبكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ أراد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن لا يخرج حتى يكون له العذر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ قال : أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن .
وقوله : إنّ رَبّي بكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ يقول : إن الله تعالى ذكره ذو علم بصنيعهنّ وأفعالهن التي فعلن بي ويفعلن بغيري من الناس ، لا يخفي عليه ذلك كله ، وهو من وراء جزائهنّ على ذلك . وقيل : إن معنى ذلك : إن سيدي إطفير العزيز زوج المرأة التي راودتني عن نفسي ذو علم ببراءتي مما قذفتني به من السوء .
{ وقال الملك ائتوني به } بعد ما جاءه الرسول بالتعبير { فلما جاءه الرسول } ليخرجه . { قال ارجع إلى ربك فأسأله ما بال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن } إنما تأنى في الخروج وقدم سؤال النسوة وفحص حالهن لتظهر براءة ساحته ويعلم أنه سجن ظلما فلا يقدر الحاسد أن يتوسل به إلى تقبيح أمره . وفيه دليل على أنه ينبغي أن يجتهد في نفي التهم ويتقي مواقعها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " لو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة " وإنما قال فأسأله ما بال النسوة ولم يقل فاسأله أن يفتش عن حالهن تهييجا له على البحث وتحقيق الحال ، وإنما لم يتعرض لسيدته مع ما صنعت به كرما ومراعاة للأدب وقرئ { النسوة } بضم النون . { إن ربي بكيدهن عليم } حين قلن لي أطع مولاتك ، وفيه تعظيم كيدهن والاستشهاد بعلم الله عليه وعلى أنه بريء مما قذف به والوعيد لهن على كيدهن .