{ فما آمن لموسى } ، لم يصدق موسى مع ما أتاهم به من الآيات ، { إلا ذرية من قومه } ، اختلفوا في الهاء التي في " قومه " ، قيل : هي راجعة إلى موسى ، وأراد بهم مؤمني بني إسرائيل الذين كانوا بمصر وخرجوا معه . قال مجاهد : كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل ، هلك الآباء وبقي الأبناء . وقال الآخرون : الهاء راجعة إلى فرعون . روى عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : هم ناس يسير من قوم فرعون آمنوا ، منهم امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون ، وامرأة خازنه ، وماشطته ، وعن ابن عباس رواية أخرى : أنهم كانوا سبعين ألف بيت من القبط من آل فرعون ، وأمهاتهم من بني إسرائيل فجعل الرجل يتبع أمه وأخواله . وقيل : هم قوم نجوا من قتل فرعون ، وذلك أن فرعون لما أمر بقتل أبناء بني إسرائيل كانت المرأة ، من بني إسرائيل إذا ولدت ابنا وهبته لقبطية خوفا من القتل ، فنشؤوا عند القبط ، وأسلموا في اليوم الذي غلبت السحرة . قال الفراء : سموا ذرية ، لأن آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل ، كما يقال لأولاد أهل فارس الذين سقطوا إلى اليمن : الأبناء ، لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم . { على خوف من فرعون وملئهم } ، قيل : أراد بفرعون آل فرعون ، أي : على خوف من آل فرعون وملئهم ، كما قال : { واسأل القرية } [ يوسف-82 ] أي : أهل القرية . وقيل : إنما قال : وملئهم وفرعون واحد لأن الملك إذا ذكر يفهم منه هو وأصحابه ، كما يقال قدم الخليفة يراد هو ومن معه . وقيل : أراد ملأ الذرية ، فإن ملأهم كانوا من قوم فرعون . { أن يفتنهم } . أي : يصرفهم عن دينهم ولم يقل يفتنوهم لأنه أخبر عن فرعون وكان قومه على مثل ما كان عليه فرعون ، { وإن فرعون لعال } ، لمتكبر ، { في الأرض وإنه لمن المسرفين } ، المجاوزين الحد ، لأنه كان عبدا فادعى الربوبية .
{ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } أي : شباب من بني إسرائيل ، صبروا على الخوف ، لما ثبت في قلوبهم الإيمان .
{ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ } عن دينهم { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ } أي : له القهر والغلبة فيها ، فحقيق بهم أن يخافوا من بطشته .
{ و } خصوصًا { إِنَّهُ } كان { لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } أي : المتجاوزين للحد ، في البغي والعدوان .
والحكمة -والله أعلم- بكونه ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ، أن الذرية والشباب ، أقبل للحق ، وأسرع له انقيادًا ، بخلاف الشيوخ ونحوهم ، ممن تربى على الكفر فإنهم -بسبب ما مكث في قلوبهم من العقائد الفاسدة- أبعد من الحق من غيرهم .
ثم انتقلت السورة الكريمة للحديث عن جانب مما دار بين موسى - عليه السلام - وبين قومه بني إسرائيل ، إثر الحديث عن جابر مما دار بينه وبين فرعون وملئه وسحرته فقال - تعالى - :
{ فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ . . . }
قال الجمل : " قوله - سبحانه - { فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ . . . } . لما ذكر الله - تعالى - ما أتى به موسى - عليه السلام - من المعجزات العظيمة الباهرة ، أخبر - سبحانه - أنه مع مشاهدة هذه المعجزات ، ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه . وإنما ذكر الله هذا تسلية لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان كثير الاهتمام بإيمان قومه ، وكان يغتم بسبب إعراضهم عن الإِيمان به ، واستمرارهم على الكفر والتكذيب ، فبين الله له أن له أسوة بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - . لأن ما جاء به موسى من المعجزات ، كان أمرا عظيما . ومع ذلك فما آمن له إلا ذرية من قومه .
والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف يدل عليه السياق ، والتقدير : لقد أتى موسى - عليه السلام - بالمعزات التي تشهد بصدقه ، والتى على رأسها ، أن ألقى عصاه فإذا هي تتبلع ما فعله السحرة ، ومع كل تلك البراهين الدالى على صدقه ، فما آمن به إلا ذرية من قومه .
والمراد بالذرية هنا : العدد القليل من الشباب ، الذين آمنوا بموسى ، بعد أن تخلف عن الإِيمان آباؤهم وأغنياؤهم .
قال الآلوسى : قوله { إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } أى : إلا أولاد بعض بنى إسرائيل حيث دعا - عليه السلام - الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون ، وأجابته طائفة من شبابهم فالمراد من الذرية : الشبيان لا الأطفال .
والضمير في قوله { مِّن قَوْمِهِ } يعود لموسى - عليه السلام - وعليه يكون المعنى :
فما آمن لموسى - عليه السلام - في دعوته إلى وحدانية الله ، إلا عدد قليل من شباب قومه بنى إسرائيل ، الذين كانوا يعيشون في مصر ، والذين كان فرعون يسومهم سوء العذاب ، أما آباؤهم وأصحاب الجاه فيهم ، فقد انحازوا إلى فرعون طمعا في عطائه ، وخوفا من بطشه بهم .
ويرى بعض المفسرين أن الضمير في قوله { مِّن قَوْمِهِ } يعود إلى فرعون لا إلى موسى .
فيكون المعنى : فما آمن لموسى إلا عدد قليل من شباب قوم فرعون .
قال ابن كثير ما ملخصه مرجحا هذا الرأى : " يخبر الله - تعالى - أنه لم يؤمن بموسى - عليه السلام - مع ما جاء به الآيات والحجج ، إلا قليل من قوم فرعون ، من الذرية - وهم الشباب - ، على وجل وخوف منه ومن ملئه .
قال العوفى عن ابن عباس : " إن الذرية التي آمنت لموسى من قوم فرعون منهم : امرأته ، ومؤمن آل فرعون ، وخازنة ، وامرأة خازنه " .
ثم قال : " واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية ، أنها من بني إسرائيل ، لا من قوم فرعون . لعود الضمير على أقرب مذكور .
وفي هذا نظر ، لأن من المعروف أن بنى إسرائيل كلهم آمنوا بموسى . واستبشروا به ، فقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به .
وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى وهم بنو إسرائيل ؟ .
والذي نراه أن ما اختاره ابن جرير من عودة الضمير إلى موسى - عليه السلام - أرجح ، لأن هناك نوع خفاء في إطلاق كلمة الذرية على من آمن من قوم فرعون ، ومنهم زوجته ، وامرأة خازنه .
ولأنه لا دليل على أن بنى إسرائيل كلهم قد آمنوا بموسى ، بل الحق أن منهم من آمن به ومنهم من كفر به ، كقارون والسامرى وغيرهما .
ولأن رجوع الضمير إلى موسى - هو الظاهر المتبادر من الآية ، لأنه أقرب مذكور ، وليس هناك ما يدعو إلى صرف الآية الكريمة عن هذا الظاهر .
ورحم الله ابن جرير فقد قال في ترجيحه لما ذهب إليه من دعوة الضمير إلى موسى - عليه السلام - ما ملخصه :
وأولى هذه الأقوال عندى بتأويل الآية ، القول الذي ذكرته عن مجاهد وهو أن الذرية في هذا الموضع ، أريد بها ذرية من أرسل إليه موسى من بنى إسرائيل ، وإنما قلت هذا القول أولى بالصواب ، لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى ، فلأن تكون الهاء في قوله { مِّن قَوْمِهِ } من ذكر موسى لقربها من ذكره أولى من أن تكون من ذكر فرعون ، لبعد ذكره منها .
ولأن في قوله { على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } الدليل الواضح على أن الهاء في قوله { إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } من ذكر موسى لقربها من ذكره أولى من أن تكون من ذكر فرعون ، لبعد ذكره منها .
وقوله : { على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } الدليل الواضح على أن الهاء في قوله { إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } من ذكر موسى لا من ذكر فرعون ، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام على خوف منه ، ولم يكن على خوف من فرعون . . "
وقوله : { على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ . . } حال من كلمة { ذرية } و { على } هنا بمعنى مع . والضمير في قوله { وَمَلَئِهِمْ } يعود إلى ملأ الذرية ، وهم كبار بني إسرائيل الذين لاذوا بفرعون طمعا في عطائه أو خوفا من عقابه ولم يتبعوا موسى - عليه السلام - .
والمعنى : فما آمن لموسى إلا عدد قليل من شباب قومه ، والحال أن إيمانهم كان مع خوف من فرعون ومن أشراف قومهم أن يفتنوهم عن دينهم ، أى : يعذبوهم ليحملوهم على ترك اتباع موسى - عليه السلام .
والضمير في { يفتنهم } يعود إلى فرعون خاصة ، لأنه هو الآمر بالتعذيب ولأن الملأ إنما كنوا يأتمرون بأمره ، وينتهون عن نهيه ، فهم كالآلة في يده يصرفها كيف يشاء .
وجملة { أَن يَفْتِنَهُمْ } في تأويل مصدر ، بدل اشتمال من فرعون ، أى : على خوف من فرعون فتنته .
وقوله : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } اعتراض تذييلي مؤكد لمضمون ما قبله ، ومقرر لطغيان فرعون وعتوه .
أى : وإن فرعون المتكبر متجبر في أرض مصر كلها ، وإنه لمن المسرفين المتجاوزين لكل حد في الظلم والبغى وادعاء ما ليس له .
تفريع على ما تقدم من المحاورة ، أي فتفرع على ذلك أن فرعون وملأه لم يؤمنوا بموسى لأن حصر المؤمنين في ذرية من قوم موسى يفيد أن غيرهم لم يؤمنوا وهو المقصود ، فكانت صيغة القصر في هذا المقام إيجازاً . والتقدير : تفرع على ذلك تصميم على الإعراض .
وقد طوي ما حدث بين المحاورة وبين تصميمهم على الإعراض ، وهو إلقاء موسى عصاه والتقامُها ما ألقوه من سحرهم ، لعدم تعلق الغرض ببيان ذلك إذ المقصود الإفضاء إلى أنهم صمموا على الإعراض لأن ذلك محل تمثيل أعمالهم بحال مشركي أهل مكة .
وفعل { آمن } أصله ( أَأْمن ) بهمزتين : إحداهما أصلية في الكلمة لأن الكلمة مشتقة من الأمانة ، والثانية همزة مزيدة للتعدية ، أي جعله ذَا أمانة ، أي غير كاذب فصار فعل { آمن } بمعنى صدّق ، وحقه أن يعدى إلى المفعول بنفسه ولكن عدي باللام للتفرقة بين ( آمن ) بمعنى صدّق من الأمانة وبين ( آمن ) بمعنى جَعله في أمن ، أي لا خوف عليه منه .
وهذه اللام سماها ابنُ مالك لامَ التبيين وتبعه ابن هشام ، وهي تدخل على المفعول لتقوية معنى المفعولية ، ويؤكد قصد التقوية في مثل فعل ( آمن ) بمعنى صدّق دفعُ أن يلتبس بفعل ( آمنه ) إذا جعله في أمن وسيأتي في قوله تعالى : { وقالوا لن نؤمن لك } في سورة [ الإسراء : 90 ] .
وقد يعدى بالباء لتضمنه معنى صدّق كما في قوله تعالى : { قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } [ يونس : 90 ] .
والذرية : الأبناء وتقدم في قوله : { ذُرية بعضها من بعض } في سورة [ آل عمران : 34 ] . أي فما آمن بما جاء به موسى إلا أبناء بني إسرائيل ولم تبلغ دعوته بقية قومه أو لم يؤمر بالتبليغ إليهم حينئذٍ .
و ( على ) في قوله : { على خوف من فرعون } بمعنى ( مع ) مثل وآتى المال على حبه أي آمنوا مع خوفهم ، وهي ظرف مستقر في موضع الحال من ( ذرية ) ، أي في حال خوفهم المتمكن منهم . وهذا ثناء عليهم بأنهم آمنوا ولم يصدهم عن الإيمان خَوفهم من فرعون .
والمعنى : أنهم آمنوا عند ظهور معجزته ، أي أعلنوا الإيمان به في ذلك الموطن لأن الإيمان لا يعرف إلا بإظهاره ولا فائدة منه إلا ذلك الإظهار . أي من الحاضرين في ذلك المشهد من بني إسرائيل فإن عادة هذه المجامع أن يغشاها الشباب واليافعون فعبر عنهم بالذرية أي الأبناء ، كما يُقال : الغلمان ، فيكونون قد آمنوا من تلقاء أنفسهم ، وكل هذا لا يقتضي أن بقية قومه كفروا به ، إذ يحتمل أن يكونوا آمنوا به بعد ذلك لما بلغتهم دعوته لأنه يكون قد ابتدأ بدعوة فرعون مبادرة لامتثال الأمر من الله بقوله : { اذهبا إلى فرعون إنه طغى } [ طه : 43 ] فيكون المأمور به ابتداء هو دعوة فرعون وتخليص بني إسرائيل من الأسر .
و ( الملأ ) تقدم آنفاً في هذه القصة ، وأضيف الملأ إلى ضمير الجمع وهو عائد إلى الذرية ، أي على خوف من فرعون وعلى خوف من قومهم ، وهم بقية القوم الذين لم يحضروا ذلك المشهد خشية أن يغضبوا عليهم ويؤذوهم لإيمانهم بموسى لما يتوقعون من مؤاخذة فرعون بذلك جميع قبيلتهم على عادة الجبابرة في أخذ القبيلة بفعلة من بعض رجالها .
و ( الفتن ) إدخال الروع والاضطراب على العقل بسبب تسليط ما لا تستطيع النفس تحمله ، وتقدم في قوله تعالى : { والفتنة أشد من القتل } في سورة [ البقرة : 191 ] . فهذا وجه تفسير الآية .
وجملة : وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين } في موضع الحال فهي عطف على قوله : { على خوف من فرعون } وهي تفيد معنى التعليل لخوفهم من فرعون ، أي أنهم محقون في خوفهم الشديد ، فبعد أن أثنى عَليهم بأنهم آمنوا في حال شدة الخوف زاد فبين أنهم أحقاء بالخوف ، وفي هذا زيادة ثناء على قوة إيمانهم إذ آمنوا في حال خوفهم من الملك مع قدرته على أذاهم ، ومن مَلئهم ، أي قومهم ، وهو خوف شديد ، لأن آثاره تتطرق المرء في جميع أحواله حتى في خلوته وخويصته لشدة ملابسةِ قومه إياه في جميع تقلباته بحيث لا يجد مفراً منهم ، ثم اتبعه ببيان اتساع مقدرة فرعون بيان تجاوزه الحد في الجور ، ومَن هذه حالته لا يزَعه عن إلحاق الضر بأضداده وازع .
وتأكيد الخبر ب ( إن ) للاهتمام بتحقيق بطش فرعون .
والعلو : مستعار للغلبة والاستبداد ، كقوله تعالى : { إن فرعون علا في الأرض } وقوله : { أن لا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين } [ النمل : 31 ] .
والإسراف : تجاوز حد الاعتدال المعروف في فعل ، فهو تجاوز مذموم ، وأشهر موارده في الإنفاق ، ولم يذكر متعلَّق الإفراط فتعيَّن أن يكون إسرافاً فيما عُرف به ملوك زمانهم من الصفات المكروهة عند الناس الملازمة للملوك في العادة .
وقوله : { من المسرفين } أبلغ في وصفه بالإسراف من أن يقال : وإنه لَمُسرف لما تقدم عند قوله تعالى : { قد ضللتُ إذن وما أنا من المهتدين } في [ الأنعام : 56 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلم يؤمن لموسى مع ما أتاهم به من الحجج والأدلة إلا ذرية من قومه خائفين من فرعون وملئهم.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الذرّية في هذا الموضع؛
فقال بعضهم: الذرية في هذا الموضع: القليل... وقال آخرون: معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل لطول الزمان لأن الآباء ماتوا وبقي الأبناء، فقيل لهم ذرّية، لأنهم كانوا ذرية من هلك ممن أرسل إليهم موسى عليه السلام...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرّية من قوم فرعون... منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون...
وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية... هو أن الذرية في هذا الموضع أريد بها ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل، فهلكوا قبل أن يقرّوا بنبوّته لطول الزمان، فأدركت ذرّيتهم فآمن منهم من ذكر الله بموسى.
وإنما قلت هذا القول أولى بالصواب في ذلك لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى، فلأن تكون الهاء في قوله «من قومه» من ذكر موسى لقربهم من ذكره، أولى من أن تكون من ذكر فرعون لبُعد ذكره منها، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليل من خبر ولا نظر.
وبعد، فإن في قوله:"عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ" الدليل الواضح على أن الهاء في قوله: "إلاّ ذُرّيّةٌ مِنْ قَوْمِهِ "من ذكر موسى لا من ذكر فرعون لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام: «على خوف منه»، ولم يكن "على خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ".
وأما قوله: "عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ" فإنه يعني على حال خوف ممن آمن من ذرّية قوم موسى بموسى.
فتأويل الكلام: فما آمن لموسى إلا ذرّية من قومه من بني إسرائيل وهم خائفون من فرعون وملئهم أن يفتنوهم...
وأما قوله: "وَمَلَئِهِمْ" فإن الملأ: الأشراف. وتأويل الكلام: على خوف من فرعون ومن أشرافهم.
واختلف أهل العربية فيمن عني بالهاء والميم اللتين في قوله: "وَمَلَئِهِمْ"؛ فقال بعض نحويي البصرة: عني بها الذرّية، وكأنه وجه الكلام إلى: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، على خوف من فرعون، وملأ الذرية من بني إسرائيل. وقال بعض نحويي الكوفة: عني بها فرعون، قال: وإنما جاز ذلك وفرعون واحد لأن الملك إذا ذكر لخوف أو سفر وقدوم من سفر ذهب الوهم إليه وإلى من معه... قال: وقد يكون أن يريد أن بفرعون آل فرعون، ويحذف "الآل" فيجوز، كما قال: "وَاسْئَل القَرْيَةَ" يريد أهل القرية، والله أعلم...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: الهاء والميم عائدتان على الذرية. ووجه معنى الكلام إلى أنه على خوف من فرعون، وملأ الذرّية لأنه كان في ذرّية القرن الذين أرسل إليهم موسى من كان أبوه قبطيّا وأمه إسرائيلية، فمن كان كذلك منهم كان مع فرعون على موسى.
وقوله: "أنْ يَفْتِنَهُمْ" يقول: كان إيمان من آمن من ذرّية قوم موسى على خوف من فرعون أن يفتنهم بالعذاب، فيصدّهم عن دينهم، ويحملهم على الرجوع عن إيمانهم والكفر بالله. وقال: "أنْ يَفْتِنَهُمْ" فوحد ولم يقل: «أن يفتنوهم»، لدليل الخبر عن فرعون بذلك أن قومه كانوا على مثل ما كان عليه لما قد تقدّم من قوله: "عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ".
وقوله: "وَإنّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الأرْضِ" يقول تعالى ذكره: وإن فرعون لجبار مستكبر على الله في أرضه. "وإنّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ" وإنه لمن المتجاوزين الحقّ إلى الباطل، وذلك كفره بالله وتركه الإيمان به وجحوده وحدانية الله وادّعاؤه لنفسه الألوهة وسفكه الدماء بغير حلها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فيه دلالة أن الخوف لا يعذر المرء في ترك الإيمان حقيقة، وإن كان يعذر في ترك إظهاره لأن التصديق يكون بالقلب، ولا أحد من الخلائق يطلع على ذلك. لذلك لم يعذر في ترك إيمانه لأنه يقدر على إسراره. ألا ترى إلى قوله: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه)...
وقوله تعالى: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ) وهو ما قال عز وجل (إِنَّ فِرْعَوْنَ علا فِي الأَرْضِ) [القصص: 4] أي قهر، وغلب على أهل الأرض (وإنه لمن المسرفين).
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أهل الحقيقة في كل وقتٍ قليلٌ عَدَدُهم، كبيرٌ عند الله خَطَرُهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَمَا ءامَنَ لموسى} في أوّل أمره {إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ} إلاّ طائفة من ذراري بني إسرائيل، كأنه قيل: إلاّ أولاد من أولاد قومه. وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف...
فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: {وَمَلَئِهِمْ}؟ قلت: إلى فرعون، بمعنى آل فرعون... أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له. ويجوز أن يرجع إلى الذرية، أي على خوف من فرعون وخوف من أشراف بني إسرائيل، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون عليهم وعلى أنفسهم. ويدلّ عليه قوله: {أَن يَفْتِنَهُمْ} يريد أن يعذبهم.
{وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض} لغالب فيها قاهر. {وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} في الظلم والفساد، وفي الكبر والعتوّ بادعائه الربوبية.
ثم قال: {أن يفتنهم} أي يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم. ثم قال: {وإن فرعون لعال في الأرض} أي لغالب فيها قاهر {وإنه لمن المسرفين} قيل: المراد أنه كثير القتل كثير التعذيب لمن يخالفه في أمر من الأمور، والغرض منه بيان السبب في كون أولئك المؤمنين خائفين...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى، عليه السلام، مع ما جاء به من الآيات البينات والحجج القاطعات والبراهين الساطعات، إلا قليل من قوم فرعون، من الذرية -وهم الشباب- على وجل وخوف منه ومن مَلَئه، أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر؛ لأن فرعون كان جبارا عنيدا مسرفا في التمرد والعتوّ، وكانت له سَطْوة ومَهابة، تخاف رعيته منه خوفا شديدا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما حكى سبحانه أن موسى عليه السلام أبان ما أبان من بطلان السحر وكونه إفساداً، فثبت ما أتى به لمخالفته له، أخبر تعالى -تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وفطماً عن طلب الإجابة للمقترحات- أنه ما تسبب عن ذلك في أول الأمر عقب إبطال سحرهم من غير مهلة إلا إيمان ناس ضعفاء غير كثير، فقال تعالى: {فما آمن} أي متبعاً {لموسى} أي بسبب ما فعل، ليعلم أن الآيات ليست سبباً للهداية إلا لمن أردنا ذلك منه؛ وبين أن الصغار أسرع إلى القبول بقوله: {إلا ذرية} أي شبانهم هم أهل لأن تذر فيهم البركة {من قومه} أي قوم موسى الذين لهم القدرة على القيام في المحاولة لما يريدونه، والظاهر أنهم كانوا أيتاماً وأكثرهم -كما قاله مجاهد} على خوف {أي عظيم} من فرعون وملئهم {أي أشراف قوم الذرية؛ ولما كان إنكار الملأ إنما هو بسبب فرعون أن يسلبهم رئاستهم، انحصر الخوف فيه فأشار إلى ذلك بوحدة الضمير فقال: {أن يفتنهم} وأتبعه ما يوضح عذرهم بقوله مؤكداً تنزيلاً لقريش منزلة من يكذب بعلو فرعون لتكذيبهم لأن ينصر عليهم الضعفاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لعلوهم: {وإن فرعون لعال} أي غالب قاهر متمكن بما فتناه به من طاعة الناس له {في الأرض} أي أرض مصر التي هي بكثرة ما فيها من المرافق كأنها جميع الأرض {وإنه لمن المسرفين} أي العريقين في مجاوزة الحدود بظاهره وباطنه، وإذا ضممت هذه الآية إلى قوله تعالى: {وأن المسرفين هم أصحاب النار} [غافر: 43] كان قياساً بديهياً منتجاً إنتاجاً صريحاً قطعياً أن فرعون من أصحاب النار..
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} المتبادر إلي فهمي أن عطف هذه الجملة على ما قبلها بالفاء لإفادة السببية أو التفريع، أي إن إصرار فرعون وقومه على الكفر بموسى بعد خيبة السحرة وظهور حقه على باطلهم، ثم عزمه على قتله كما أنبأ الله تعالى بقوله: {وقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ولْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] يعني بالفساد الثورة والخروج على السلطان، كما قتل من آمن به من السحرة. كل هذا أوقع الخوف والرعب في قلوب بني إسرائيل قوم موسى فما آمن له إلا ذرية من قومه وهم الأحداث من المراهقين والشبان، وقيل: قوم فرعون، ولكن من آمن به منهم كان يكتم إيمانه، ولا يقال آمن له إلا من اتبعه مؤمنا، ولم يكونوا صغارا. والذرية في اللغة الصغار من الأولاد، قال الراغب وإن كان يقع على الصغار والكبار معا في التعارف، ويستعمل للواحد والجمع، وأصله الجمع.
{عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} أي آمنوا على خوف من فرعون وملئهم- أي أشراف قومهم الجبناء المرائين الذي هم عرفاؤهم عند فرعون- فيما يطلب هو منهم، فإن الملوك يستذلون الشعوب ويستعبدونهم برؤساء وعرفاء منهم، وقيل: ملأ فرعون، وجمع ضميره للتعظيم، على خوف منه أن يفتنهم عن الإيمان لموسى، واتباع دينه، بالتعذيب والإرهاق. الفتون الابتلاء والاختبار الشديد للحمل على الشيء أو على تركه، واستعمل في الاضطهاد والتعذيب للارتداد عن الدين بكثرة كما تقدم في تفسير {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} [البقرة: 193].
{وإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ} أي والحال أن فرعون عات شديد العتو مستبد غالب قوي القهر في أرض مصر، فهو جدير بأن يخاف منه. فالمراد بعلوه قهره واستبداده كما حكى الله عنه بقوله: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ ويَذَرَكَ وآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127].
{وإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} أي المتجاوزين حدود الرحمة والعدل، إلى الظلم والقتل، والعدوان والبغي، وغمط الحق واحتقار الخلق (وهو معنى الكبرياء).
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
والحكمة -والله أعلم- بكونه ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، أن الذرية والشباب، أقبل للحق، وأسرع له انقيادًا، بخلاف الشيوخ ونحوهم، ممن تربى على الكفر فإنهم -بسبب ما مكث في قلوبهم من العقائد الفاسدة- أبعد من الحق من غيرهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الذين أظهروا إيمانهم وانضمامهم لموسى من بني إسرائيل كانوا هم الفتيان الصغار، لا مجموعة الشعب الإسرائيلي...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين} وفي هذا وصفان كلاهما يمنع الاستجابة لدعوة موسى عليه السلام: الوصف الأول – أنه عال في الأرض ينظر إلى الناس كأنهم جميعا دونه وأنه ليس من طينتهم، ومن كان كذلك يغره الغرور فيقول للناس ما أريكم إلا ما رأى.
والوصف الثاني – أنه مسرف، أي مغال في كل شيء، أسرف على نفسه وأسرف على الناس وأسرف في العتو والفساد...
وإذا كان السحرة-وهم عدة فرعون وعتاده لمواجهة موسى-أعلنوا الإيمان، فعاقبهم الفرعون وقال: {آمنتم له قبل أن آذن لكم} [طه 71]: فهذا يدل على أن فكرة الألوهية كانت ما تزال مسيطرة على عقله؛ ولذلك خاف الناس من إعلان الإيمان؛ ولذلك قال الحق سبحانه: {فما آمن لموسى إلا ذرية}: وكلمة "ذرية "تفيد الصغار الذين لم تلمسهم خميرة من الفساد الذي كان منتشرا، كما أن الصغار يتمتعون بطاقة من النقاء، ويعيشون في خلوّ من المشاكل، ولم يصلوا على مرتبة السيادة التي يحرص عليها، ومع ذلك فهم قد آمنوا: {على خوف من فرعون وملئهم}: وكلمة {على خوف} تفيد الاستعلاء، مثل قولنا: على الفرس أو على الكرسي، ويكون المستعلي في هذه الحالة متمكنا من المستعلى عليه؛ ومن يستعلي إنما يركب المستعلي، ويحمل المستعلي العبء...
وكذلك قول الحق سبحانه وتعالى: {على خوف}: أي: أنهم فوق الخوف يسير بهم إلى دهاليز توقع الآلام.
وهم هنا آمنوا: {على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم} والكلام هنا من الحق الأعلى سبحانه يبين لنا أن الخوف ليس من فرعون؛ لأن فرعون إنما يمارس التخويف بمن حوله...
وفرعون في وضعه ومكانته لا يباشر التعذيب بنفسه، بل يقوم به زبانيته.
والإشارة هنا تدل على الخوف من شيعة فرعون وملئهم.
وقال الحق سبحانه هنا: {يفتنهم}، ولم يقل: "يفتنوهم"؛ ليدلنا على ملحظ أن الزبانية لا يصنعون التعذيب لشهوة عندهم، بل يمارسون التعذيب لشهوة عند الفرعون.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فلم يؤمن منهم إلا قليلٌ، ولكنهم لم يكونوا مطمئنين لمصيرهم، وذلك من خلال الضغوط الصعبة التي يستطيع فرعون أن يمارسها ضدهم، وبذلك كان إيمانهم {عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} عن دينهم، وذلك بالتأكيد على نقاط الضعف الكامنة في نفوسهم وفي حياتهم التي تبعث فيهم الاهتزاز في الموقف والانتماء...