قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم } ، نزلت في المنافقين تولوا اليهود وناصحوهم ونقلوا أسرار المؤمنين إليهم . وأراد بقوله : { غضب الله عليهم } اليهود ، { ما هم منكم ولا منهم }يعني المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاية ، ولا من اليهود والكافرين ، كما قال :{ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء }( النساء- 143 ) . { ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } ، قال السدي ومقاتل : نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، " فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجراته إذ قال : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان ، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق العينين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :علام تشتمني أنت وأصحابك ؟ فحلف بالله ما فعل وجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه ، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات ، فقال :{ ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } أنهم كذبة " .
{ 14-19 }{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .
يخبر تعالى عن شناعة حال المنافقين الذين يتولون الكافرين ، من اليهود والنصارى وغيرهم ممن غضب الله عليهم ، ونالوا من لعنة الله أوفى نصيب ، وأنهم ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين ، { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ } ، فليسوا مؤمنين ظاهرا وباطنا لأن باطنهم مع الكفار ، ولا مع الكفار ظاهرا وباطنا ، لأن ظاهرهم مع المؤمنين ، وهذا وصفهم الذي نعتهم الله به ، والحال أنهم يحلفون على ضده الذي هو الكذب ، فيحلفون أنهم مؤمنون ، وهم يعلمون{[1019]} أنهم ليسوا مؤمنين .
ثم تعود السورة مرة أخرى إلى الحديث عن المنافقين وأشباههم ، فتصور أحوالهم ، وتبين سوء مصيرهم ، وتكشف القناع عن الأسباب التى أدت بهم إلى الخسران والهلاك فقال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى . . . } ، الاستفهام فى قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ . . } للتعجيب من حال هؤلاء المنافقين ، حيث اتخذوا اليهود حلفاء لهم ، ينقلون إليهم أسرار المؤمنين .
أي : ألم ينته إلى علمك - أيها الرسول الكريم - حال أولئك المنافقين ، الذين اتخذوا اليهود أولياء ، يناصحونهم ويطلعونهم على أخباركم .
فالمراد بالقوم الذين غضب الله عليهم : اليهود ، ووصفهم بذلك للتنفير منهم ، ولبيان أن المنافقين قد بلغوا النهاية فى القبح والسوء ، حيث وَالَوْا وناصروا من غضب الله عليهم ، لا من رضي الله عنهم .
ثم دمغ - سبحانه - هؤلاء المنافقين برذيلة أخرى فقال : { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } أي : أن هؤلاء المنافقين بمسلكهم هذا ، صاروا بمنزلة الذين ليسوا منكم - أيها المؤمنون - وليسوا - أيضا - منهم ، أي : من اليهود ، وإنما هم دائما لا مبدأ لهم ولا عقيدة ، فهم كما قال - سبحانه - { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء . . . } وفى الحديث الشريف : " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين - أي المترددة ين قطيعين - لا تدري أيهما تتبع " .
قال الجمل : وقوله : { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } فيه أوجه . أحدها : أن هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، فقد أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخلص ، ولا من الكافرين الخلص ، بل هم كقوله - تعالى - : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك . . . } والضمير فى قوله { مَّا هُم } يعود على المنافقين ، وفى قوله { مِنْهُمْ } يعود على اليهود .
الثانى : أنها حال من فاعل " تولوا " والمعنى على ما تقدم .
الثالث : أنها صفة ثانية لقوله " قوما " ، وعليه يكون الضمير فى قوله :
" ما هم " يعود على اليهود ، والضمير فى قوله : " منهم " يعود على المنافقين .
يعنى : أن اليهود ليسوا منكم - أيها المؤمنون - ولا من المنافقين . ومع ذلك تولاهم " المنافقون " . . . إلا أن فى هذا الوجه تنافرا بين الضمائر ، فإن الضمير في " ويحلفون " عائد على المنافقين ، وعلى الوجيهن الأولين تتحد الضمائر " .
ثم دمغهم - سبحانه - برذيلة ثالثة أشد نكرا من سابقتيها فقال : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
أي : أنهم ينقلون إلى اليهود أسرار المؤمنين ، مع أنهم لا تربطهم باليهود أية رابطة ، لا من دين ولا من نسب . . . وفضلا عن كل ذلك ، فإن هؤلاء المنافقين يواظبون ويستمرون على الحلف الكاذب المخالف للواقع ، والحال أنهم يعلمون أنهم كاذبون علما لا يخالطه شك أو ريب .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد ذم هؤلاء المنافقين بجملة من الصفات القبيحة ، التى على رأسها تعمدهم الكذب ، وإصرارهم عليه .
قال صاحب الكشاف : " قوله : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب } أي : يقولون : والله إنا لمسلمون ، فيحلفون على الكذب الذي هو ادعاء الإسلام ، { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ؟ قلت : الكذب أن يكون لا على وفاق المخبر عنه ، سواء علم المخبر أم لم يعلم . . . فالمعنى أنهم الذين يخبرون وخبرهم خلاف ما يخبرون عنه ، وهم عالمون بذلك معتدون له ، كمن يحلف بالغموس . . " .
وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : " أنها نزلت فى رجل يقال له : عبد الله بن نَبْتَل - وكان من المنافقين الذين يجالسون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يرفعون حديثه إلى اليهود ، وفى يوم من الأيام كان - صلى الله عليه وسلم - جالسا فى إحدى حجراته ، فقال لمن حوله : " يدخل عليكم الآن رجل قلبه جبار ، وينظر بعيني شيطان " فدخل ابن نبتل ، - وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية - فقال له - صلى الله عليه وسلم - : " علام تشتمنى أنت وأصحابك " ؟ فحلف بالله ما فعل ذلك ، فقال له النبى - صلى الله علي وسلم - : " فعلت " فانطلق فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبوه " ، فنزلت هذه الآية .
ومن الآيات الكثيرة التى صرحت بأن المنافقين يحلفون الأيمان الكاذبة على سبيل التعمد قوله - تعالى - : { وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } .
{ ألم تر إلى الذين تولوا }والوا { قوما غضب الله عليهم }يعني اليهود { ما هم منكم ولا منهم } ، لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك { ويحلفون على الكذب }وهو ادعاء الإسلام { وهم يعلمون }أن المحلوف عليه كذب كمن يحلف بالغموس ، وفي هذا التقييد دليل على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر عدم مطابقته وما لا يعلم وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان في حجرة من حجراته ، فقال يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان ، فدخل عبد الله بن نبتل المنافق وكان أزرق فقال صلى الله عليه وسلم له : علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل ثم جاء بأصحابه فحلفوا فنزلت .
وقوله تعالى :{ ألم تر إلى الذين تولوا }نزلت في قوم من المنافقين تولوا قوماً من اليهود وهم المغضوب عليهم ، وقال الطبري :{ ما هم }يريد به المنافقين و{ منكم }يريد به المؤمنين و{ منهم } يريد به اليهود .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل يجري مع قوله تعالى : { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء }{[11014]} [ النساء : 143 ] ، ومع قوله عليه الصلاة السلام : «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين ){[11015]} لأنه مع المؤمنين بقوله ومع الكافرين بقلبه » ، ولكن هذه الآية تحتمل تأويلاً آخر وهو أن يكون قوله { ما هم } يريد به اليهود ، وقوله : { ولا منهم } يريد به المنافقين فيجيء فعل المنافقين على هذا التأويل أحسن لأنهم تولوا قوماً مغضوباً عليهم ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صواباً . وقوله { يحلفون } يعني المنافقين لأنهم كانوا إذا وقفوا على ما يأتون به من بغض النبي صلى الله عليه وسلم وشتمه وموالاة عدوه حلفوا أنهم لا يفعلون ذلك واستسهلوا الحنث ، ورويت من هذا نوازل كثيرة اختصرتها إيجازاً وإذا تتبعت في المصنفات وجدت كقول ابن أبي لئن رجعنا إلى المدينة وحلفه على أنه لم يقل وغير ذلك .
هذه حالة أخرى من أحوال أهل النفاق هي تولّيهم اليهود مع أنهم ليسوا من أهل ملتهم لأن المنافقين من أهل الشرك .
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لأنها عود إلى الغرض الذي سبقت فيه آيات { إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا } [ المجادلة : 5 ] بعد أن فصل بمستطردات كثيرة بعده .
والقوم الذين غضب الله عليهم هم اليهود وقد عرفوا بما يرادف هذا الوصف في القرآن في قوله تعالى : { غير المغضوب عليهم } [ الفاتحة : 7 ] .
والاستفهام تعجيبي مثل قوله : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } [ المجادلة : 8 ] .
ووجه التعجيب من حالهم أنهم تولَّوْا قوماً من غير جنسهم وليسوا في دينهم ما حملهم على توليهم إلا اشتراك الفريقين في عداوة الإِسلام والمسلمين .
وضمير { ما هم } يحتمل أن يعود إلى { الذين تولوا } وهم المنافقون فيكون جملة { ما هم منكم ولا منهم } حالاً من { الذين تولوا } ، أي ما هم مسلمون ولا يهود . ويجوز أن يعود الضمير إلى { قوماً } وهم اليهود . فتكون جملة { ما هم منكم } صفة { قوماً } قوماً ليسوا مسلمين ولا مشركين بل هم يهود .
وكذلك ضمير { ولا منهم } يحتمل الأمرين على التعاكس وكلا الاحتمالين واقع . ومراد على طريقة الكلام الموجه تكثيراً للمعاني مع الإِيجاز فيفيد التعجيب من حال المنافقين أن يتولوا قوماً أجانب عنهم على قوم هم أيضاً أجانب عنهم ، على أنهم إن كان يفرق بينهم وبين المسلمين اختلاف الدّين فإن الذي يفرق بينهم وبين اليهود اختلاف الدين واختلاف النسب لأن المنافقين من أهل يثرب عرب ويفيد بالاحتمال الآخر الإخبار عن المنافقين بأن إسلامهم ليس صادقاً ، أي ما هم منكم أيها المسلمون ، وهو المقصود . ويكون قوله : { ولا منهم } على هذا الاحتمال احتراساً وتتميماً لحكاية حالهم ، وعلى هذا الاحتمال يكون ذم المنافقين أشد لأنه يدل على حماقتهم إذ جعلوا لهم أولياء مَن ليسوا على دينهم فهم لا يوثق بولايتهم وأضمروا بغض المسلمين فلم يصادفوا الدين الحق .
{ ويحلفون على الكذب } عطف على { تولوا } وجيء به مضارعاً للدلالة على تجدده ولاستحضار الحالة العجيبة في حين حلفهم على الكذب للتنصل مما فعلوه . والكذب الخبر المخالف للواقع وهي الأخبار التي يخبرون بها عن أنفسهم في نفي ما يصدر منهم في جانب المسلمين .
{ وهم يعلمون } جملة في موضع الحال ، وذلك أدخل في التعجيب لأنه أشنع من الحلف على الكذب لعدم التثبت في المحلوف عليه .
وأشار هذا إلى ما كان يحلفه المنافقون للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمسلمين إذَا كشف لهم بعض مكائدهم ، ومن ذلك قول الله تعالى فيهم : { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم } [ التوبة : 56 ] ، وقوله : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } [ التوبة : 62 ] وقوله : { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر } [ التوبة : 74 ] .
قال السدِّي ومقاتل : نزلت في عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل ( بنون فباء موحدة فمثناة فوقية ) كان أحدهما وهو عبد الله بن نبتل يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ويرفع أخباره إلى اليهود ويسبّ النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغ خبره أو أطلعه الله عليه جاء فاعتذر وأقسم إنه ما فعل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم} يقول ألم تنظر يا محمد إلى الذين ناصحوا اليهود بولايتهم... يقول الله تعالى: {ما هم} يعني المنافقين عند الله {منكم} يا معشر المسلمين {ولا منهم} يعني من اليهود في الدين والولاية... {ويحلفون على الكذب وهم يعلمون} أنهم كذبة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر بعين قلبك يا محمد، فترى إلى القوم الذين تولّوْا قوما غضب الله عليهم، وهم المنافقون تولّوا اليهود وناصحوهم...
قوله: {ما هُمْ مِنْكُمْ} يقول تعالى ذكره: ما هؤلاء الذين تولّوا هؤلاء القوم الذين غضب الله عليهم، منكم يعني: من أهل دينكم وملتكم،" ولا منهم "ولا هم من اليهود الذين غضب الله عليهم، وإنما وصفهم بذلك منكم جلّ ثناؤه لأنهم منافقون إذا لقوا اليهود، {قالوا إنّا مَعَكمْ إنّما نَحنُ مُسْتَهزئون وَإذا لَقُوا الذّين آمَنُوا قَالوَا آمَنّا}.
وقوله: {ويَحْلِفُونَ على الكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يقول تعالى ذكره: ويحلفون على الكذب، وذلك قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {نشهد إنك لرسول الله} وهم كاذبون غير مصدّقين به، ولا مؤمنين به، كما قال جلّ ثناؤه: {وَاللّهُ يَشْهَدُ إنّ المُنافِيِنَ لَكاذِبُونَ} وقد ذُكِر أن هذه الآية نزلت في رجل منهم عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر بلغه عنه، فحلف كذبا...
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ يَنْظُرُ بعَيْنِ شَيْطانٍ، أو بعَيْنَيْ شَيْطانٍ»، قال: فدخل رجل أزرق، فقال له: «علامَ تسبني أو تشتمني؟» قال: فجعل يحلف، قال: فنزلت هذه الآية التي في المجادلة: {وَيحْلِفُونَ على الكَذِبِ وَهَمْ يَعْلَمُونَ} والآية الأخرى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يذكر سفه المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتوليهم قوما غضب الله عليهم على ما علم منهم أن الله تعالى قد غضب عليهم، لكنهم تولوهم طمعا منهم في أموالهم وفي ما كان عندهم من السعة وفضل الدنيا. {ويحلفون على الكذب وهم يعلمون} كأنه قيل لهم: لم توليتم قوما غضب الله عليهم؟ فحلفوا أنهم لم يتولوهم، فأخبر أنهم كاذبون في حلفهم. وفيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم تولوا اليهود سرا من المؤمنين، وحلفوا كذبا، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوليتهم وكذبهم في الحلف. دل أنه عليه السلام عرف ذلك بالوحي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ألم تر} ودل على بعدهم عن الخير بحرف الغاية فقال: {إلى الذين تولوا} أي تكلفوا بغاية جهدهم أن جعلوا أولياءهم الذين ينزلون بهم أمورهم {قوماً} ابتغوا عندهم العزة اغتراراً بما يظهر لهم منهم من القوة {غضب الله} أي الملك الأعلى الذي لا ند له {عليهم} أي على المتولين والمتولَّين لأنهم قطعوا ما بينهم وبينه، والأولون هم المنافقون تولوا اليهود، وزاد في الشناعة عليهم بقوله مستأنفاً: {ما هم} أي اليهود المغضوب عليهم {منكم} أيها المؤمنون لتولوهم خوفاً من السيف ورغبة في السلم {ولا منهم} أي المنافقين، فتكون موالاتهم لهم لمحبة سابقة وقرابة شابكة، ليكون ذلك لهم عذراً، بل هم مذبذبون، فهم مع المؤمنين بأقوالهم، ومع الكفار بقلوبهم... {ويحلفون} أي المنافقون يجددون الحلف على الاستمرار، ودل بأداة الاستعلاء على أنهم في غاية الجرأة على استمرارهم على الأيمان الكاذبة بأن التقدير: مجترئين {على الكذب} في دعوى الإسلام وغير ذلك مما يقعون فيه من عظائم الآثام، فإذا عوتبوا عليه بادروا إلى الإيمان. ولما كان الكذب قد يطلق في اللغة على ما يخالف الواقع وإن كان عن غير تعمد بأن يكون الحالف يجهل عدم مطابقته للواقع، قال نافياً لذلك مبيناً أنهم جرؤوا على اليمين الغموس: {وهم يعلمون} أي أنهم كاذبون فهم متعمدون...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه الحملة القوية على المنافقين الذين يتولون قوما غضب الله عليهم -وهم اليهود- تدل على أنهم كانوا يمعنون في الكيد للمسلمين، ويتآمرون مع ألد أعدائهم عليهم؛ كما تدل على أن سلطة الإسلام كانت قد عظمت، بحيث يخافها المنافقون، فيضطرون -عندما يواجههم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والمؤمنون بما يكشفه الله من تدبيراتهم ومؤامراتهم- إلى الحلف بالكذب لإنكار ما ينسب إليهم من مؤامرات وأقوال؛ وهم يعلمون أنهم كاذبون في هذه الأيمان... إنما هم يتقون بأيمانهم ما يتوقعونه من مؤاخذتهم بما ينكشف من دسائسهم: اتخذوا أيمانهم جنة أي وقاية. وبذلك يستمرون في دسائسهم للصد عن سبيل الله!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ووجه التعجيب من حالهم أنهم تولَّوْا قوماً من غير جنسهم وليسوا في دينهم ما حملهم على توليهم إلا اشتراك الفريقين في عداوة الإِسلام والمسلمين. وضمير {ما هم} يحتمل أن يعود إلى {الذين تولوا} وهم المنافقون فيكون جملة {ما هم منكم ولا منهم} حالاً من {الذين تولوا}، أي ما هم مسلمون ولا يهود. ويجوز أن يعود الضمير إلى {قوماً} وهم اليهود. فتكون جملة {ما هم منكم} صفة {قوماً} قوماً ليسوا مسلمين ولا مشركين بل هم يهود. وكذلك ضمير {ولا منهم} يحتمل الأمرين على التعاكس وكلا الاحتمالين واقع. ومراد على طريقة الكلام الموجه تكثيراً للمعاني مع الإِيجاز فيفيد التعجيب من حال المنافقين أن يتولوا قوماً أجانب عنهم على قوم هم أيضاً أجانب عنهم، على أنهم إن كان يفرق بينهم وبين المسلمين اختلاف الدّين فإن الذي يفرق بينهم وبين اليهود اختلاف الدين واختلاف النسب لأن المنافقين من أهل يثرب عرب ويفيد بالاحتمال الآخر الإخبار عن المنافقين بأن إسلامهم ليس صادقاً، أي ما هم منكم أيها المسلمون، وهو المقصود. ويكون قوله: {ولا منهم} على هذا الاحتمال احتراساً وتتميماً لحكاية حالهم، وعلى هذا الاحتمال يكون ذم المنافقين أشد لأنه يدل على حماقتهم إذ جعلوا لهم أولياء مَن ليسوا على دينهم فهم لا يوثق بولايتهم وأضمروا بغض المسلمين فلم يصادفوا الدين الحق. {ويحلفون على الكذب} عطف على {تولوا} وجيء به مضارعاً للدلالة على تجدده ولاستحضار الحالة العجيبة في حين حلفهم على الكذب للتنصل مما فعلوه. والكذب الخبر المخالف للواقع وهي الأخبار التي يخبرون بها عن أنفسهم في نفي ما يصدر منهم في جانب المسلمين. {وهم يعلمون} جملة في موضع الحال، وذلك أدخل في التعجيب لأنه أشنع من الحلف على الكذب لعدم التثبت في المحلوف عليه.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وهكذا تكون الآيات قد احتوت صورة من المواقف الخبيثة التي كان يقفها المنافقون في الكيد والأذى والتضامن والتآمر مع اليهود. والآيات قرينة أخرى على أنها نزلت قبل الفصل الذي احتوى خبر وقعتي الخندق وبني قريظة الوارد في سورة الأحزاب أو على أن فصل سورة الأحزاب المذكورة قد نزل بعدها. والله اعلم. ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تلقينا أخلاقيا واجتماعيا مستمر المدى بتقبيح وتشنيع وحظر التناصر والتضامن مع أعداء الأمة والملة وعدم التساهل مع من يفعل ذلك، والوقوف منهم موقف الشدة والصرامة.