{ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } أي : يا ذرية من مننا عليهم وحملناهم مع نوح ، { إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } ففيه التنويه بالثناء على نوح عليه السلام بقيامه بشكر الله واتصافه بذلك والحث لذريته أن يقتدوا به في شكره ويتابعوه عليه ، وأن يتذكروا نعمة الله عليهم إذ{[467]} أبقاهم واستخلفهم في الأرض وأغرق غيرهم .
وقوله : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ . . . } منصوب على الاختصاص ، أو على النداء والمقصود بهذه الجملة الكريمة إثارة عزائمهم نحو الإِيمان والعمل الصالح ، وتنبيههم إلى نعمه - سبحانه - عليهم ، حيث جعلهم من ذرية أولئك الصالحين الذين آمنوا بنوح - عليه السلام - وحضهم على السير على منهاجهم فى الإِيمان والعمل الصالح ، فإن شأن الأبناء أن يقتدوا بالآباء فى التقوى والصلاح .
والمعنى : لا تتخذوا يا بنى إسرائيل معبودا غير الله - تعالى - ، فأنتم أبناء أولئك القوم الصالحين ، الذين آمنوا بنوح - عليه السلام - فأنجاهم الله - تعالى - مع نبيهم من الغرق .
قال الآلوسى : وفى التعبير بما ذكر إيماء إلى علة النهى من أوجه : أحدها تذكيرهم بالنعمة فى إنجاء آبائهم . والثانى : تذكيرهم بضعفهم وحالهم المحوج إلى الحمل والثالث : أنهم أضعف منهم - أى من آبائهم - لأنهم متولدون عنهم وفى إيثار لفظ الذرية الواقعة على الأطفال والنساء فى العرف الغالب مناسبة تامة لما ذكر .
وقوله : { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } تذييل قصد به الثناء على نوح - عليه السلام - أى : إن نوحا - عليه السلام - كان من عبادنا الشاكرين لنعمنا ، المستعملين لها فيما خلقت له ، المتوجهين إلينا بالتضرع والدعاء فى السراء والضراء .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : قوله : { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } ما وجه ملاءمته لما قبله ؟ .
قلت : كأنه قيل لا تتخذوا من دونى وكيلا ، ولا تشركوا بى ، لأن نوحا كان عبدا شكورا ، وأنتم مَنْ آمن به وحمل معه ، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم ، ويجوز أن يكون تعليلا لاختصاصهم ، والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح - عليه السلام - فهم متصلون به ، فاستأهلوا لذلك الاختصاص . . .
وبذلك نرى الآيتين الكريمتين قد دعتا إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - بأسلوب يرضى العقول السليمة ، والعواطف الشريفة .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك قضاءه العادل فى بنى إسرائيل وساق سنة من سننه التى لا تتخلف فى خلقه فقال - تعالى - : { وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً . . . } .
ثم قال : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } تقديره : يا ذرية من حملنا مع نوح . فيه تهييج وتنبيه على المنة ، أي : يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة ، تشبهوا بأبيكم ، { إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } فاذكروا أنتم نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمدًا صلى الله عليه وسلم . وقد ورد في الحديث وفي الأثر عن السلف : أن نوحًا ، عليه السلام ، كان يحمد الله [ تعالى ]{[17225]} على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله ؛ فلهذا سمي عبدًا شكورًا .
قال : الطبراني حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن أبي حُصَين ، عن عبد الله بن سنان ، عن سعد بن مسعود الثقفي قال : إنما سمي نوح عبدًا شكورًا ؛ لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله{[17226]} .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو أسامة ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة ، عن سعيد بن أبي بُرْدَة ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها " .
وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريق أبي أسامة ، به{[17227]} .
وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : كان يحمد الله على كل حال .
وقد ذكر البخاري هنا حديث أبي زُرْعَة ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[17228]} ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنا سيد الناس يوم القيامة - بطوله ، وفيه - : فيأتون نوحًا فيقولون : يا نوح ، أنت{[17229]} أول الرسل إلى أهل الأرض ، وقد سماك الله عبدًا شكورًا ، اشفع لنا إلى ربك " وذكر الحديث بكماله{[17230]} .
يجوز أن يكون اعتراضاً في آخر الحكاية ليس داخلاً في الجملة التفسيرية . فانتصاب { ذريّةَ } على الاختصاص لزيادة بيان بني إسرائيل بياناً مقصوداً به التعريض بهم إذ لم يشكروا النعمة . ويجوز أن يكون من تمام الجملة التفسيرية ، أي حال كونكم ذرية من حملنا مع نوح عليه السلام ، أو ينتصب على النداء بتقدير حرف النداء ، أي يا ذرية من حملنا مع نوح ، مقصوداً به تحريضهم على شكر نعمة الله واجتناب الكفر به باتخاذ شركاء دونه .
والحمل وضع شيء على آخر لنقله ، والمراد الحمل في السفينة كما قال : { حملناكم في الجارية } [ الحاقة : 11 ] ، أي ذرّيّة من أنجيناهم من الطوفان مع نوح عليه السلام .
وجملة { إنه كان عبدا شكوراً } مفيدة تعليل النهي عن أن يتخذوا من دون الله وكيلاً ، لأن أجدادهم حملوا مع نوح بنعمة من الله عليهم لنجاتهم من الغرق وكان نوح عبداً شكوراً والذين حملوا معه كانوا شاكرين مثله ، أي فاقتدوا بهم ولا تكفروا نعم الله .
ويحتمل أن تكون هذه الجملة من تمام الجملة التفسيرية فتكون مما خاطب الله به بني إسرائيل ، ويحتمل أنها مذيلة لجملة { وآياتنا موسى الكتاب } فيكون خطاباً لأهل القرآن .
واعلم أن في اختيار وصفهم بأنهم ذرية من حمل مع نوح عليه السلام معاني عظيمة من التذكير والتحريض والتعريض لأن بني إسرائيل من ذرية سام بن نوح وكان سام ممن ركب السفينة .
وإنما لم يقل ذرية نوح مع أنهم كذلك قصداً لإدماج التذكير بنعمة إنجاء أصولهم من الغرق .
وفيه تذكير بأن الله أنجى نوحاً ومن معه من الهلاك بسبب شكره وشكرهم تحريضاً على الائتساء بأولئك .
وفيه تعريض بأنهم إن أشركوا ليُوشكن أن ينزل بهم عذاب واستئصال ، كما في قوله : { قيل يا نوح اهبِطْ بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنُمتعهم ثم يَمَسُّهُمْ منا عذابٌ أليم } [ هود : 48 ] .
وفيه أن ذرية نوح كانوا شقين شق بار مطيع ، وهم الذين حملهم معه في السفينة ، وشق متكبر كافر وهو ولده الذي غرق ، فكان نوح عليه السلام مثلاً لأبي فريقين ، وكان بنو إسرائيل من ذرية الفريق البار ، فإن اقتدوا به نَجُوا وإن حادوا فقد نزعوا إلى الفريق الآخر فيوشك أن يهلكوا . وهذا التماثل هو نكتة اختيار ذكر نوح من بين أجدادهم الآخرين مثل إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب عليهم السلام ، لفوات هذا المعنى في أولئك . وقد ذكر في هذه السورة استئصال بني إسرائيل مرتين بسبب إفسادهم في الأرض وعلوهم مرتين وأن ذلك جزاء إهمالهم وعْدَ اللّهِ نوحاً عليه السلام حينما نجاه .
وتأكيد كون نوح { كان عبداً شكوراً } بحرف ( إنّ ) تنزيل لهم منزلة من يجهل ذلك ؛ إما لتوثيق حملهم على الاقتداء به إن كانت الجملة خطاباً لبني إسرائيل من تمام الجملة التفسيرية ، وإما لتنزيلهم منزلة من جهل ذلك حتى تورطوا في الفساد فاستأهلوا الاستئصال وذهاب ملكهم ، لينتقل منه إلى التعريض بالمشركين من العرب بأنهم غير مقتدين بنوح لأن مثلهم ومثل بني إسرائيل في هذا السياق واحد في جميع أحوالهم ، فيكون التأكيد منظوراً فيه إلى المعنى التعريضي .
ومعنى كون نوح { عبداً } أنه معترف لله بالعبودية غير متكبر بالإشراك ، وكونه { شكوراً } ، أي شديداً لشكر الله بامتثال أوامره . وروي أنه كان يكثر حمد الله .
والاقتداء بصالح الآباء مجبولة عليه النفوس ومحل تنافس عند الأمم بحيث يعد خلاف ذلك كمثير للشك في صحة الانتساب .
وكان نوح عليه السلام مثلاً في كمال النفس وكانت العرب تعرف ذلك وتنبعث على الاقتداء به . قال النابغة :
ابن كثير: قال مالك عن زيد بن أسلم: كان يحمد الله على كل حال...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ذريّة من حملنا مع نوح. وعنى بالذرية: جميع من احتجّ عليه جلّ ثناؤه بهذا القرآن من أجناس الأمم، عربهم وعجمهم من بني إسرائيل وغيرهم، وذلك أنّ كلّ من على الأرض من بني آدم، فهم من ذرية من حمله الله مع نوح في السفينة.
"إنّهُ كانَ عَبْدا شَكُورا" يعني بقوله تعالى ذكره: «إنه» إن نوحا، والهاء من ذكر نوح، كان عبدا شكورا لله على نعمه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ذرية من حملنا مع نوح}...هو على النداء والدعاء يا {ذرية من حملنا مع نوح} في السفينة في أصلاب الرجال وأرحام النساء زمان الطوفان. لا تتخذوا {من دوني وكيلا}...
{إنه كان عبدا شكورا} يعني نوحا. سماه شكورا لأنه كان يذكر ربه في جميع أحواله.
وقال بعضهم: الشكور هو الذي يبتغي مرضاة منعمه، ويجتنب مساخطه.
وقال بعضهم: الشكور هو المطيع لله، وقد ذكرنا معنى الشكر أنه اسم المكافأة. أو يقال كانت عبادته شكر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ويقال الشكور هو الذي يكون شكره على توفيقِ اللَّه له لِشُكْرِه، ولا يتقاصر عن شكره لِنِعَمِه. ويقال الشكور الذي يشكر بماله، ينفقه في سبيل الله ولا يدَّخِره، ويشكر بنفْسِه فيستعملها في طاعة الله، لا يُبْقِي شيئاً من الخدمة يدخره، ويشكر بقلبِه ربَّه فلا تأتي عليه ساعةٌ إلا وهو يذكره.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... فإن قلت: قوله إنه كان عبداً شكوراً ما وجه ملاءمته لما قبله؟ قلت: كأنه قيل: لا تتخذوا من دوني وكيلاً، ولا تشركوا بي، لأنّ نوحاً عليه السلام كان عبداً شكوراً، وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم. ويجوز أن يكون تعليلاً لاختصاصهم والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح، فهم متصلون به، فاستأهلوا لذلك الاختصاص.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ذرية من حملنا مع نوح} إنما عبر بهذه العبارة عن الناس الذين عناهم في الآية بحسب الخلاف المذكور لأن في هذه العبارة تعديد النعمة على الناس في الإنجاء المؤدي إلى وجودهم، ويقبح الكفر والعصيان مع هذه النعمة، والذين حملوا مع نوح وأنسلوا هم بنوه لصلبه لأنه آدم الأصغر، وكل من على الأرض اليوم من نسله، هذا قول الجمهور ذكره الطبري عن قتادة ومجاهد وإن كان معه غيرهم فلم ينسل...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} فاذكروا أنتم نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمدًا صلى الله عليه وسلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أتبعه ما يدل على شرفهم بشرف أبيهم، وأنه لم ينفعهم إدلاءهم إليه -عند إرادة الانتقام- بما ارتكبوا من الإجرام، فقال -منبهاً على الاهتمام بالتوحيد والأمر بالإخلاص بالعود إلى مظهر العظمة حيث لا لبس، ناصباً على الاختصاص في قراءة أبي عمرو، وعلى النداء عند الباقين، تذكيراً بنعمة الإيحاء من الغرق: {ذرية من حملنا} أي في السفينة بعظمتنا، على ظهر ذلك الماء الذي طبق ما تحت أديم السماء، ونبه على شرفهم وتمام نعمتهم بقوله تعالى: {مع نوح} أي من أولاده وأولادهم الذين أشرفهم إبراهيم الذي كان شاكراً ثم إسرائيل عليهما السلام، لأن الصحيح أن من كان معه من غيرهم ماتوا ولم يعقبوا، ولم يقل: ذرية نوح، ليعلم أنهم عقب أولاده المؤمنين لتكون تلك منة أخرى؛ ثم نبه على تقواه وإحسانه حثاً على الاقتداء به بقوله: {إنه كان} أي كوناً جبلياً {عبداً شكوراً} أي مبالغاً في الشكر الذي هو صرف جميع ما أنعم الله به فيما خلقه له فأحسن إليه لشكره بأن جعل في ذريته النبوة والكتاب كما فعل بإبراهيم عليه السلام لأنه كان شاكراً، فاقتدوا بهذين الأبوين العظيمين في الشكر يزدكم، ولا تقلدوا غيرهما في الكفر يعذبكم، وخص نوحاً عليه السلام لأنه ما أملى لأحد ما أملى لقومه ولا أمهل أحداً ما أمهلهم، ثم أهلكهم أجمعين كما أومأ إليه قوله {حملنا} إهلاك نفس واحدة، ثم أذهب الماء بعد إغراقهم بالتدريج في مدة طويلة، فثبت أنه منزه عن العجلة، وأنه سبحانه تارة يفعل الأمور الكثيرة الشاقة في أسرع وقت، وتارة يعمل ما هو دونها في أزمان طوال، فبان كالشمس أنه إنما يفعل على حسب ما يريد مما تقتضيه حكمته...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
وفيه تهييج وتنبيه على المنة. والإنعام عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة. وإيماء إلى علة النهي. كأنه قيل: لا تشركوا به فإنه المنعم عليكم والمنجي لكم من الشدائد. وأنهم ضعفاء محتاجون إلى لطفه. وفي التعبير ب (الذرية) الغالب إطلاقها على الأطفال والنساء، مناسبة تامة لما ذكر. وذكر حملهم في السفينة، للإشارة إلى أنه لم يكن لهم حينئذ وكيل يتكلمون عليه سواه. وقوله: {عبدا شكورا} أي لمعرفته بنعم الله واستعمالها على الوجه الذي ينبغي. وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره، وحث للذرية على الاقتداء به.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد خاطبهم باسم آبائهم الذين حملهم مع نوح، وهم خلاصة البشرية على عهد الرسول الأول في الأرض. خاطبهم بهذا النسب ليذكرهم باستخلاص الله لآبائهم الأولين، مع نوح العبد الشكور، وليردهم إلى هذا النسب المؤمن العريق. ووصف نوحا بالعبودية لهذا المعنى ولمعنى آخر، هو تنسيق صفة الرسل المختارين وإبرازها. وقد وصف بها محمدا [صلى الله عليه وسلم] من قبل. على طريقة التناسق القرآنية في جو السورة وسياقها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يجوز أن يكون اعتراضاً في آخر الحكاية ليس داخلاً في الجملة التفسيرية. فانتصاب {ذريّةَ} على الاختصاص لزيادة بيان بني إسرائيل بياناً مقصوداً به التعريض بهم إذ لم يشكروا النعمة. ويجوز أن يكون من تمام الجملة التفسيرية، أي حال كونكم ذرية من حملنا مع نوح عليه السلام، أو ينتصب على النداء بتقدير حرف النداء، أي يا ذرية من حملنا مع نوح، مقصوداً به تحريضهم على شكر نعمة الله واجتناب الكفر به باتخاذ شركاء دونه...
والحمل وضع شيء على آخر لنقله، والمراد الحمل في السفينة كما قال: {حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11]، أي ذرّيّة من أنجيناهم من الطوفان مع نوح عليه السلام...
وجملة {إنه كان عبدا شكوراً} مفيدة تعليل النهي عن أن يتخذوا من دون الله وكيلاً، لأن أجدادهم حملوا مع نوح بنعمة من الله عليهم لنجاتهم من الغرق وكان نوح عبداً شكوراً والذين حملوا معه كانوا شاكرين مثله، أي فاقتدوا بهم ولا تكفروا نعم الله. ويحتمل أن تكون هذه الجملة من تمام الجملة التفسيرية فتكون مما خاطب الله به بني إسرائيل، ويحتمل أنها مذيلة لجملة {وآياتنا موسى الكتاب} فيكون خطاباً لأهل القرآن...
واعلم أن في اختيار وصفهم بأنهم ذرية من حمل مع نوح عليه السلام معاني عظيمة من التذكير والتحريض والتعريض لأن بني إسرائيل من ذرية سام بن نوح وكان سام ممن ركب السفينة. وإنما لم يقل ذرية نوح مع أنهم كذلك قصداً لإدماج التذكير بنعمة إنجاء أصولهم من الغرق. وفيه تذكير بأن الله أنجى نوحاً ومن معه من الهلاك بسبب شكره وشكرهم تحريضاً على الائتساء بأولئك. وفيه تعريض بأنهم إن أشركوا ليُوشكن أن ينزل بهم عذاب واستئصال، كما في قوله: {قيل يا نوح اهبِطْ بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنُمتعهم ثم يَمَسُّهُمْ منا عذابٌ أليم} [هود: 48]...
وفيه أن ذرية نوح كانوا شقين شق بار مطيع، وهم الذين حملهم معه في السفينة، وشق متكبر كافر وهو ولده الذي غرق، فكان نوح عليه السلام مثلاً لأبي فريقين، وكان بنو إسرائيل من ذرية الفريق البار، فإن اقتدوا به نَجُوا وإن حادوا فقد نزعوا إلى الفريق الآخر فيوشك أن يهلكوا. وهذا التماثل هو نكتة اختيار ذكر نوح من بين أجدادهم الآخرين مثل إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب عليهم السلام، لفوات هذا المعنى في أولئك. وقد ذكر في هذه السورة استئصال بني إسرائيل مرتين بسبب إفسادهم في الأرض وعلوهم مرتين وأن ذلك جزاء إهمالهم وعْدَ اللّهِ نوحاً عليه السلام حينما نجاه...
وتأكيد كون نوح {كان عبداً شكوراً} بحرف (إنّ) تنزيل لهم منزلة من يجهل ذلك؛ إما لتوثيق حملهم على الاقتداء به إن كانت الجملة خطاباً لبني إسرائيل من تمام الجملة التفسيرية، وإما لتنزيلهم منزلة من جهل ذلك حتى تورطوا في الفساد فاستأهلوا الاستئصال وذهاب ملكهم، لينتقل منه إلى التعريض بالمشركين من العرب بأنهم غير مقتدين بنوح لأن مثلهم ومثل بني إسرائيل في هذا السياق واحد في جميع أحوالهم، فيكون التأكيد منظوراً فيه إلى المعنى التعريضي...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{إنه كان عبدا شكورا}، الضمير يعود إلى نوح عليه وسلم، وذكر له سبحانه وصفين كريمين:
الوصف الأول: أنه كان عبدا يحس بنعمة العبودية لله تعالى فلم يكن ذا جبروت، بل كان خاضعا لله سبحانه وتعالى، والخضوع لله تعالى وحده هو العزة التي لا ذل فيها ولا استكبار.
والوصف الثاني: أنه شكور، أي كثير الشكر لله تعالى على نعمائه في سرائه وضرائه...
فكأن الحق سبحانه يمتن عليهم بأن نجى إبراهيم مع نوح، فليستمعوا إلى منهج الله الذي جربه آباؤهم، ووجدوا أن من يؤمن بالله تكون له النجاة والأمن من عذاب الله... ويقول تعالى: {إنه كان عبدا شكورا}: أي: أن الحق سبحانه أكرم ذريته؛ لأنه كان عبداً شكوراً، والعمل الصالح ينفع ذرية صاحبه؛ ولذلك سنلاحظ ذرية نوح بعنايتنا، ولن نتركهم يتخبطون في متاهات الحياة، وسنرسل لهم الهدى الذي يرسم لهم الطريق القويم، ويجنبهم الزلل والانحراف...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} وهم الجيل الثاني للبشرية، الذين باركهم الله وأنقذهم من الطوفان، لأنهم آمنوا برسالة نوح وأخلصوا لله، وتمردوا على قومهم، ليبدأوا المسيرة الجديدة على أساس الإيمان بالله والسير على هداه، ولتتبعهم ذريتهم في ذلك، من خلال وحي الله ورسالته... وهكذا كان هذا الجيل الذي عاش مع موسى من قومه، من ذرية أولئك الذين أراد الله هدايتهم بوحيه مع موسى، كما أراد الله هداية أولئك بنوح (ع) {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُوراً} فهو أخلص لله العبودية، التي تمثلت في هذا الثبات على الموقف، والاستمرار في مواجهة الصراع مع القوى الكافرة في هذا الزمن الطويل الذي شارف على الألف سنة من دون تأفف أو تذمّر، حتى استنفد كل الوسائل التي يملكها في حركة الدعوة، ليرضى الله عنه في ذلك، وليؤكد له عبوديته الخالصة في كل المواقف والمواقع. وهذا هو المظهر الحيّ للشكر الذي تؤكد الرسالات عليه، من خلال الارتباط بالله والسير على مرضاته، لأن الله يريد للناس أن يشكروه بالطاعة، باستعمال ما أنعم به عليهم مما يخدم الحياة والإنسان، لا بالكلمة المجرَّدة والعاطفة الساذجة.