{ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ } أي : ليست الشفاعة ملكهم ، ولا لهم منها شيء ، وإنما هي لله تعالى { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } وقد أخبر أنه لا تنفعهم شفاعة الشافعين ، لأنهم لم يتخذوا عنده عهدا بالإيمان به وبرسله ، وإلا فمن اتخذ عنده عهدا فآمن به وبرسله واتبعهم ، فإنه ممن ارتضاه الله ، وتحصل له الشفاعة كما قال تعالى : { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } وسمى الله الإيمان به واتباع رسله عهدا ، لأنه عهد في كتبه وعلى ألسنة رسله ، بالجزاء الجميل لمن اتبعهم .
والضمير فى قوله - تعالى - : { لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة . . . } يرى بعضهم أنه يعود إلى المجرمين فى قوله { وَنَسُوقُ المجرمين . . . } .
أى : نسوق المجرمين إلى جهنم عطاشا ، حالة كونهم لا يملكون الشفاعة لغيرهم ، ولا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم ، لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا وهم المؤمنون الصادقون فإنهم يملكون بتمليك الله - تعالى - لهم إياهان وإذنه لهم فيها ، كما قال - تعالى - :
{ مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ . . } وكما قال - سبحانه - : { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى } وعلى هذا التفسير يكون الاستثناء منقطعاً .
قال القرطبى : " قوله - تعالى - : { لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة } أى : هؤلاء الكفار لا يملكون الشفاعة لأحد { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } وهم المسلمون فيملكونها ، فهو استثناء الشىء من غير جنسه . أى : لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً يشفع ، فمن فى موضع نصب على هذا . . . ويرى آخرون أن الضمير فى قوله : { لاَّ يَمْلِكُونَ . . . } يعود إلى فريقى المتقين والمجرمين .
أى : لا يملك أحد من الفريقين يوم القيامة الشفاعة لأحد ، ولا يملك غيرهم الشفاعة لهم ، { إِلاَّ مَنِ اتخذ } منهم { عِندَ الرحمن عَهْداً } وهم المؤمنون فإنهم يملكون بإذن الله لهم .
والمراد بالعهد الأمر والإذن ، يقال : عهد الأمير إلى فلان بكذا ، إذا أمره به . أو أذن له فى فعله .
وعلى هذا يكون الاستثناء متصلاً ، ويكون لفظ { مَنِ } بدل من الواو فى { يَمْلِكُونَ } .
قال الآلوسى ما ملخصه : " قوله { لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة } ضمير الجمع يعم المتقين والمجرمين ، أى : العباد مطلقاً . . . . وقوله { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } اسثناء متصل . . . . والمعنى : لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم ، إلا من اتصف منهم بما يستأهل معه أن يشفع وهو المراد بالعهد . . . " .
ويبدو لنا أن هذا القول أولى ، لشموله وعمومه إذ الكلام السابق فى الفريقين جميعاً ، فريق المتقين وفريق المجرمين .
{ لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ } أي : ليس لهم من يشفع لهم ، كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض ، كما قال تعالى مخبرًا عنهم : { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100 ، 101 ]
وقوله : { إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } : هذا استثناء منقطع ، بمعنى : لكن من اتخذ عند الرحمن عهدًا ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، والقيام بحقها .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } قال : العهد : شهادة أن لا إله إلا الله ، ويبرأ إلى الله من الحول والقوة ، ولا يرجو إلا الله ، عز وجل .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عثمان بن خالد الواسطي ، حدثنا محمد بن الحسن الواسطي ، عن المسعودي ، عن عون بن عبد الله ، عن أبي فاخِتَةَ ، عن الأسود بن يزيد قال : قرأ عبد الله - يعني ابن مسعود - هذه الآية : { إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } ثم قال : اتخذوا عند الله عهدًا ، فإن الله يقول يوم القيامة : " من كان له عند الله عهد فليقم " قالوا : يا أبا عبد الرحمن ، فَعلمنا . قال : قولوا : اللهم ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى عمل تقربني من الشر وتباعدني{[19144]} من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعل{[19145]} لي عندك عهدًا تُؤدّيه إلي يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد .
قال المسعودي : فحدثني زكريا ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، أخبرنا ابن مسعود : وكان يُلْحِقُ بهن : خائفًا مستجيرًا مستغفرًا ، راهبًا راغبًا إليك{[19146]} .
{ لا يملكون الشفاعة } الضمير فها للعباد المدلول عليها بذكر القسمين وهو الناصب لليوم . { إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا } إلا من تحلى بما يستعد به ويستأهل أن يشفع للعصاة من الإيمان والعمل الصالح على ما وعد الله تعالى ، أو إلا من اتخذ من الله إذنا فيها كقوله تعالى : { لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان } من قولهم : عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به ، ومحله الرفع على البدل من الضمير أو النصب على تقدير مضاف أي إلا شفاعة من اتخذ ، أو على الاستثناء . وقيل الضمير للمجرمين والمعنى : لا يملكون الشفاعة فيهم إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا يستعد به أن يشفع له بالإسلام .
واختلف المتأولون في الضمير في قوله { يملكون } فقالت فرقة : هو عائد على المجرمين ، أي { لا يملكون } أن يشفع لهم ولا سبيل لهم إليها ، وعلى هذا التأويل فهم المشركون خاصة ، ويكون قوله { إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً } استثناء منقطعاً ، أي لكن من اتخذ عهداً يشفع له ، والعهد على هذا الإيمان قال ابن عباس : العهد لا إله إلا الله . وفي الحديث «يقول الله تعالى يوم القيامة من كان له عندي عهد فليقم »{[8051]} وفي الحديث «خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن تامة كان له عند الله عهد أن يدخل الجنة »{[8052]} والعهد أيضاً الإيمان وبه فسر قوله { لا ينال عهدي الظالمين }{[8053]} [ البقرة : 124 ] ويحتمل أن يكون «المجرمون » يعم الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم { لا يملكون الشفاعة } إلا العصاة المؤمنون فإنهم يشفع فيهم فيكون الاستثناء متصلاً ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله ، فيقول : يا محمد ليست لك ، ولكنها لي »{[8054]} . وقالت فرقة : الضمير في قوله { لا يملكون } للمتقين ، قوله { إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً } أي إلا من كان له عمل صالح مبرز يحصل به في حيز من يشفع وقد تظاهرت الأحاديث بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون فيشفعون ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن في أمتي رجلاً يدخل الله بشفاعته الجنة اكثر من بني تميم »{[8055]} ، قال قتادة : وكنا نحدث أن الشهيد يشفع في سبعين ، وقال بعض هذه الفرقة معنى الكلام { إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً } أي لا يملك المتقون الشفاعة إلا لهذه الصنيفة فيجيء { من } في التأويل الواحد للشافعين ، وفي الثاني للمشفوع فيهم{[8056]} ، وتحتمل الآية أن يراد ب { من } محمد عليه السلام وبالشفاعة الخاصة لمحمد العامة للناس ، ويكون الضمير في { يملكون } لجميع أهل المواقف ، ألا ترى أن سائر الأنبياء يتدافعون الشفاعة حتى تصير إليه فيقوم إليها مدلاً ، فالعهد على هذا النص على أمر الشفاعة{[8057]} ، وقوله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً }{[8058]} [ الأسراء : 79 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لا يملك هؤلاء الكافرون بربهم يا محمد، يوم يحشر الله المتقين إليه وفدا الشفاعة، حين يشفع أهل الإيمان بعضهم لبعض عند الله، فيشفع بعضهم لبعض "إلاّ مَنِ اتّخَذَ "منهم "عِنْدَ الرّحْمَنِ" في الدنيا "عَهْدا" بالإيمان به، وتصديق رسوله، والإقرار بما جاء به، والعمل بما أمر به...
عن ابن عباس، قوله: إلاّ مَنِ اتّخَذَ عِنْدَ الرّحْمَنِ عَهْدا قال: العهد: شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرأ إلى الله من الحول والقوّة ولا يرجو إلا الله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وذلك العهدُ حِفْظُهم في دنياهم ما أُخِذَ عليهم -يومَ الميثاق- من القيام بالشهادة بوحدانية مولاهم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} أي: ليس لهم من يشفع لهم، كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض، كما قال تعالى مخبرًا عنهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100، 101] وقوله: {إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}: هذا استثناء منقطع، بمعنى: لكن من اتخذ عند الرحمن عهدًا، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معنى {لا يملكون} لا يستطيعون، فإنّ المِلك يطلق على المقدرة والاستطاعة...
الكافر حين يباشر العذاب يطمع أول ما يطمع في أن يشفع له معبوده، ويخرجه مما هو فيه لكن هيهات، ألم تقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون "5 "وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين "6 "} (سورة الأحقاف).
لذلك يقول تعالى عن هؤلاء يوم القيامة: {لا يملكون الشفاعة.." 87 "} (سورة مريم): لأن الشفاعة لا تكون إلا لمن أخذ الإذن بها: {إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً} (سورة مريم).
والعهد الذي تأخذه على الله بالشفاعة أن تقدم من الحسنات ما يسع تكاليفك أنت، ثم تزيد عليها ما يؤهلك لأن تشفع للآخرين، والخير لا يضيع عند الله، فما زاد عن التكليف فهو في رصيدك في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ولا يهمل مثقال ذرة.
وعلى المؤمن مهما كان مسرفاً على نفسه ساعة يرى إنساناً مقبلاً على الله مستزيداً من الطاعات أن يدعو له بالمزيد، وأن يفرح به؛ لأن فائض طاعاته لعله يعود عليك، ولعلك تحتاج شفاعته في يوم من الأيام...
وما أشبه الشفاعة في الآخرة بما حدث بيننا من شفاعة في الدنيا، فحين يستعصي عليك قضاء مصلحة يقولون لك: اذهب إلى فلان وسوف يقضيها لك. وفعلاً يذهب معك فلان هذا، ويقضي لك حاجتك، فلماذا قضيت على يديه هو؟ لابد أن له عند صاحب الحاجة هذه أيادي لا يستطيع معها أن يرد له طلباً.
إذن: لابد لمن يشفع أن يكون له رصيد من الطاعات يسمح له بالشفاعة، وإذا تأملت لوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من قدم رصيداً إيمانياً وسع تكليفه وتكليف أمته، ألم يخبر عنه ربه بقوله: {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين.. "61 "} (سورة التوبة): لذلك وجبت له الشفاعة، وأذن له فيها.
والحق تبارك وتعالى لا يغفل الرصيد في خلقه أبداً، فكل ما قدمت من طاعات فوق ما كلفك الله به مدخر لك، حتى أن الإنسان إذا اتهم ظلماً، وعوقب على عمل لم يرتكبه فإن الله يدخرها له ويستر عليه ما ارتكبه فعلاً فلا يعاقب عليه.
فالعهد إذن في قوله تعالى: {إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً}
أن تدخل مع ربك في مقام الإحسان، ولا يدخل هذا المقام إلا من أدى ما عليه من تكليف، وإلا فكيف تكون محسناً وأنت مقصر في مقام الإيمان؟...