قوله تعالى : { ولما توجه تلقاء مدين } أي : قصد نحوها ماضياً إليها ، يقال : داره تلقاء دار فلان ، إذا كانت محاذيتها ، وأصله من اللقاء ، قال الزجاج : يعني سلك الطريق التي يلقى مدين فيها ، ومدين هو مدين بن إبراهيم ، سميت البلدة باسمه ، وكان موسى قد خرج خائفاً بلا ظهر ولا حذاء ولا زاد ، وكانت مدين على مسيرة ثمانية أيام من مصر ، { قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } أي : قصد الطريق إلى مدين ، قال ذلك لأنه لم يكن يعرف الطريق إليها . قيل : فلما دعا جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين . قال المفسرون : خرج موسى من مصر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر والبقل ، حتى إنه يرى خضرته في بطنه ، وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه . قال ابن عباس : وهو أول ابتلاء من الله عز وجل لموسى عليه السلام .
ثم حكت لنا السورة الكريمة بعد ذلك ، ما كان منه عندما توجه إلى جهة مدين ، وما حصل له فى تلك الجهة من أحداث ، فقال - تعالى - : { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ . . . } .
لفظ { تِلْقَآءَ } فى قوله - تعالى - : { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } منصوب على الظرفية المكانية ، وهو فى الأصل اسم مصدر . يقال دارى تلقاء دار فلان ، إذا كانت محاذية لها .
و { مَدْيَنَ } اسم لقبيلة شعيب - عليه السلام - أو لقريته التى كان يسكن فيها ، سميت بذلك نسبه إلى مدين بن إبراهيم - عليه السلام - .
وإنما توجه إليها موسى - عليه السلام - ، لأنها لم تكن داخلة تحت سلطان فرعون وملئه .
أى : وبعد أن خرج موسى من مصر خائفا يترقب ، صرف وجهه إلى جهة قرية مدين التى على أطراف الشام جنوبا ، والحجاز شمالا .
صرف وجهه إليها مستسلماً لأمر ربه ، متوسلا إليه بقوله : { عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل } .
أى : قال على سبيل الرجاء فى فضل الله - تعالى - وكرمه : عسى ربى الذى خلقنى بقدرته ، وتولانى برعايته وتربيته ، أن يهدينى ويرشدنى إلى أحسن الطرق التى تؤدى بى إلى النجاة من القوم الظالمين .
فالمراد بسواء السبيل : الطريق المستقيم السهل المؤدى . إلى النجاة ، من إضافة الصفة إلى الموضوف أى : عسى أن يهدينى ربى إلى الطريق الوسط الواضح .
{ ولما توجه من تلقاء مدين } قبالة مدين قرية شعيب ، سميت باسم مدين بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ولم تكن في سلطان فرعون وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمان . { قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } توكلا على الله وحسن ظن به ، وكان لا يعرف الطريق فعن له ثلاث طرق فأخذ في أوسطها وجاء الطلاب عقيبه فأخذوا في الآخرين .
ولما خرج موسى عليه السلام فاراً بنفسه منفرداً حافياً لا شيء معه ، رأى حاله وعدم معرفته بالطريق وخلوه من الزاد وغيره فأسند أمره إلى الله تعالى و { قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } ، وهذه الأقوال منه تقتضي أنه كان عارفاً بالله تعالى عالماً بالحكمة والعلم الذي آتاه الله تعالى ، و { توجه } ، رد وجهه إليها ، و { تلقاء } معناه ناحية ، أي إلى الجهة التي يلقى فيها الشيء المذكور ، و { سواء السبيل } معناه وسطه وقويمه ، وفي هذا الوقت بعث الله تعالى الملك المسدد حسبما ذكرناه قبل وقال مجاهد : أراد ب { سواء السبيل } طريق مدين وقال الحسن : أراد سبيل الهدى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أبدع ونظيره قول الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم «هذا الذي يهديني السبيل » الحديث{[1]} .
هذه هجرة نبوية تشبه هجرة إبراهيم عليه السلام إذ قال { إني مهاجر إلى ربي } [ العنكبوت : 26 ] . وقد ألهم الله موسى عليه السلام أن يقصد بلاد مدين إذ يجد فيها نبيئاً يبصره بآداب النبوءة ولم يكن موسى يعلم إلى أين يتوجه ولا من سيجد في وجهته كما دل عليه قوله { عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } .
فقوله تعالى { ولما توجه تلقاء مدين } عطف على جمل محذوفة إذ التقدير : ولما خرج من المدينة هائماً على وجهه فاتفق أن كان مسيره في طريق يؤدي إلى أرض مدين حينئذ قال { عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } . قال ابن عباس : خرج موسى ولا علم له بالطريق إلا حسن ظن بربه .
و { توجه } : ولى وجهه ، أي استقبل بسيره تلقاء مدين .
و { تلقاء } : أصله مصدر على وزن التفعال بكسر التاء ، وليس له نظير في كسر التاء إلا تمثال ، وهو بمعنى اللقاء والمقاربة . وشاع إطلاق هذا المصدر على جهته فصار من ظروف المكان التي تنصب على الظرفية . والتقدير : لما توجه جهة تلاقي مدْيَن ، أي جهة تلاقي بلاد مدين ، وقد تقدم قوله تعالى { وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار } في سورة الأعراف( 47 ) .
و { مدْيَن } : قوم من ذرية مدين بن إبراهيم . وقد مضى الكلام عليهم عند قوله تعالى { وإلى مدين أخاهم شعيباً } في سورة الأعراف ( 85 ) .
وأرض مدين واقعة على الشاطىء الغربي من البحر الأحمر وكان موسى قد سلك إليها عند خروجه من بلد ( رعمسيس ) أو ( منفيس ) طريقاً غربية جنوبية فسلك برية تمر به على أرض العمالقة وأرض الأدوميين ثم بلاد النبط إلى أرض مدين . تلك مسافة ثمانمائة وخمسين ميلاً تقريباً . وإذ قد كان موسى في سيره ذلك راجلاً فتلك المسافة تستدعي من المدة نحواً من خمسة وأربعين يوماً . وكان يبيت في البرية لا محالة . وكان رجلاً جلداً وقد ألهمه الله سواء السبيل فلم يضل في سيره .
والسواء : المستقيم النهج الذي لا التواء فيه . وقد ألهمه الله هذه الدعوة التي في طيها توفيقه إلى الدين الحق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولما توجه تلقاء مدين} بغير دليل خشي أن يضل الطريق {قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل} يعني يرشدني قصد الطريق إلى مدين، فبلغ مدين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"ولَمّا تَوَجّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ" يقول تعالى ذكره: ولما جعل موسى وجهه نحو مدين، ماضيا إليها، شاخصا عن مدينة فرعون، وخارجا عن سلطانه، قال: "عَسَى رَبّي أنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ "وعنى بقوله: «تلقاء»: نحو مدين...
وقوله: "عَسَى رَبّي أنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ" يقول: عسى ربي أن يبين لي قصد السبيل إلى مدين، وإنما قال ذلك لأنه لم يكن يعرف الطريق إليها..
وأما قوله: "سَوَاءَ السّبِيلِ" فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله نحو قولنا فيه...عن مجاهد سَوَاءَ السّبِيلِ قال: الطريق إلى مدين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ولما خرج موسى عليه السلام فاراً بنفسه منفرداً حافياً لا شيء معه، رأى حاله وعدم معرفته بالطريق وخلوه من الزاد وغيره فأسند أمره إلى الله تعالى و {قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل}.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما دعا بهذا الدعاء، أعلم الله تعالى باستجابته منه مخبراً بجهة قصده زيادة في الإفادة فقال: {ولما} أي فاستجاب الله دعاءه فنجاه منهم ووجهه إلى مدين ولما {توجه} أي أقبل بوجهه قاصداً {تلقاء} أي الطريق الذي يلاقي سالكه أرض {مدين} مدينة نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام متوجهاً بقلبه إلى ربه {قال} أي لكونه لا يعرف الطريق: {عسى} أي خليق وجدير وحقيق.
ولما كانت عنايته بالله أتم لما له من عظيم المراقبة، قال مقدماً له: {ربي} أي المحسن إليّ بعظيم التربية في الأمور المهلكة {أن يهديني سواء} أي عدل ووسط {السبيل} وهو الطريق الذي يطلعه عليها من غير اعوجاج.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يتبعه السياق خارجا من المدينة، خائفا يترقب، وحيدا فريدا، غير مزود إلا بالاعتماد على مولاه؛ والتوجه إليه طالبا عونه وهداه:
(ولما توجه تلقاء مدين قال: عسى ربي أن يهديني سواء السبيل)..
ونلمح شخصية موسى -عليه السلام- فريدا وحيدا مطاردا في الطرق الصحراوية في اتجاه مدين في جنوبي الشام وشمالي الحجاز. مسافات شاسعة، وأبعاد مترامية، لا زاد ولا استعداد، فقد خرج من المدينة خائفا يترقب، وخرج منزعجا بنذارة الرجل الناصح، لم يتلبث، ولم يتزود ولم يتخذ دليلا. ونلمح إلى جانب هذا نفسه متوجهة إلى ربه، مستسلمة له، متطلعة إلى هداه: (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل)..
ومرة أخرى نجد موسى -عليه السلام- في قلب المخافة، بعد فترة من الأمن. بل من الرفاهية والطراءة والنعمى. ونجده وحيدا مجردا من قوى الأرض الظاهرة جميعا، يطارده فرعون وجنده، ويبحثون عنه في كل مكان، لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلا. ولكن اليد التي رعته وحمته هناك ترعاه وتحميه هنا، ولا تسلمه لأعدائه أبدا. فها هو ذا يقطع الطريق الطويل، ويصل إلى حيث لا تمتد إليه اليد الباطشة بالسوء:
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه هجرة نبوية تشبه هجرة إبراهيم عليه السلام إذ قال {إني مهاجر إلى ربي} [العنكبوت: 26]. وقد ألهم الله موسى عليه السلام أن يقصد بلاد مدين إذ يجد فيها نبيئاً يبصره بآداب النبوءة ولم يكن موسى يعلم إلى أين يتوجه ولا من سيجد في وجهته كما دل عليه قوله {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل}.
{ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل}
معنى {توجه تلقاء مدين} يعني: ناحيتها، وأراد أن يهرب من مصر كلها، ولم يكن يقصد مدين بالذات، إنما سار في طريق صادف أن يؤدي إلى مدين بلد شعيب عليه السلام.
ولو كانت مدين مقصودة له لما قال بعد توجهه: {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل} فموسى حينما خرج من مصر خائفا يريد الهرب لم يفكر في وجهة معينة، فالذي يهمه أن يخرج من هذه البلدة، وينجو بنفسه.