{ ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه } أي في جيب درعها ، ولذلك ذكر الكناية ، { من روحنا وصدقت بكلمات ربها } يعني الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة ، { وكتبه } قرأ أهل البصرة وحفص : { وكتبه } على الجمع ، وقرأ الآخرون : { وكتابه } على التوحيد . والمراد منه الكثرة أيضاً . وأراد بكتبه التي أنزلت على إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وعيسى عليهم السلام . { وكانت من القانتين } أي من القوم القانتين المطيعين لربها ولذلك لم يقل من القانتات . وقال عطاء : من القانتين أي : من المصلين . ويجوز أن يريد بالقانتين رهطها وعشيرتها ، فإنهم كانوا أهل صلاح مطيعين لله . وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حسبك من نساء العالمين : مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون " .
وقوله { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي : صانته وحفظته عن الفاحشة ، لكمال ديانتها ، وعفتها ، ونزاهتها .
{ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } بأن نفخ جبريل [ عليه السلام ] في جيب درعها فوصلت نفخته إلى مريم ، فجاء منها عيسى ابن مريم [ عليه السلام ] ، الرسول الكريم والسيد العظيم .
{ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } وهذا وصف لها بالعلم والمعرفة ، فإن التصديق بكلمات الله ، يشمل كلماته الدينية والقدرية ، والتصديق بكتبه ، يقتضي معرفة ما به يحصل التصديق ، ولا يكون ذلك إلا بالعلم والعمل ، [ ولهذا قال ] { وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } أي : المطيعين لله ، المداومين على طاعته{[1172]} بخشية وخشوع ، وهذا وصف لها بكمال العمل ، فإنها رضي الله عنها صديقة ، والصديقية : هي كمال العلم والعمل .
وقوله - سبحانه - : { وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ . . } معطوف على { امرأت فِرْعَوْنَ
أى : وضرب الله - تعالى - مثلا آخر للمؤمنين مريم ابنة عمران .
{ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أى حفظته وصانته ، إذ الإحصان جعل الشىء حصينا ، بحيث لا يتوصل إليه ، وهو كناية عن عفتها وطهارتها وبعدها عن كل فاحشة .
وقوله { فَنَفَخْنَا فِيهِ } النافخ رسوله جبريل - عليه السلام - فالإسناد مجازى . وقيل الكلام على حذف مضاف ، أى : فنفخ رسولنا ، وضمير { فِيهِ } للفرج .
واشتهر أن جبريل - عليه السلام - نفخ فى جيبها فوصل أثر ذلك إلى الفرج .
وقال الفراء : ذكر المفسرون أن الفرج جيب درعها ، وهو محتمل لأن الفرج معناه فى اللغة ، كل فرجة بين شيئين ، وموضع جيب درع المرأة مشقوق فهو فرج ، وهذا أبلغ فى الثناء عليها ، لأنها إذا منعت جيب درعها ، فهى للنفس أمنع . . .
أى : فنفخ رسولنا جبريل فى فرجها أو فى جيب درعها ، روحا من أرواحنا هى روح عبدنا ونبينا عيسى - عليه السلام - .
وإضافة الروح إلى ذاته - تعالى - لأنه هو الخالق والموجد وللإشارة إلى أن تكوين المخلوق الحى فى رحمها ، كان على غير الأسباب المعتادة .
وقوله - تعالى - : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين } زيادة فى مدحها ، وفى الثناء عليها . . .
أى : وكان من صفات مريم ابنة عمران أنها آمنت إيمانا حقا { بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } أى : بشرائعه التى شرعها لعباده ، وبما ألقاه إليها من إرشادات عن طريق وحيه .
و { وَكُتُبِهِ } أى : وصدقت بكتبه التى أنزلها على أنبيائه ، وقرأ الجمهور ( وكتابه ) بالإفراد ، على أن المراد به جنس الكتب ، أو الإنجيل الذى أنزله - سبحانه - على ابنها عيسى .
و { مِنَ } فى قوله - تعالى - { وَكَانَتْ مِنَ القانتين } للابتداء ، أى : وكانت من نسل الرجال القانتين ، الذين بذلوا أقصى جهدهم فى طاعة الله - تعالى - ، وفى إخلاص العبادة له .
ويصح أن تكون { مِنَ } للتبعيض . أى : وكانت من عداد المواظبين على الطاعة ، وجىء بجمع الذكور على سبيل التغليب ، وللإشعار بأن طاعتها لا تقل عن طاعة الرجال ، الذين بلغوا الغاية فى المواظبة على طاعة الله - تعالى - .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة ، قد اشتملت على ثلاثة أمثال : مثل للكافرين ، ومثلين للمؤمنين .
وقد تضمن مثل الكفار ، أن الكافر يعاقب على كفره ، دون أن ينفعه ما بينه وبين المؤمنين من قرابة أو نسب . . . كما حدث لامرأة نوح وامرأة لوط . .
وأما المثلان اللذان للمؤمنين ، فقد تضمنا أن اتصال المؤمن بالكافر ، لا يضره شيئا إذا فارقه فى كفره وعمله .
وقد وضح صاحب الكشاف هذا المعنى فقال : ما ملخصه مثَّل الله - تعالى - حال الكفار ، فى أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين . دون أن ينفعهم ما بينهم وبينهم من صلة أو قرابة - بحال امرأة نوح وامرأة لوط : فإنهما لما نافقتا وخانتا الرسولين . لم يغن عنهما ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج شيئا . .
ومثل حال المؤمنين - فى أن وصلة الكافرين لا تضرهم . ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله - بحال امرأة فرعون ، فإنها مع كونها زوجة أعدى أعداء الله ، فإنها بسبب إيمانها قد رفع منزلتها عنده . .
وبحال مريم ابنة عمران ، فقد أعطاها الله ما أعطاها من الكرامة . . . مع أن قومها كانوا كافرين .
وفى طى هذين التمثيلين تعريض بأمى المؤمنين المذكورتين فى أول السورة ، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده . .
وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا فى الإخلاص والكمال فيه ، كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين . . .
وأسرار التنزيل ورموزه فى كل باب ، بالعة من اللطف والخفاء ، حدا يدق عن تفطن العالم ، ويزل عن تبصره . .
وقوله : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي حفظته وصانته . والإحصان : هو العفاف والحرية ، { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } أي : بواسطة المَلَك ، وهو جبريل ، فإن الله بعثه إليها فتمثل لها في صورة بشر سَوي ، وأمره الله تعالى أن ينفخ بفيه في جيب درعها ، فنزلت النفخة فولجت في فرجها ، فكان منه الحمل بعيسى ، عليه السلام . ولهذا قال : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } أي : بقدره وشرعه { وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }
قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن عِلْباء ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : خَطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط ، وقال : " أتدرون ما هذا ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، ومريم ابنة عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " {[29089]} .
وثبت في الصحيحين من حديث شعبة ، عن عمرو بن مُرَة ، عن مرة الهمداني ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كَمُلَ من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خُوَيلد ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثَّرِيد على سائر الطعام " {[29090]} .
وقد ذكرنا طرق هذه الأحاديث وألفاظها والكلام عليها في قصة عيسى ابن مريم ، عليهما السلام ، في كتابنا " البداية والنهاية " ولله الحمد والمنة{[29091]} وذكرنا ما ورد من الحديث من أنها تكون هي وآسية بنت مزاحم من أزواجه ، عليه السلام ، في الجنة عند قوله : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }
ومريم ابنة عمران عطف على امرأة فرعون تسلية للأرامل التي أحصنت فرجها من الرجال فنفخنا فيه في فرجها وقرئ فيها أي في مريم أو في الجملة من روحنا من روح خلقناه بلا توسط أصل وصدقت بكلمات ربها بصحفه المنزلة أو بما أوحى إلى أنبيائه وكتابه وما كتب في اللوح المحفوظ أو جنس الكتب المنزلة وتدل عليه قراءة البصريين وحفص بالجمع وقرىء بكلمة الله وكتابه أي بعيسى عليه السلام والإنجيل وكانت من القانتين من عداد المواظبين على الطاعة والتذكير للتغليب والإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين حتى عدت من جملتهم أو من نسلهم فتكون من ابتدائية عن النبي صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام .
واختلف الناس في الفرج الذي أحصنت مريم ، فقال الجمهور : هو فرج الدرع الذي كان عليها ، وأنها كانت صينة ، وأن جبريل عليه السلام : نفخ فيها الروح من جيب الدرع ، وقال قوم من المتأولين : هو الفرج الجارحة ، فلفظة { أحصنت } : إذا كان فرج الجارحة متمكناً حقيقة ، والإحصان : صونه ، وفيه هي مستعملة ، وإذا قدرنا فرج الدرع فلفظ { أحصنت } فيه مستعارة من حيث صانته ، ومن حيث صار مسلكاً لولدها ، وقوله تعالى : { فنفخنا } عبارة عن فعل جبريل حقيقة ، وإن ذهب ذاهب إلى أن النفخ فعل الله تعالى ، فهو عبارة عن خلقه واختراعه الولد في بطنها ، وشبه ذلك بالنفخ الذي من شأنه أن يسير في الشيء برفق ولطف . وقوله تعالى : { من روحنا } إضافة المخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك كما تقول : بيت الله وناقة الله ، وكذلك الروح الجنس كله هو روح الله . وقرأ الجمهور : «وصدّقت » بشد الدال ، وقرأ أبو مجلز : بتخفيفها ، وقرأ جمهور الناس : «بكلمات » على الجمع ، وقرأ الجحدري : «بكلمة » على الإفراد ، فأما الإفراد فيقوي : أن يريد أمر عيسى ويحتمل أن يريد أنه اسم جنس في التوراة ، ومن قرأ على الجمع فيقوي أنه يريد التوراة ، ويحتمل أن يريد أمر عيسى . وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ونافع : «وكتابه » على الوحيد ، وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم ، وخارجة عن نافع : «وكُتُبه » بضم التاء والجمع ، وقرأ أبو رجاء بسكون التاء «وكتْبه » ، وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل ، والقانتون : العابدون ، والمعنى كانت من القوم { القانتين } في عبادتها وحال دينها .