اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ} (12)

قوله : { وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ } .

عطف على { امرأة فِرْعَوْنَ } .

ضرب الله المثل للكافرين بامرأتين ، وللمؤمنين بامرأتين .

وقال أبو البقاء{[57277]} : «ومَرْيَمَ » أي : «واذكر مريم » .

وقيل : أو «ومثل مريم » .

وقرأ العامة : «ابْنَة » بنصب التاء .

وأيوب{[57278]} السختياني : بسكون الهاء ، وصلاً ، أجرى الوصل مجرى الوقف .

والعامة أيضاً : «فَنَفَخْنَا فيْهِ » أي : في الفرجِ .

وعبد الله{[57279]} : «فِيْهَا » أي : في الجملة . وقد تقدم في «الأنبياء »{[57280]} مثله .

والعامة أيضاً : «وصَدَّقتْ » بتشديد الدال .

ويعقوب وقتادة وأبو مجلز ، وعاصم{[57281]} في رواية : بتخفيفها ، أي : صدقت فيما أخبرت به من أمر عيسى .

والعامة على : «بِكَلمَاتِ » جمعاً .

والحسن ومجاهد والجحدري : «بِكلمَةِ » بالإفراد{[57282]} .

فقيل : المراد بها عيسى ؛ لأنه كلمةُ الله .

فصل في مريم ابنة عمران

ضرب الله مثلاً بمريم ابنة عمران وصبرها على أذى اليهود .

وقوله : { التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } عن الفواحش .

وقال المفسرون هنا{[57283]} : أراد بالفرج الجيب ، لقوله { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } وجبريل - عليه السلام - إنما نفخ في جيبها ولم ينفخ في فرجها .

وهي{[57284]} في قراءة أبيٍّ : { فنفخنا في جيبها من روحنا } ، وكل خرق في الثوب يسمى فرجاً ، ومنه قوله تعالى : { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } .

ويحتمل أن يكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها .

ومعنى «فَنَفَخْنَا » أرسلنا جبريل فنفخ في جيبها «مِنْ رُوحِنَا » أي : روحاً من أرواحنا وهي روح عيسى ، وقوله : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } أي : قول جبريل لها : { إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ }[ مريم : 19 ] الآية .

وقال مقاتل : يعني بالكلمات عيسى ، وأنه نبيّ وعيسى كلمة الله{[57285]} كما تقدم .

وقيل : { بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } يعني الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة .

قوله : { وَكُتُبِهِ } .

قرأ أهل «البَصْرة » وحفص : «وكُتُبِهِ » على الجمع .

وقرأ الأخرون{[57286]} : «وكِتَابِهِ » على التوحيد .

والمراد منه الكثرة ، فالمراد به الجِنْس ، فيكون في معنى كل كتاب أنزله الله تعالى .

وقرأ أبو رجاء{[57287]} : «وَكُتْبِهِ » بسكون التاء ، وهو تخفيف حسن .

وروي عنه{[57288]} : «وكَتْبِهِ » بفتح الكاف .

قال أبو الفضل : مصدر وضع موضع الاسم ، يعني ومكتوبه .

فصل في المراد بالكتب

أراد الكتب التي أنزلتْ على إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وعيسى .

وقوله : { وَكَانَتْ مِنَ القانتين } .

يجوز في «مِن » وجهان :

أحدهما : أنها لابتداء الغاية .

والثاني : أنها للتبعيض ، وقد ذكرهما الزمخشريُّ ، فقال{[57289]} : و «مِنْ » للتبعيض ، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية ، على أنها ولدت من القانتين ؛ لأنها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله على نبيِّنا وعليهما وعلى سائر الأنبياء وآلهم .

قال الزمخشري{[57290]} : فإن قلت : لم قيل : { مِنَ القانتين } على التذكير ؟ .

قلت : القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين فغلب ذكوره على إناثه .

ويجوز أن يرجع إلى أهل بيتها ، فإنهم كانوا مطيعين لله ، والقنوت : الطاعة .

وقال عطاء : من المصلّين بين المغرب والعشاء{[57291]} .

وعن معاذ بن جبلٍ : «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها : أتكرهين ما قد نزل بك ، وقد جعل اللَّهُ في الكره{[57292]} خيراً ، فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهنّ منِّي السَّلام مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم وكليمة - أو قال : حليمة - بنت عمران أخت موسى بن عمران ، فقالت : بالرفاء والبنين يا رسول الله »{[57293]} .

[ قال ابن الأثير{[57294]} : الرفاء والبنين : الالتئام والاتفاق والبركة والنَّماء ، وهو مهموز .

وذكره الهروي في «المعتلّ » قال : «وهو على معنيين :

أحدهما : الاتفاق وحسن الاجتماع ، والآخر : من الهدوء والسكون ، وأما المهموز فمن قولهم : رَفَأتُ الثَّوب رفاءً ، ورفوتُه رفواً » انتهى ]{[57295]} .

وروى قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «حَسْبُكُ مِنْ نِسَاءِ العَالمينَ أربعٌ : مَريَمُ ابْنَةُ عِمرانَ ، وخَدِيجَةُ بنتُ خُويْلِدٍ ، وفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ ، وآسيةُ بِنْتُ مُزاحِمٍ امرأةُ فِرْعَونَ »{[57296]} .

ختام السورة:

روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَرَأ سُورةَ { يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } أعطاهُ اللَّهُ تَوْبَةٌ نَصُوحاً »{[1]} .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[57277]:ينظر: الإملاء 2/265.
[57278]:ينظر: البحر المحيط 8/290، والدر المصون 6/339.
[57279]:ينظر السابق، والكشاف 4/573.
[57280]:آية رقم 91.
[57281]:ينظر السابق، والمحرر الوجيز 5/335، 336.
[57282]:ينظر السابق.
[57283]:ينظر: القرطبي 18/133.
[57284]:ينظر: السابق.
[57285]:ينظر تفسير القرطبي (18/132).
[57286]:ينظر: السبعة 641، والحجة 6/304، وإعراب القراءات 2/376، وحجة القراءات 415، والعنوان 193، وشرح الطيبة 6/61، وإتحاف 2/549.
[57287]:ينظر: المحرر الوجيز 5/336، والبحر المحيط 8/290، والدر المصون 6/339.
[57288]:ينظر السابق.
[57289]:ينظر: الكشاف 4/573.
[57290]:السابق.
[57291]:ينظر تفسير القرطبي (18/132).
[57292]:في أ: ذلك.
[57293]:ينظر تفسير القرطبي (18/133).
[57294]:ينظر النهاية 2/240.
[57295]:سقط من: أ.
[57296]:تقدم.