السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ} (12)

وقوله تعالى : { ومريم ابنت عمران } عطف على امرأة فرعون تسلية للأرامل { التي أحصنت فرجها } أي : عفت عن السوء وجميع مقدماته ، كانت كالحصن العظيم المانع من العدو فاستمرت على حالها إلى الممات فزوجها الله تعالى في الجنة جزاء لها بخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم وقال بعض المفسرين : أراد بالفرج هنا الجيب لقوله تعالى : { فنفخنا } ، أي : بمالنا من العظمة بواسطة ملكنا جبريل عليه السلام { فيه } ، أي : في جيب درعها . قال البقاعي : أو في فرجها الحقيقي ، وعلى هذا فلا حاجة إلى التأويل { من روحنا } ، أي : من روح خلقناه بلا تواسط أصل وهو روح عيسى عليه السلام { وصدقت بكلمات ربها } ، أي : المحسن إليها واختلف في تلك الكلمات فقال : مقاتل يعني بالكلمات عيسى وأنه نبىّ وعيسى كلمة الله وقال البغوي : يعني الشرائع التي شرعها الله تعالى للعباد بكلماته المنزلة وقيل : هي قول جبريل عليه السلام لها { إنما أنا رسول ربك } [ مريم : 19 ] الآية ، وعلى كل قول استحقت أن تسمى لذلك صديقة ، وقرأ : { وكتبه } أبو عمرو وحفص بضم الكاف والتاء جمعاً ، والباقون بكسر الكاف وفتح التاء وبعدها ألف إفراداً والمراد منه الكثرة فالمراد به الجنس فيكون في معنى كل كتاب أنزله الله تعالى على ولدها أو غيره .

وقوله تعالى : { وكانت من القانتين } يجوز في { مَن } وجهان :

أحدهما : أنها لابتداء الغاية .

والثاني : أنها للتبعيض . وقد ذكرهما الزمخشري فقال : فمن للتبعيض ، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية أنها ولدت من القانتين لأنها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما وعليها وعلى سائر الأنبياء وآلهم أجمعين .

قال الزمخشري : فإن قلت لم قيل : من القانتين على التذكير ؟

قلت : لأن القنوت صفه تشمل من قنت من القبيلين فغلب ذكوره على إناثه . وقيل : أراد من القوم القانتين ، ويجوز أن يرجع هذا إلى أهل بيتها فإنهم كانوا مطيعين لله ، والقنوت : الطاعة ، وقال عطاء : من المصلين بين المغرب والعشاء . وعن معاذ بن جبل : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها : «إذا قدمت على ضرّاتك فأقرئيهنّ منى السلام مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم » وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «كمل من نساء العالمين أربع مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون » وروى الشيخان عن أبي موسى الأشعري : «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » .

ختام السورة:

وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال : «من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحاً » حديث موضوع .