ثم أخبر أنه له ملك السماوات والأرض وما بينهما ، فالكل عبيده ومماليكه ، فليس لأحد منهم ملك ولا قسط من الملك ، ولا معاونة عليه ، ولا يشفع إلا بإذن الله ، فكيف يتخذ من هؤلاء آلهة وكيف يجعل لله منها ولد ؟ ! فتعالى وتقدس ، المالك العظيم ، الذي خضعت له الرقاب ، وذلت له الصعاب ، وخشعت له الملائكة المقربون ، وأذعنوا له بالعبادة الدائمة المستمرة أجمعون ، ولهذا قال : { وَمَنْ عِنْدَهُ ْ } أي من الملائكة { لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ْ } أي : لا يملون ولا يسأمونها ، لشدة رغبتهم ، وكمال محبتهم ، وقوة أبدانهم .
وقوله - تعالى - : { وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض } استئناف مؤكد لما قبله من أن جميع الخلوقات خاصعة لقدرته - تعالى - .
أى : وله وحده - سبحانه - جميع من فى السموات والأرض ، خلقا ، وملكا ، وتدبيرا ، وتصرفا وإحياء ، وإماتة ، لا يخرج منهم أحد عن علمه وقدرته - عز وجل - .
ثم بين - سبحانه - نماذج من عباده الطائعين له ، بعد أن حكى أقوال أولئك الضالين ، فقال : { نْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } .
والاستحسار : الكلل والتعب . يقال : حسر البصر يحسُر حسورا - من باب قعد - إذا تعب من طول النظر ، ومنه قوله - تعالى - : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } أى : كليل متعب .
أى : ومن عنده من مخلوقاته وعلى رأسهم الملائكة المقربون ، لا يستكبرون عن عبادته - سبحانه - بل يخضعون له خضوعا تاما { وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } أى : ولا يكلون ولا يتعبون .
بل هم { يُسَبِّحُونَ } الله - تعالى - ويحمدونه ويكبرونه . طول الليل والنهار بدون فتور أو تراخ أو تقصير . يقال : فتَر فلان عن الشىء يفتُر فتورا ، إذا سكن بعد حدة ، ولان بعد شدة ، ويقال : فتر الماء - من باب قعد - إذا سكن حره فهو فاتر .
قالوا : وذلك لأن تسبيح الملائكة لله - تعالى - يجرى منهم مجرى التنفس منا ، فهو سجية وطبيعة فيهم وكما أن اشتغالنا لا يمنعنا من الكلام ، فكذلك اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم من سار الأعمال .
ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ، ودأبهم في طاعته ليلا ونهارًا ، فقال : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ }
يعني : الملائكة ، { لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي : لا يستنكفون عنها ، كما قال : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } [ النساء : 172 ] .
وقوله : { وَلا يَسْتَحْسِرُونَ } أي : لا يتعبون ولا يَملُّون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وكيف يجوز أن يتخذ الله لهوا ، وله مُلك جميع من في السموات والأرض ، والذين عنده من خلقه لا يستنكفون عن عبادتهم إياه ولا يَعْيَون من طول خدمتهم له ، وقد علمتم أنه لا يستعبد والد ولده ولا صاحبته ، وكل من في السموات والأرض عبيده ، فأنى يكون له صاحبة وولد يقول : أولا تتفكرون فيما تفترون من الكذب على ربكم ؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا يَسْتَحْسِرُونَ لا يرجعون .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَلا يَسْتَحْسِرُونَ لا يحسَرون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَلا يَسْتَحْسِرُونَ قال : لا يُعيون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، قوله : وَلا يَسْتَحْسِرُونَ قال : لا يعيون .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لا يَسْتَكْبِرونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُون قال : لا يستحسرون ، لا يملّون ذلك الاستحسار ، قال : ولا يفترون ، ولا يسأَمون .
هذا كله معناه واحد والكلام مختلف ، وهو من قولهم : بعير حَسِير : إذا أعيا وقام ومنه قول علقمة بن عبدة :
بِها جِيَفُ الحَسْرَى فأمّا عِظامُها *** فَبِيضٌ ، وأمّا جِلْدُها فَصَلِيبُ
قوله تعالى : { وله } يحتمل أن يكون ابتداء كلام يحتمل أن يكون معادلاً لقوله { ولكم الويل } [ الأنبياء : 18 ] كأنه تقسيم الأمر في نفسه أي للمختلقين هذه المقالة الويل ولله تعالى { من في السموات والأرض } واللام في { له } لام الملك ، وقوله تعالى : { من في السماوات } يعم الملائكة والنبيين وغيرهم ، ثم خصص من هذا العموم من أراد تشريفه من الملائكة بقوله تعالى : { ومن عنده } لأن «عند » هنا ليست في المسافات إنما هي تشريف في المنزلة فوصفهم تعالى بأنهم { لا يستكبرون } عن عبادة الله ولا يسأمونها ولا يكلون فيها . والحسير من الإبل المعيي ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
لهن الوجى لم يكن عوناً على النوى . . . ولا كان منها طالع وحسير{[8202]}
وحسر واستحسر بمعنى واحد ، وهذا موجود في كثير من الأفعال وإن كان الباب في استفعل أن يكون لطلب الشيء .