الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَنۡ عِندَهُۥ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَلَا يَسۡتَحۡسِرُونَ} (19)

قوله : { وَمَنْ عِنْدَهُ } : يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أنه معطوفٌ على " مَنْ " الأولى . أخبرَ تعالى عن مَنْ في السماوات والأرض ، وعن مَنْ عنده بأنَّ الكلَّ له في مِلْكِه ، وعلى هذا فيكون من باب ذِكْرِ الخاصِّ بعد العام مَنْبَهَةً على شرفه . لأنَّ قولَه : { مَن فِي السَّمَاوَاتِ } شَمَل مَنْ عنده ، وقد مَرَّ نظيرُه في قولِه : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . وقوله : { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } على هذا فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه حالِنْ " مَنْ " الأولى أو الثانية أو منهما معاً . وقال أبو البقاء : " حالٌ : إمَّا مِن الأولى أو الثانيةِ على قولِ مَنْ رَفَع بالظرف " يعني أنَّه إذا جَعَلْنا " مَنْ " في قولِه { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ } مرفوعاً بالفاعليةِ ، والرافعُ الظرفُ ؛ وذلك على رأي الأخفش ، جاز أَنْ يكونَ " لا يَسْتبكرون " حالاً : إمَّا مِنْ " مَنْ " الأولى ، وإمَّا مِن الثانية ؛ لأن الفاعلَ يجيءُ منه الحالُ . ومفهومُه أنَّا إذا جَعَلْنا مبتدأً لا يجيءُ " يستكبرون " حالاً ، وكأنه يرى أنَّ الحالَ لا تجيءُ من المبتدأ ، وهو رأيٌ لبعضِهم . وفي المسألةِ كلامٌ مقررٌ في غيرِ هذا الموضوعِ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ " لا يستكبرون " حالاً من الضميرِ المستكنِّ في " عندَه " الواقعِ صلةً ، وأن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في " له " الواقع خبراً .

والوجهُ الثاني من وجهَيْ " مَنْ " : أن تكونَ مبتدأً ، و " لا يستكبرون " خبرُه ، وهذه جملةٌ معطوفةٌ على جملةٍ قبلَها . وهل الجملةُ مِنْ قوله { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ } استئنافيةٌ أو معادِلَةٌ لجملة قولِه : { وَلَكُمُ الْوَيْلُ } أي : لكم الوَيْلُ ، ولله تعالى جميعُ العالَمِ عُلْوِيِّه وسُفْلِيِّه ؟ والأولُ أظهرُ .

ولا يَسْتَحْسِرون أي : لا يَكِلُّون ولا يَتْبعون . يقال : اسْتَحْسر البعيرُ أي كَلَّ وتَعِب . قال : علقمة بن عبدة :

بها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها *** فبِيْضٌ وأمَّا جِلْدُها فصَلِيْبُ

ويقال : حَسَر البعيرُ ، وحَسَرْته أنا ، فيكون لازماً ومتعدياً . وأَحْسَرْتُه أيضاً . فيكون فَعَل وأفْعَلَ بمعنىً في أحدِ وجهَيْ فَعَل . قال الزمخشري : " الاستحسارُ مبالغةٌ في الحُسورِ . فكان الأبلغُ في وصفِهم أَنْ ينفيَ عنهم أَدْنى الحُسورِ . قلت : في الاستحسارِ بيانُ أنَّ ما هُمْ فيه يوجب غايةَ الحُسور وأقصاه ، وأنَّهم أَحِقَّاءُ لتلك العباداتِ الباهظة بأَنْ يَسْتَحْسِروا فيما يَفْعلون " وهو سؤالٌ حسنٌ وجوابٌ مطابق .