{ أو زد عليه } على النصف إلى الثلثين ، خيره بين هذه المنازل ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقومون على هذه المقادير ، وكان الرجل لا يدري متى ثلث الليل ومتى نصف الليل ومتى الثلثان ، فكان الرجل يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب ، واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم فرحمهم الله تعالى وخفف عنهم ونسخها بقوله : { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى }( المزمل-20 ) الآية . فكان بين أول السورة وآخرها سنة .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني ، أنبأنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ ، حدثنا الحسن بن علي بن عفان ، حدثنا يحيى بن بشر ، حدثنا قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام قال : " انطلقت إلى عائشة فقلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى ، قالت : فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن ، قلت : فقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أم المؤمنين ؟ قالت : ألست تقرأ : { يا أيها المزمل } قلت : بلى ، قالت : فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء ، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعاً بعد الفريضة " . قال مقاتل وابن كيسان : كان هذا بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس . { ورتل القرآن ترتيلاً } قال ابن عباس : بينه بياناً . وقال الحسن : اقرأه قراءة بينة . وقال مجاهد : ترسل فيه ترسلاً . وقال قتادة : تثبت فيه تثبتاً . وعن ابن عباس أيضاً : اقرأه على هينتك ثلاث آيات أو أربعاً أو خمساً .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا هشام عن قتادة قال : " سئل أنس كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كانت مداً ، ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم ، يمد بسم الله ، ويمد الرحمن ويمد الرحيم " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا عمرو بن مرة قال : سمعت أبا وائل قال : " جاء رجل إلى ابن مسعود ، قال : قرأت المفصل الليلة في ركعة ، فقال : هذاً كهذا الشعر ؟ لقد عرفت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن ، فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين في كل ركعة " .
أخبرنا أبو جعفر أحمد بن أبي أحمد بن مثويه ، أنبأنا الشريف أبو القاسم علي بن محمد بن علي الحسين الحراني فيما كتبه إلي ، أنبأنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري ، أنبأنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن حميد الواسطي ، حدثنا زيد بن آجروم ، حدثنا محمد بن الفضل ، حدثنا سعيد بن زيد ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله -يعني ابن مسعود- قال : لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذ الشعر ، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة " .
أخبرنا أبو جعفر أحمد بن أبي أحمد بن منويه ، أنبأنا الشريف أبو القاسم علي ابن محمد بن علي الحسين الحراني كتب إلي ، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري ، حدثنا أبو محمد بن يحيى بن محمد بن ساعد ، حدثنا الحسين بن الحسن المروزي ، حدثنا ابن المبارك الحنبلي ، أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبانا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحرث ، أنبأنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن عبيدة وهو أخوه عن سهل بن سعد الساعدي قال : " بينا نحن نقرأ إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : الحمد لله كتاب الله واحد وفيكم الأحمر ، والأسود ، والأبيض ، اقرؤوا القرآن قبل أن يأتي أقوام يقرؤونه ، يقيمون حروفه كما يقام السهم لا يجاوز تراقيهم ، يتعجلون آخره ولا يتأجلونه " .
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أنبأنا أبو محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا أبو بكر محمد بن نافع البصري ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن إسماعيل بن مسلم العبدي ، عن أبي المتوكل الناجي ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة " . رواه أبو ذر ، قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة حتى أصبح بآية والآية : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }( المائدة- 118 ) .
وقوله { نصفه } بدل من { قليلا } بدل كل من كل ، على سبيل التفصيل بعد الإِجمال . .
أى : قم نصف الليل للعبادة لربك ، واجعل النصف الثانى من الليل لراحتك ونومك . .
ووصف - سبحانه - هذا النصف الكائن للراحة بالقلة فقال { إِلاَّ قَلِيلاً } للإِشعار بأن النصف الآخر ، العامر بالعبادة والصلاة . . هو النصف الأكثر ثوابا وقربا من الله - تعالى - بالنسبة للنصف الثانى المتخذ للراحة والنوم .
وقوله - سبحانه - : { أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ . . } تخيير له صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ، وإظهار لما اشتملت عليه شريعة الإِسلام من يسر وسماحة . .
فكأنه - تعالى - يقول له على سبيل التلطف والإرشاد إلى ما يشرح صدره - يأيها المتلفف بثيابه ، قم الليل للعبادة والصلاة ، إلا وقتا قليلا منه يكون لراحتك ونومك ، وهذا الوقت القليل المتخذ للنوم والراحة قد يكون نصف الليل ، أو قد يكون أقل من النصف بأن يكون فى حدود ثلث الليل ، ولك - أيها الرسول الكريم - أن تزيد على ذلك ، بأن تجعل ثلثى الليل للعبادة ، وثلثه للنوم والراحة .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد رخص لنبيه صلى الله عليه وسلم فى أن يجعل نصف الليل أو ثلثه ، أو ثلثيه للعبادة والطاعة ، وأن يجعل المقدار الباقى من الليل للنوم والراحة . .
وخص - سبحانه - الليل بالقيام ، لأنه وقت سكون الأصوات . . فتكون العبادة فيه أكثر خشوعا ، وأدى لصفاء النفس ، وطهارة القلب ، وحسن الصلة بالله - عز وجل - .
هذا ، وقد استمر وجوب الليل على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بعد فرض الصلوات الخمس عليه وعلى أمته . تعظيما لشأنه ، ومداومة له على مناجاة ربه ، خصوصا فى الثلث الأخير من الليل ، يدل على ذلك قوله - تعالى - : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } وقد كان المسلمون يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم فى قيام الليل وقد أثنى - سبحانه - عليهم بسبب ذلك فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - : { تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقد ذكر الإِمام أحمد حديثا طويلا عن سعيد بن هشام ، وفيه أنه سأل السيدة عائشة عن قيامه صلى الله عليه وسلم بالليل ، فقالت له : ألست تقرأ هذه السورة ، يأيها المزمل . . ؟
إن الله افترض قيام الليل فى أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم . وأمسك الله ختامها فى السماء اثنى عشر شهرا ، ثم أنزل التخفيف فى آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة . .
قال القرطبى ما ملخصه : واختلف : هل كان قيام الليل فرضا وحتما ، أو كان ندبا وحضا ؟ والدلائل تقوى أن قيامه كان حتما وفرضا ، وذلك أن الندب والحض ، لا يقع على بعض الليل دون بعض ، لأن قيامه ليس مخصوصا به وقت دون وقت .
واختلف - أيضا - هل كان فرضا على النبى صلى الله عليه وسلم وحده ؟ أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء ؟ أو عليه وعلى أمته ؟ ثلاثة أقوال . . أصحها ثالثها للحديث المتقدم الذى رواه سعيد بن هشام عن عائشة - رضى الله عنها - .
وقال بعض العلماء بعد أن ساق العلماء فى هذه المسألة بشئ من التفصيل : والذى يستخلص من ذلك أن أرجح الأقوال ، هو القول القائل بأن التهجد كانفريضة على النبى صلى الله عليه وسلم وعلى أمته ، إذ هو الذى يمكن أن تأتلف عليه النصوص القرآنية ، ويشهد له ما تقدم من الآثار عن ابن عباس وعائشة وغيرهما .
ويرى بعض العلماء أن وجوب التهجد باق على الناس جميعا ، وأنه لم ينسخ ، وإنما الذى نسخ هو وجوب قيام جزء مقدر من الليل ، لا ينقص كثيرا عن النصف .
ويرد على هذا القول بما ثبت فى الصحيحين ، من " أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذى سأله عما يجب عليه من صلاة ؟ قال : خمس صلوات فى اليوم والليلة . قال : هل على غيرها ؟ قال : لا إلا أن تطوع " .
ويرى فريق آخر : أن قيام الليل نسخ عن الرسول وعن أمته بآخر سورة المزمل . واستبدل به قراءة القرآن ، على ما يعطيه قوله - تعالى - { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } ويدل عليه - أيضا - ظاهر ما روى عن عائشة ، من قولها : فصار قيام الليل تطوعا من بعد الفريضة ، دون أن تقيد ذلك بقيد .
ويرى فريق ثالث : أن وجوب التهجد استمر على النبى وعلى الأمة ، حتى نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج .
ويرى فريق رابع : أن قيام الليل نسخ عن الأمة وحدها ، وبقى وجوبه على النبى صلى الله عليه وسلم على ما يعطيه ظاهر آية الإِسراء .
ولعل أرجح هذه الأقوال هو القول الرابع . . فإن آية سورة الإِسراء وهى قوله - تعالى - : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ . . . } تدل على أن وجوب التهجد قد بقى عليه صلى الله عليه وسلم .
وقوله - تعالى - : { وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } إرشاد له صلى الله عليه وسلم ولأمته إلى أفضل طريقة لقراءة القرآن الكريم ، حتى يستمروا عليها ، وهم فى أول عهدهم بنزول القرآن الكريم .
والترتيل : جعل الشئ مرتلا ، أى : منسقا منظما ، ومنه قولهم : ثغر مرتل ، أى : منظم الأسنان ، لم يشذ بعضها عن بعض .
أى : قم - أيها الرسول الكريم - الليل إلا قليلا منه . . متعبدا لربك مرتلا للقرآن ترتيلا جميلا حسنا ، تستبين معه الكلمات والحروف ، حتى يفهمها السامع ، وحتى يكون ذلك أعون على حسن تدبره ، وأثبت لمعانيه فى القلب . .
قال الإِمام ابن كثير : وكذلك كان يقرأ صلى الله عليه وسلم فقد قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة فيرتلها . . وسئل أنس عن قراءته صلى الله عليه وسلم فقال : كانت مدا . . وقال صلى الله عليه وسلم : " زينوا القرآن بأصواتكم " .
وقال عبد الله بن مسعود : لا تنثروه نثر الرمَل ، ولا تهذوه هذَّ الشِّعر وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب - أى لا تسرعوا فى قراءته كما تسرعوا فى قراءة الشعر .
والهذ : سرعة القطع - هذا ، وليس معنى قوله - سبحانه - : { وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } ، أن يقرأ بطريقة فيها تلحين أو تطريب يغير من ألفاظ القرآن ، ويخل بالقراءة الصحيحة من حيث الأداء ، ومخارج الحروف ، والغن والمد ، والإِدغام والإِظهار . . وغير ذلك مما يقتضيه القراءة السليمة للقرآن الكريم .
وإنما معنى قوله - تعالى - : { وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } أن يقرأه بصوت جميل وبخشوع وتدبر ، وبالتزام تام للقراءة الصحيحة ، من حيث مخارج الحروف ومن حيث الوقف والمد والإِظهار والإِخفاء ، وغير ذلك . .
وقد بسط القول فى هذه المسألة بعض العلماء فارجع إليه إن شئت .
وقوله : { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا } أي : اقرأه على تمهل ، فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره . وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه ، قالت عائشة : كان يقرأ السورة فيرتلها ، حتى تكون أطول من أطول منها . وفي صحيح البخاري ، عن أنس : أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : كانت مدًا ، ثم قرأ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } يمد بسم الله ، ويمد الرحمن ، ويمد الرحيم{[29401]} .
وقال ابن جُرَيج ، عن ابن أبي مُلَيكة عن أم سلمة : أنها سُئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان يقطع قراءته آية آية ، { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي . {[29402]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقال لصاحب{[29403]} القرآن : اقرأ وارْقَ ، ورَتِّل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها " .
ورواه أبو داود ، والترمذي والنسائي ، من حديث سفيان الثوري ، به{[29404]} وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقد قدمنا في أول التفسير الأحاديث الدالة على استحباب الترتيل وتحسين الصوت بالقراءة ، كما جاء في الحديث : " زَيِّنوا القرآن بأصواتكم " ، و " ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن " ، و " لقد أوتي هذا مزمار من مزامير آل داود " يعني : أبا موسى ، فقال أبو موسى : لو كنت أعلم أنك كنت تسمع قراءتي لحبَّرْته لك تحبيرا . {[29405]}
وعن ابن مسعود أنه قال : لا تنثروه نثر الرمل{[29406]} ولا تهذّوه هذّ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة . رواه البغوي . {[29407]}
وقال البخاري : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا عمرو بن مرة : سمعت أبا وائل قال : جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : قرأت المفصل{[29408]} الليلة في ركعة . فقال : هذّا كهذّ الشعر . لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن . فذكر عشرين سورة من المُفَصّل سورتين في ركعة . {[29409]}
وقوله : قُمِ اللّيْلَ إلاّ قَلِيلاً يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : قم الليل يا محمد كله إلا قليلاً منه ، نِصْفَهُ يقول : قم نصف الليل أو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أوْ زِدْ عَلَيْهِ يقول : أو زد عليه خَيره الله تعالى ذكره حين فرض عليه قيام الليل بين هذه المنازل أيّ ذلك شاء فعل ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما ذُكر يقومون الليل ، نحو قيامهم في شهر رمضان فيما ذُكر حتى خفف ذلك عنهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أُسامة ، عن مسعر ، قال : حدثنا سماك الحنفي ، قال : سمعت ابن عباس يقول : لما نزل أوّل المزمل ، كانوا يقومون نحوا من قيامهم في رمضان ، وكان بين أوّلها وآخرها قريب من سنة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن مِسْعر ، قال : حدثنا سماك ، أنه سمع ابن عباس يقول ، فذكر نحوه . إلا أنه قال : نحوا من قيامهم في شهر رمضان .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن حيان ، عن موسى بن عبيدة ، قال : ثني محمد بن طَحْلاء مولى أمّ سلمة ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل ، فتسامع به الناس ، فاجتمعوا ، فخرج كالمغضَب ، وكان بهم رحيما ، فخشي أن يُكتب عليهم قيام الليل ، فقال : «يا أيّها النّاسُ اكْلَفُوا مِنَ الأعْمال ما تُطِيقُونَ ، فإنّ الله لا يَمَلّ مِنَ الثّوَابِ حتى تَمَلّوا مِنَ العَمَلِ وخَيْرُ الأعْمالِ ما دُمْتُمْ عَلَيْهِ » ونزل القرآن : يأَيّها المُزّمّلِ قُمِ اللّيْلِ إلاّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أو زِد عَلَيْهِ حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق ، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر ، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم فردّهم إلى الفريضة وترك قيام الليل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن موسى بن عبيدة الحميري ، عن محمد بن طحلاء عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : كنت أشتري لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا ، فكان يقوم عليه من أوّل الليل ، فتسمع الناس بصلاته ، فاجتمعت جماعة من الناس فلما رأى اجتماعهم كره ذلك ، فخشي أن يكتب عليهم ، فدخل البيت كالمغضب ، فجعلوا يتنحنحون ويتسعّلون حتى خرج إليهم ، فقال : «يا أيّها النّاسُ إنّ اللّهَ لا يَمَلّ حتى تَمَلّوا يعني من الثواب فاكْلَفُوا مِنَ العَمَلِ ما تُطِيقُونَ فإنّ خَيْرَ الَعمَلِ أدْوَمُهُ وَإنْ قَلّ » ونزلت عليه : يأيّها المُزّمّلُ قُمِ اللّيْلَ إلاّ قَلِيلاً السورة قال : فكتبت عليهم ، وأنزلت بمنزلة الفريضة حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به فلما رأى الله ما يكلفون مما يبتغون به وجه الله ورضاه ، وضع ذلك عنهم ، فقال : إنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أنّكَ تَقُومُ أدْنَى مِنْ ثُلثَيِ اللّيْلِ وَنِصْفَهُ . . . إلى عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فردّهم إلى الفريضة ، ووضع عنهم النافلة ، إلا ما تطوّعوا به .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : قُمِ اللّيْلِ إلاّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أو زِد عَلَيْهِ وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلاً ، فشقّ ذلك على المؤمنين ، ثم خفّف عنهم فرحمهم ، وأنزل الله بعد هذا : عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ . . . إلى قوله فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنْهُ فوسع الله وله الحمد ، ولم يضيق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : لما أنزل الله على نبيه : يأيّها المُزّمّلُ قال : مكث النبيّ صلى الله عليه وسلم على هذا الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله ، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه ، فأنزل الله عليه بعد عشر سنين : إنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أنّكَ تَقُومُ أدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللّيْلِ وَنِصْفَهُ وثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الّذِينَ مَعَكَ . . . إلى قوله : وأقِيمُوا الصّلاةَ فخفّ الله عنهم بعد عشر سنين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرِمة والحسن ، قالا : قال في سورة المزمل قُمِ اللّيْلِ إلاّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أو زِد عَلَيْهِ وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً نسختها الاَية التي فيها : عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنَ القُرْآنِ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قُمِ اللّيْلَ إلاّ قَلِيلاً قاموا حولاً أو حولين حتى انتفخت سوقهم وأقدامهم ، فأنزل الله تخفيفا بعد في آخر السورة .
حدثنا ابن حميد ، . قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن قيس بن وهب ، عن أبي عبد الرحمن ، قال : لما نزلت : يأيّها المُزّمّلُ قاموا بها حولاً حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت : فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنْهُ فاستراح الناس .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن جرير بياع المُلاء عن الحسن ، قال : الحمد لله تطوّع بعد فريضة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن مبارك ، عن الحسن ، قال لما نزلت يأيّها المُزّمّلُ . . . الاَية ، قام المسلمون حولاً ، فمنهم من أطاقه ، ومنهم من لم يطقه ، حتى نزلت الرخصة .
قال : ثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : لما نزل أوّل المزّمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان ، وكان بين أوّلها وآخرها نحو من سنة .
وقوله : وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً يقول جلّ وعزّ : وبين القرآن إذا قرأته تبيينا ، وترسل فيه ترسلاً . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علبة ، قال : حدثنا أبو رجاء ، عن الحسن ، في قوله وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً قال : اقرأه قراءة بينة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً فقال : بعضه على أثر بعض .
حدثنا محمد بن عبد الله المخزومي ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : أخبرنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً فقال : بعضه على أثر بعض . على تؤدة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله الله وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً قال : ترسل فيه ترسلاً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً فقال : بعضه على أثر بعض .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، قال : قال ابن جريج ، عن عطاء وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً قال : الترتيل النّبْذ : الطّرْح .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً قال بينه بيانا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً قال : بيّنه بيانا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً قال : بعضه على أثر بعض .
وقوله تعالى : { ورتل القرآن } معناه في اللغة تمهل وفرق بين الحروف لتبين . والمقصد أن يجد الفكر فسحة للنظر وفهم المعاني ، وبذلك يرق القلب ويفيض عليه النور والرحمة . قال ابن كيسان : المراد تفهمه تالياً له ومنه " الثغر الرتل " أي الذي بينه فسح وفتوح . وروي أن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بينة مترسلة لو شاء أحد أن يعد الحروف لعده{[11389]} .