في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا} (4)

( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا . إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا . إن لك في النهار سبحا طويلا ، واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا . رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) . .

( يا أيها المزمل . . قم . . ) . . إنها دعوة السماء ، وصوت الكبير المتعال . . قم . . قم للأمر العظيم الذي ينتظرك ، والعبء الثقيل المهيأ لك . قم للجهد والنصب والكد والتعب . قم فقد مضى وقت النوم والراحة . . قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد . .

وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه [ صلى الله عليه وسلم ] من دفء الفراش ، في البيت الهادئ والحضن الدافئ . لتدفع به في الخضم ، بين الزعازع والأنواء ، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء .

إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا ، ولكنه يعيش صغيرا ويموت صغيرا . فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير . . فماله والنوم ? وماله والراحة ? وماله والفراش الدافئ ، والعيش الهادئ ? والمتاع المريح ? ! ولقد عرف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حقيقة الأمر وقدره ، فقال لخديجة - رضي الله عنها - وهي تدعوه أن يطمئن وينام : " مضى عهد النوم يا خديجة " ! أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق !

( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ) . .

إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة . . قيام الليل . أكثره أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه . وأقله ثلث الليل . . قيامه للصلاة وترتيل القرآن . وهو مد الصوت به وتجويده . بلا تغن ولا تطر ولا تخلع في التنغيم .

وقد صح عن وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالليل أنه لم يتجاوز إحدى عشرة ركعة . ولكنه كان يقضي في هذه الركعات ثلثي الليل إلا قليلا ، يرتل فيه القرآن ترتيلا .

روى الإمام أحمد في مسنده قال : حدثنا يحيى بن سعيد - هو ابن أبي عروبة - عن قتادة ، عن زرارة ابن أوفى ، عن سعيد بن هشام . . أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? قال : نعم . قال : ائت عائشة فسلها ، ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك . . . ثم يقول سعيد بن هشام : قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : ألست تقرأ القرآن ? قلت : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان القرآن . فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي قيام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن قيام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : ألست تقرأ هذه السورة : ( يا أيها المزمل )? قلت : بلى . قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ؛ فقام رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم . وأمسك الله ختامها في السماء اثني عشر شهرا . ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة . . فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : كنا نعد له سواكه وطهوره ، فيبعثه الله كما شاء أن يبعثه من الليل ، فيتسوك ، ثم يتوضأ ، ثم يصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن ، إلا عند الثامنة ، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ، ثم ينهض وما يسلم ، ثم يقوم ليصلي التاسعة ، ثم يقعد فيذكر الله وحده ، ثم يدعوه ، ثم يسلم تسليما يسمعنا . ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأخذ اللحم أوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك تسع يا بني . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها . وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من نهار اثنتي عشرة ركعة . ولا أعلم نبي الله [ صلى الله عليه وسلم ] قرأ القرآن كله في ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان . . . "

وكان هذا الإعداد للقول الثقيل الذي سينزله الله عليه . .