الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا} (4)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{أو زد عليه} يعني على النصف إلى الثلثين، فخيره هذه الساعات، وكان هذا بمكة قبل الصلوات الخمس،

{ورتل القرآن ترتيلا} يقول: ترسل به ترسلا على هينتك رويدا، يعني عز وجل: بيِّنه تبينا.

تفسير الشافعي 204 هـ :

وأقل الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة، وكلما زاد على أقل الإبانة في القراءة كان أحبَّ إلي، ما لم يبلغ أن تكون الزيادة فيها تمطيطا. وأحب ما وصفت لكل قارئ في صلاة وغيرها، وأنا له في المصلى أشد استحبابا منه للقارئ في غير صلاة. فإذا أيقن المصلي أن لم يبق من القراءة شيء إلا نطق به أجزأته قراءته.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 2]

وقوله:"قُمِ اللّيْلَ إلاّ قَلِيلاً "يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: قم الليل يا محمد كله إلا قليلاً منه، "نِصْفَهُ" يقول: قم نصف الليل.

"أو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أوْ زِدْ عَلَيْهِ" يقول: أو زد عليه خَيره الله تعالى ذكره حين فرض عليه قيام الليل بين هذه المنازل أيّ ذلك شاء فعل.

"وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً" يقول جلّ وعزّ: وبين القرآن إذا قرأته تبيينا، وترسل فيه ترسلاً.

عن مجاهد "وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً": بعضه على أثر بعض، على تؤدة.

عن عطاء "وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً" قال: الترتيل النّبْذ: الطّرْح.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وقوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا} فالترتيل هو التبيين في اللغة، أي بينه تبيينا. وقيل: اقرأه حرفا حرفا على التقطيع لما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطّع القراءة.

ولكن جائز أن يكون قرأه على التقطيع لأن التبيين كان في تقطيعه، وإنما أمر بالتبيين لأن القرآن لم ينزل لتجود قراءته فقط، لكنه لمعان ثلاثة.

أحدها: أن يقرأ للحفظ والبقاء إلى يوم القيامة لئلا يذهب، ولا ينسى.

والثاني: أن يقرأ لتذكر ما فيه وفهم ما أودع من الأحكام وما لله عليهم من الحقوق وما لبعضهم على بعض.

والثالث: أن يقرأ ليعمل بما فيه، ويتعظ المرء بمواعظه، ويجعله المسلمون إماما يتبعون أمره، وينتهون عما نهى عنه.

فتنفيذ قراءته في الصلاة يلزمنا هذا كله. ولا يدرك ذلك إلا بالتأمل؛ وذلك عند قراءته على الترتيل.

وهذا الذي ذكرناه يوجب اختيار من يرى الوقوف في القرآن، لأن ذلك أدل على المعنى وأقرب إلى الأفهام.

والأصل أن سامع القرآن مأمور بالاستماع إليه، وإذا لزمه الاستماع، وفي الاستماع الوقوف على حسن نظمه وعجيب حكمته والوقوف على معانيه، لزم القارئ تبيينه ليصل السامع إلى معرفة معانيه، ويقف على حسن نظمه وعجيب تأليفه؛ وذلك يكون أقرب إلى إفهام السامع والقارئ لما فيه من لطائف المعاني.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

"أو زِدْ عليه ورَتِّل القرآنَ تَرْتيلاً" :... أن تقرأه على نظمه وتواليه، لا تغير لفظاً ولا تقدم مؤخراً، مأخوذ من ترتيل الأسنان إذا استوى نبتها وحسن انتظامها، قاله ابن بحر.

جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :

الترتيل: التمهل والترسل، ليقع مع ذلك التدبر، وكذلك كانت قراءته- صلى الله عليه وسلم- حرفا حرفا، فيما حكت أم سلمة وغيرها.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

ترتيل القرآن: قراءته على ترسل وتؤدة بتبيين الحروف وإشباع الحركات، حتى يجيء المتلوّ منه شبيها بالثغر المرتل: وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان، وألا يهذّه هذا، ولا يسرده سرداً، كما قال عمر رضي الله عنه: شر السير الحقحقة، وشر القراءة الهذرمة، حتى يشبه المتلو في تتابعه الثغر الألص.

وسئلت عائشة رضي الله عنها عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها. و {تَرْتِيلاً} تأكيد في إيجاب الأمر به، وأنه ما لا بد منه للقارئ.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{ورتل القرآن} معناه في اللغة تمهل وفرق بين الحروف لتبين. والمقصد أن يجد الفكر فسحة للنظر وفهم المعاني، وبذلك يرق القلب ويفيض عليه النور والرحمة. قال ابن كيسان: المراد تفهمه تالياً له، ومنه "الثغر الرتل " أي الذي بينه فسح وفتوح.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

واعلم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل أمره بترتيل القرآن حتى يتمكن الخاطر من التأمل في حقائق تلك الآيات ودقائقها؛ فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلالته، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف، وحينئذ يستنير القلب بنور معرفة الله.

والإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني، لأن النفس تبتهج بذكر الأمور الإلهية الروحانية، ومن ابتهج بشيء أحب ذكره، ومن أحب شيئا لم يمر عليه بسرعة، فظهر أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب وكمال المعرفة.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

وقال أبو بكر بن طاهر: تدبر في لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه، وسرك بالإقبال عليه.

التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته حرفا حرفا ولا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} أي: اقرأه على تمهل، فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره. وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه، قالت عائشة: كان يقرأ السورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري، عن أنس: أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كانت مدًا، ثم قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارْقَ، ورَتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها". ورواه أبو داود، والترمذي والنسائي، من حديث سفيان الثوري، به وقال الترمذي: حسن صحيح، وعن ابن مسعود أنه قال: لا تنثروه نثر الرمل ولا تهذّوه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة. رواه البغوي.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(يا أيها المزمل. قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا. إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا. إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا. إن لك في النهار سبحا طويلا، واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا. رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا)..

(يا أيها المزمل.. قم..).. إنها دعوة السماء، وصوت الكبير المتعال.. قم.. قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك. قم للجهد والنصب والكد والتعب. قم فقد مضى وقت النوم والراحة.. قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد..

وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه [صلى الله عليه وسلم] من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ. لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.

إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا، ولكنه يعيش صغيرا ويموت صغيرا. فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير.. فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟! ولقد عرف رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حقيقة الأمر وقدره، فقال لخديجة -رضي الله عنها- وهي تدعوه أن يطمئن وينام: " مضى عهد النوم يا خديجة "! أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق!

(يا أيها المزمل. قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا)..

إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة.. قيام الليل. أكثره أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه. وأقله ثلث الليل.. قيامه للصلاة وترتيل القرآن. وهو مد الصوت به وتجويده. بلا تغن ولا تطر ولا تخلع في التنغيم.

وقد صح عن وتر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بالليل أنه لم يتجاوز إحدى عشرة ركعة. ولكنه كان يقضي في هذه الركعات ثلثي الليل إلا قليلا، يرتل فيه القرآن ترتيلا.

روى الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يحيى بن سعيد -هو ابن أبي عروبة- عن قتادة، عن زرارة ابن أوفى، عن سعيد بن هشام.. أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال: ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله [صلى الله عليه وسلم]؟ قال: نعم. قال: ائت عائشة فسلها، ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك... ثم يقول سعيد بن هشام: قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان القرآن. فهممت أن أقوم، ثم بدا لي قيام رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن قيام رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قالت: ألست تقرأ هذه السورة: (يا أيها المزمل)؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة؛ فقام رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم. وأمسك الله ختامها في السماء اثني عشر شهرا. ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة.. فهممت أن أقوم، ثم بدا لي وتر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله كما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك، ثم يتوضأ، ثم يصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن، إلا عند الثامنة، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو، ثم ينهض وما يسلم، ثم يقوم ليصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله وحده، ثم يدعوه، ثم يسلم تسليما يسمعنا. ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأخذ اللحم أوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، فتلك تسع يا بني. وكان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها. وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من نهار اثنتي عشرة ركعة. ولا أعلم نبي الله [صلى الله عليه وسلم] قرأ القرآن كله في ليلة حتى أصبح، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان... "

وكان هذا الإعداد للقول الثقيل الذي سينزله الله عليه..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وتخصيص الليل بالصلاة فيه لأنه وقتُ النوم عادة فأُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقيام فيه زيادة في إشغال أوقاته بالإِقبال على مناجاة الله: ولأن الليل وقت سكون الأصوات واشتغال الناس فتكون نفس القائم فيه أقوى استعداداً لتلقي الفيض الرباني.

{ورتل القرآن} يجوز أن يكون متعلقاً بقيام الليل، أي رتل قراءتك في القيام.

ويجوز أن يكون أمراً مستقلاً بكيفية قراءة القرآن جرى ذكره بمناسبة الأمر بقيام الليل، وهذا أولى لأن القراءة في الصلاة تدخل في ذلك. وقد كان نزول هذه السورة في أول العهد بنزول القرآن فكان جملة القرآن حين نزول هذه السورة سورتين أو ثلاثَ سور بناء على أصح الأقوال في أن هذا المقدار من السورة مكي، وفي أن هذه السورة من أوائل السور، وهذا مما أشعر به قوله: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5] أي سنوحي إليك قرآناً.

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن بمهل وتبيين.

وفائدة هذا أن يرسخ حفظه ويتلقاه السامعون فيعلَقُ بحوافظهم، ويتدبر قارئه وسامعه معانيَه كي لا يسبق لفظُ اللسان عملَ الفهم. قال قائل لعبد الله بن مسعود: قرأت المفصل في ليلة، فقال عبد الله: « هَذًّا كهَذًّ الشعر» لأنهم كانوا إذا أنشدوا القصيدة أسرعوا ليظهر مِيزان بَحرها، وتتعاقب قوافيها على الأسماع. والهذُّ إسراع القطع.

وأكد هذا الأمر بالمفعول المطلق لإِفادة تحقيق صفة الترتيل.