قوله تعالى : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } قال قتادة : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على الصفا ليلاً ، فجعل يدعو قريشاً فخذاً فخذاً : يا بني فلان ، يا بني فلان ، يحذرهم بأس الله ووقائعه ، فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون ، بات يصوت إلى الصباح ، فأنزل الله تعالى : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم } ، محمد صلى الله عليه وسلم : { من جنة } جنون .
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ محمد صلى الله عليه وسلم مِنْ جِنَّةٍ أي : أَوَ لَمْ يُعْمِلُوا أفكارهم ، وينظروا : هل في صاحبهم الذي يعرفونه ولا يخفى عليهم من حاله شيء ، هل هو مجنون ؟ فلينظروا في أخلاقه وهديه ، ودله وصفاته ، وينظروا في ما دعا إليه ، فلا يجدون فيه من الصفات إلا أكملها ، ولا من الأخلاق إلا أتمها ، ولا من العقل والرأي إلا ما فاق به العالمين ، ولا يدعو إلا لكل خير ، ولا ينهى إلا عن كل شر .
أفبهذا يا أولي الألباب من جنة ؟ أم هو الإمام العظيم والناصح المبين ، والماجد الكريم ، والرءوف الرحيم ؟
ولهذا قال : إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي : يدعو الخلق إلى ما ينجيهم من العذاب ، ويحصل لهم الثواب .
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } .
الهمزة للانطار والتوبيخ ، وهى داخلة على فعل حذف للعلم به من سياق القول ، والواو للعطف على مقدر يستدعيه المقام .
والجنة : مصدر كالجلسة بمعنى الجنون . وأصل الجن الستر عن الحاسة .
والمعنى : أكذب هؤلاء الظالمون رسولهم صلى الله عليه وسلم ولم يتفكروا في أنه ليس به أى شىء من الجنون ، بل هو أكمل الناس عقلا ، وأسدهم رايا ، وأنقاهم نفساً .
والتعبير { بِصَاحِبِهِمْ } للايذان بأن طول مصاحبتهم له مما يطلعهم على نزاهته عما اتهموه به ، فهو صلى الله عليه وسلم قد لبث فيهم قبل الرسالة أربعين سنة كانوا يلقبونه فيها بالصادق الأمين ، ويعرفون عنه أسمى ألوان الإدراك السليم والتفكير المستقيم .
قال الجمل : وجملة " ما بصاحبهم من جنة " في محل نصب معمولة ليتفكروا فهو عامل فيها محلا لا لفظا لوجود المعلق له عن العمل وهو ما النافية .
ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ } ثم ابتدأ كلاما آخر إما استفهام إنكار وإما نفياً . ويجوز أن تكون " ما " استفهامية في محل الرفع بالابتداء والخبر بصاحبهم . موالتقدير : أى شىء استقر بصاحبهم من الجنون " .
وقوله { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } بيان لوظيفته صلى الله عليه وسلم أى : ليس بمجنون كما زعمتم أيها المشركون وإنما هو مبالغ في الإنذار ، مظهر له غاية الإظهار ، فهو لا يقصر في تخويفكم من سوء عاقبة التكذيب ، ولا يتهاون في نصيحتكم وإرشادكم إلى ما يصلح من شأنكم .
ولقد كان القرآن يواجه بذلك التهديد الرعيب قوماً من المكذبين بآيات الله في مكة - والنص القرآني دائماً أبعد مدى من المناسبة الخاصة - وكان يتوعدهم على موقفهم من الجماعة المسلمة - التي يسميها أمة وفق المصطلح الإسلامي - بالإملاء لهم والاستدراج والكيد المتين . . ثم كان يدعوهم - بعد هذا التهديد - إلى استخدام قلوبهم وعيونهم وآذانهم . فلا يكونوا من ذرء جهنم ولا يكونوا من الغافلين . . كان يدعوهم إلى التدبر في أمر رسولهم الذي يدعوهم إلى الحق ويهديهم به ؛ وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وآيات الله المبثوثة في هذا الملكوت ؛ وكان يوقظهم إلى مرور الوقت وما يؤذن به من اقتراب الأجل المجهول ، وهم غافلون :
( أو لم يتفكروا ؟ ما بصاحبهم من جنة ، إن هو إلا نذير مبين . أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ؟ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ؟ فبأي حديث بعده يؤمنون ؟ . . )
إن القرآن يهزهم من غفوتهم ، ويوقظهم من غفلتهم ، ويستنقذ - من تحت الركام - فطرتهم وعقولهم ومشاعرهم . . إنه يخاطب كينونتهم البشرية كلها ، بكل ما فيها من أجهزة الاستقبال والاستجابة . . إنه لا يوجه إليهم جدلاً ذهنيا باردا ؛ إنما هو يستنقذ كينونتهم كلها وينفضها من أعماقها :
( أو لم يتفكروا ؟ ما بصاحبهم من جنة ، إن هو إلا نذير مبين . . )
لقد كانوا يقولون عن الرسول [ ص ] في حرب الدعاية التي يشنها ضده الملأ من قريش يخدعون بها الجماهير : إن محمداً به جنة . وهو من ثم ينطق بهذا الكلام الغريب ، غير المعهود في أساليب البشر العاديين !
ولقد كان الملأ من قريش يعلمون أنهم كاذبون ! وقد تضافرت الروايات على أنهم كانوا يعرفون الحق في أمر رسول الله [ ص ] وأنهم ما كانوا يملكون أن يمنعوا أنفسهم عن الاستماع لهذا القرآن والتأثر به أعمق التأثر . . وقصة الأخنس بن شريق ، وأبي سفيان بن حرب ، وعمرو بن هشام - أبي جهل - في الاستماع لهذا القرآن خلسة ، ليالي ثلاثاً ، وما وجدوه في أنفسهم منه معروفة . . وكذلك قصة عتبة بن ربيعة وسماعه سورة فصلت من النبي [ ص ] وهزته أمام إيقاعاتها المزلزلة . . ومثلها قصة تآمرهم قبيل موسم الحج فيما يقولون للناس عن النبي [ ص ] وما معه من القرآن ؛ وانتهاء الوليد بن المغيرة إلى أن يقولوا للوفود : إنه سحر يؤثر . . كل هذه الروايات تثبت أنهم ما كانوا جاهلين لحقيقة هذا الأمر ؛ إنما هم كانوا يستكبرون عنه ؛ ويخشونه على سلطانهم الذي تهدده شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؛ التي تسلب البشر حق تعبيد البشر لغير الله . . وتهدد كل طاغوت بشري علي العموم !
من ثم كانوا يستغلون تفرد هذا القرآن العجيب وتميزه عن قول البشر المعهود ؛ كما يستغلون الصورة التي كانت معهودة فيهم وفيمن قبلهم ، عن الصلة بين التنبؤ والجنون ! والنطق بكلمات ورموز يؤولها المصاحبون لمن بهم جنة وفق ما يريدون ؛ ويزعمون أنها تأتيهم من عالم غير منظور ! . . كانوا يستغلون هذه الرواسب في التمويه على الجماهير بأن الذي يقوله محمد ، إنما يقوله عن جنة به ؛ وأنه يأتي بالغريب العجيب من القول ، لأنه مجنون !
والقرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم الذي عرفوه من قبل وخبروه . فلم يعرفوا عنه من قبل خللاًعن السواء ؛ وشهدوا له بالأمانة والصدق ، كما شهدوا له بالحكمة ؛ وحكموه في الحجر الأسود وارتضوا حكمه واتقوا بهذا الحكم فتنة بينهم كادت تثور . واستأمنوه على ودائعهم وظلت عنده حتى خرج مهاجراً فردها لهم عنه ابن عمه علي كرم الله وجهه !
القرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم هذا المعروف لهم ماضيه كله ، المكشوف لهم أمره كله . . أفهذا به جنة ؟ . . أفهذا قول مجنون وفعل مجنون ؟ . . كلا :
( ما بصاحبهم من جنة . . إن هو إلا نذير مبين ) . .
لا اختلاط في عقله ولا في قوله . إنما هو منذر مفصح مبين . لا يلتبس قوله بقول المجانين ، ولا تشتبه حاله بحال المجانين .
وقوله : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم } الآية ، تقرير يقارنه توبيخ للكفار ، والوقف على قوله { أولم يتفكروا } ثم ابتدأ القول بنفي ما ذكوره فقال : { ما بصاحبهم من جنة } أي بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون المعنى أو لم يتفكروا أنه ما بصاحبهم من جنة ، وسبب نزول هذه الآية فيما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد ليلاً على الصفا فجعل يدعو قبائل قريش ، يا بني فلان ، يا بني فلان يحذرهم ويدعوهم إلى الله فقال بعض الكفار حين أصحبوا هذا مجنون بات يصوت حتى الصباح فنفى الله عز وجل ما قالوه من ذلك في هذا الموطن المذكور وفي غيره ، فإن الجنون بعض ما رموه به حتى أظهر الله نوره ، ثم أخبر أنه نذير أي محذر من العذاب ، ولفظ النذارة إذا جاء مطلقاً فإنما هو في الشر ، وقد يستعمل في الخير مقيداً به ، ويظهر من رصف الآية أنها باعثة لهم على الفكرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه ليس به جنة كما أحالهم بعد هذه الآية على النظر ثم بين المنظور فيه كذلك أحال هنا على الفكرة ثم بين المتفكر فيه .
لما كان تكذيبهم بالآيات منبعثاً عن تكذيبهم من جاء بها ، وناشئاً عن ظن أن آيات الله لا يجيء بها البشر ، وأن مَن يدعي أنه مرسل من الله مجنون ، عقب الإخبار عن المكذبين ووعيدهم بدعوتهم للنظر في حال الرسول ، وأنه ليس بمجنون كما يزعمون .
واستعمال العرب همزة الاستفهام مع حروف العطف المشركة في الحكم استعمال عجيب تقدم بيانه عند قوله تعالى : { أفكلما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم أستكبرتم } في سورة البقرة ( 87 ) .
والجملة مستأنفة ، وهي ابتداء كلام في محاجتهم وتنبيههم بعد الإخبار عنهم بأنهم مستدرجون ومملى لهم .
والاستفهام للتعجيب من حالهم والانكار عليهم ، و ( ما ) في قوله : { ما بصاحبهم من جنة } نافية كما يؤذن به دخول ( من ) على منفى ما ، لتأكيد الاستغراق .
وفعل { يتفكروا } منزل منزلة اللازم ، فلا يقدر له متعلق للاستغناء عن ذلك بما دل عليه النفي في قوله : { ما بصاحبهم من جنة } أي ألم يكونوا من المفكرين أهل النظر ، والفعل المعلق عن العمل لا يقدر له مفعول ولا متعلق .
والمقصود من تعليق الفعل هو الانتقال من علم الظان إلى تحقيق الخبر المظنون وجعله قضية مستقلة ، فيصير الكلام بمنزلة خبرين خبر من جانب الظان ونحوه ، وخبر من جانب المتكلم دخل في قسم الواقعات فنحو قوله تعالى : { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } [ الأنبياء : 65 ] هو في قوة أن يقال : لقد علمت لا ينطقون ما هؤلاء ينطقون ، أي ذلك علمك وهذا علمي ، وقوله هنا : { أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } في قوة : أو لم يتفكروا صاحبهم غير مجنون ، ما بصاحبهم من جنة . فتعليق أفعال القلب ضرب من ضروب الإيجاز ، وأحسب هذا هو الغرض من أسلوب التعليق لم يُنبه عليه علماء المعاني ، وأن خصائص العربية لا تنحصر .
و« الصاحب » حقيقته الذي يلازم غيره في حالة من سفر أو نحوه ، ومنه قوله تعالى : { يا صاحبي السجن } [ يوسف : 41 ] ، وسميت الزوجة صاحبة ، ويطلق مجازاً على الذي له مع غيره حادث عظيم وخبر ، تنزيلاً لملازمة الذكر منزلة ملازمة الذات ، ومنه قول أبي معبد الخزاعي لامرأته ، أم معبد ، لما أخبرته بدخول النبي صلى الله عليه وسلم بيتها في طريق الهجرة ووصفت له هديه وبركتَه : « هذا صاحب قريش » ، وقولُ الحجاج في بعض خطبه لأهل العراق « ألَسْتُم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتُم الكفر » يريد أنهم الذين قاتلوه بالأهواز ، فمعنى كونهم أصحابه أنه كثر اشتغاله بهم ، وقول الفضل بن عبّاس اللّهَبي :
كلُّ له نيّةٌ في بُغْض صاحبه *** بنعمة اللَّه نقليكم وتقلونا
فوصفُ الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه صاحب الذين كذبوا بالآيات : هو بمعنى الذي اشتغلوا بشأنه ولزموا الخوض في أمره ، وقد تكرر ذلك في القرآن كقوله تعالى : { وما صاحبكم بمجنونٍ }
والجنة بكسر الجيم اسم للجنون ، وهو الخبال الذي يعتري الإنسان من أثر مسّ الجن إيّاه في عرف الناس ، ولذلك علقت الجنة بفعل الكون المقدر ، بحرف الباء الدال على الملابسة . وإنما أنكر عليهم وعُجّب من إعراضهم عن التفكر في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه غير مجنون ، رداً عليهم وصفهم إياه بالجنون { وقالوا يأيها الذي نُزّل عليه الذكر إنك لمجنون } [ الحجر : 6 ] ، { وقالوا معلمٌ مجنونٌ } [ الدخان : 14 ] وهذا كقوله تعالى : { وما صاحبكم بمجنون } [ التكوير : 22 ] .
وجملة : { إن هو إلا نذير مبين } استئناف بياني لجواب سائِل منهم يقول : فماذا شأنه ، أو هي تقرير لحكم جملة : { ما بصاحبهم من جنة } ففصلت لكمال الاتصال بينهما المغني عن العطف .
والنذير المحذر من شيء يضر ، وأصله الذي يخبر القوم بقدوم عدوهم ، ومنه المثل « أنا النذير العُريان » يقال أنذر نذارة بكسر النون مثل بشارة فهو منذر ونذير .
وهذا مما جاء فيه فعيل في موضع مُفْعل ، مثل الحكيم ، بمعنى المحكم ، وقول عمرو بن معديكرب :
أي المُسْمع . والمبين اسم فاعل من أبان إذا أوضح ، ووقع هذا الوصف عقب الإخبار ب ( نذير ) يقتضي أنه وصف للخبر ، فالمعنى أنه النذير المبين لنذارته بحيث لا يغادر شكاً في صدقه ، ولا في تصوير الحال المحذر منها ، فالغرض من اتباع « النذير » بوصف « المبين » التعريض بالذين لم ينصاعوا لنذارته ، ولم يأخذوا حذرهم من شر ما حذرهم منه ، وذلك يقطع عذرهم .
ويجوز جعل { مبين } خبراً ثانياً عن ضمير صاحبهم ، والمعنى أنه نذير وأنه مبين فيما يبلغه من نذارة وغيرها .
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة ، وهو يقتضي انحصار أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم في النذارة والبيان ، وذلك قصر إضافي ، هو قصر قلب ، أي هو نذير مبين لا مجنون كما يزعمون ، وفي هذا استغباء أو تسفيهٌ لهم بأن حاله لا يلتبس بحال المجنون للبون الواضح بين حال النذارة البينة وحال هذيان المجنون . فدعواهم جنونه : إما غباوة منهم بحيث التبست عليهم الحقائق المتمايزة ، وإما مكابرة وعناد وافتراء على الرسول .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة}، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، يعني من جنون... {إن هو إلا نذير مبين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أو لم يتفكر هؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا فيتدبّروا بعقولهم، ويعلموا أن رسولنا الذي أرسلناه إليهم، لا جِنّة به ولا خبْل، وأن الذي دعاهم إليه هو الدين الصحيح القويم والحقّ المبين...
ويعني بقوله:"إنْ هُوَ إلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ": ما هو إلاّ نذير منذركم عقاب الله على كفركم به إن لم تنيبوا إلى الإيمان به، ويعني بقوله: "مُبِينٌ "قد أبان لكم أيها الناس إنذاره ما أنذركم به من بأس الله على كفركم به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة}... يحتمل أن تكون نسبتهم إياه إلى الجنون لما حرّم عليهم عبادة الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها، وهم قد رأوا العقلاء منهم قد عبدوا الأصنام، ولم يحرّموا ذلك. فلما حرّم ذلك عليهم ظنوا أنه إنما حرّم ذلك لآفة، لذلك حملهم نسبته إلى الجنون، والله أعلم. ثم عاتبهم بتركهم التفكر فيه بقوله: {أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} ليتبين لهم أنه ليس به جنون. وذلك يحتمل وجهين: [أحدهما]: أنهم لو تفكروا في رسول الله بما أخبرهم من المرغوب والمرهوب والمحذور في كتابهم على غير لسانهم واختلاف منه إلى أحد منهم ولا تعلّم لعلموا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ما أخبر إنما أخبر بالله. والثاني: أن يكون قوله تعالى: {أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} أي قد تفكروا، وعرفوا أن ليس به جنون، وكذلك في قوله تعالى: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} الآية: [الأعراف: 185] أي قد تفكروا في ذلك، وعرفوا أن مثل هذا لم يخلق عبثا باطلا كما يقال: ألم تفعل كذا؟ أي قد فعلت، لكنهم عاندوا، وكابروا آياته وحججه. وأمكن أن يكون قوله: {أو لم يتفكروا} أي في أنفسهم وفي أولئك الذين عبدوا كثيرا من الأصنام والأوثان ليظهر لهم أنهم على باطل وسفه، وليتبين لهم أن الحق هو ما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم لا ما كانوا هم عليه. وفيه دلالة أن الحق يلزم، وإن كان لا يعلم ذلك إلا بالتفكّر والتدبّر، ما لحق هؤلاء من الوعيد الشديد والعقاب العظيم لما تركوا هم التفكر، وكان لهم سبيل الوصول إلى معرفة ذلك. وقوله: {أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} إنه ليس به جنة، هو جواب من الله. ويحتمل: لو تفكروا في صاحبهم أنه ليس به جنة. ثم أخبر أنه {نذير مبين} ليس كما يقولون: إنه مجنون؛ إذ معه آيات وبراهين، فهو {نذير مبين}...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا خطاب من الله تعالى للكفار الذين كانوا ينسبون النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الجنون على وجه التوبيخ لهم والتقريع "أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة "أي وليس بالنبي (صلى الله عليه وآله) جنة وهي الجنون، فانه لا يأتي بمثل ما يأتي به المجنون، وهم يرون الأصحاء منقطعين دونه ويرون صحة تدبيره واستقامة أعماله وذلك ينافي أعمال المجانين. وبين أنه ليس به (صلى الله عليه وآله) إلا الخوف للعباد من عقاب الله، لأن الإنذار هو الإعلام عن المخاوف، فبين لهم ما عليهم من أليم العذاب بمخالفته.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم} الآية، تقرير يقارنه توبيخ للكفار، والوقف على قوله {أولم يتفكروا} ثم ابتدأ القول بنفي ما ذكروه فقال: {ما بصاحبهم من جنة} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون المعنى أو لم يتفكروا أنه ما بصاحبهم من جنة... ويظهر من رصف الآية أنها باعثة لهم على الفكرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس به جنة كما أحالهم بعد هذه الآية على النظر ثم بين المنظور فيه كذلك أحال هنا على الفكرة ثم بين المتفكر فيه.
اعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد المعرضين عن آياته، الغافلين عن التأمل في دلائله وبيناته، عاد إلى الجواب عن شبهاتهم، فقال: {أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} والتفكر: طلب المعنى بالقلب وذلك لأن فكرة القلب هو المسمى بالنظر، والتعقل في الشيء والتأمل فيه والتدبر له، وكما أن الرؤية بالبصر حالة مخصوصة من الانكشاف والجلاء، ولها مقدمة وهي تقليب الحدقة إلى جهة المرئي طلبا لتحصيل تلك الرؤية بالبصر، فكذلك الرؤية بالبصيرة، وهي المسماة بالعلم واليقين، حالة مخصوصة في الانكشاف والجلاء، ولها مقدمة وهي تقليب حدقة العقل إلى الجوانب، طلبا لذلك الانكشاف والتجلي، وذلك هو المسمى بنظر العقل وفكرته، فقوله تعالى: {أولم يتفكروا} أمر بالفكر والتأمل والتدبر والتروي لطلب معرفة الأشياء كما هي عرفانا حقيقيا تاما... واعلم أن بعض الجهال من أهل مكة كانوا ينسبونه إلى الجنون لوجهين: الأول: أن فعله عليه السلام كان مخالفا لفعلهم، وذلك لأنه عليه السلام كان معرضا عن الدنيا مقبلا على الآخرة، مشتغلا بالدعوة إلى الله، فكان العمل مخالفا لطريقتهم، فاعتقدوا فيه أنه مجنون...
. وحثهم على التفكر في أمر الرسول عليه السلام، ليعلموا أنه إنما دعا للإنذار لا لما نسبه إليه الجهال.
الثاني: أنه عليه السلام كان يغشاه حالة عجيبة عند نزول الوحي فيتغير وجهه ويصفر لونه، وتعرض له حالة شبيهة بالغشي، فالجهال كانوا يقولون إنه مجنون فالله تعالى بين في هذه الآية أنه ليس به نوع من أنواع الجنون، وذلك لأنه عليه السلام كان يدعوهم إلى الله، ويقيم الدلائل القاطعة والبينات الباهرة، بألفاظ فصيحة بلغت في الفصاحة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضتها، وكان حسن الخلق، طيب العشرة، مرضي الطريقة، نقي السيرة، مواظبا على أعمال حسنة صار بسببها قدوة للعقلاء العالمين، ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون، وإذا ثبت هذا ظهر أن اجتهاده على الدعوة إلى الدين إنما كان لأنه نذير مبين، أرسله رب العالمين لترهيب الكافرين، وترغيب المؤمنين...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعد هذا أرشدهم إلى المخرج من أكبر شبهة لهم على الرسالة فقال عز وجل: {أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنّة} الجنة بالكسر النوع الخاص من الجنون فهو اسم هيئة، واسم للجن أيضا ولا يصح هنا إلا بتقدير مضاف، أي من مس جنة – وقد حكى الله تعالى عن قوم نوح أول رسله إلى قوم مشركين أنهم اتهموه بالجنون فقالوا بعد قولهم إنه بشر مثلهم يريد أن يتفضل عليهم {إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين} [المؤمنون: 25] وفي سورة القمر عنهم {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر} [القمر: 9] وفي سورة الشعراء حكاية عن فرعون لعنه الله في موسى عليه السلام {قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم المجنون} [الشعراء: 26] وقال تعالى عنه في سورة الذاريات {فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون} [الذاريات: 39] ثم بين تعالى في هذه السورة أن جميع الكفار كانوا يقولون هذا القول في رسلهم فقال: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون} [الذاريات: 52، 53].
وفي معنى آية الأعراف في خاتم النبيين والمرسلين عدة آيات منها: قوله تعالى في كفار مكة من سورة المؤمنين {أفلم يدّبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين * أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون * أم يقولون به جنّة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون} [المؤمنون: 69- 71] ومثله في سورة سبأ: {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبّئكم إذا مزّقتم كل ممزّق إنكم لفي خلق جديد * أفترى على اللّه كذبا أم به جنّة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد} [سبأ: 7، 8] ثم قال فيها: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا للّه مثنى وفرادى ثم تتفكّروا ما بصاحبكم من جنّة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} [سبأ: 46] وهذه شبيهة بآية الأعراف. وفي أول سورة الحجر: {قالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين} [الحجر: 6، 7] وفي سورة الصافات: {ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون} [الصافات: 35] وفي سورة الطور من الرد عليهم {فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون} [الطور: 27] ومثله: {ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون} [القلم: 1، 2] وفي آخرها {ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين} [القلم: 51، 52].
وفي سورة التكوير بعد وصف ملك الوحي: {وما صاحبكم بمجنون} [التكوير: 22]...
قد علمنا بما سبق أن جميع الكفار كانوا يرمون رسلهم بالجنون لأنهم ادعوا أن الله تعالى خصهم برسالته ووحيه على كونهم بشرا كغيرهم لا يمتازون على سائر الناس بما يفوق أفق الإنسانية كما علم من نشأتهم ومعيشتهم، ولأنهم ادعوا ما لا يعهد له عندهم نظير، وليس مما تصل إليه عقولهم بالتفكير، وهو أن الناس يبعثون بعد الموت والبلى خلقا جديدا، ولأن كلا منهم كان يدعي أن الناس مخطئون وهو المصيب، وضالون وهو المهتدي، وخاسرون وهو المفلح، إلا من اتبعه منهم- ولأنهم نهوا عن عبادة الآلهة وأنكروا أنها بالدعاء والتعظيم والنذور لها تقرب المتوسلين بها إلى الله زلفى وتشفع لهم عنده، وأثبتوا أن الشفاعة لله وحده لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، من رضي له لمن رضي عنه، فلا استقلال لهؤلاء الآلهة بالشفاعة عنده لمن توسل بهم- وشرعوا أنه لا يدعى مع الله أحد من ملك كريم، ولا صالح عظيم، فضلا عن صورهم وتماثيلهم المذكرة بهم، وقبورهم المشرفة برفاتهم، مع أن المذنب العاصي لا يليق به في رأي المشركين أن يدعو الله تعالى بغير واسطة ولا وسيلة لتدنسه بالذنوب فيحتاج إلى من يقربه إليه من أولئك الطاهرين، وشبهتهم أن الملوك العظام في الدنيا لا يدخل أحد عليهم إلا بإذن وزرائهم وحجابهم.
ومن الغريب أن هذه الشبهة الشركية لا تزال متسلسلة في جميع المشركين، حتى من أشرك من أهل الكتاب والمسلمين، الذين خالفوا نصوص الكتب الإلهية وسنة الرسل إلى أعمال الوثنيين؟ ولا يرون بأسا في تشبيه رب العالمين وأرحم الراحمين، بالملوك الظالمين المستبدين.
وأما معنى الآية: فالاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ وهو داخل على فعل حذف للعلم به من سياق القول كما تقدم في أمثاله والتقدير: أكذبوا الرسول ولم يتفكروا في حاله من أول نشأته، وفي حقيقة دعوته، ودلائل رسالته، وآيات وحدانية ربه، وقدرته على إعادة الخلق كما بدأهم وحكمته في ذلك- فإن حذف معمول التفكر يؤذن بعموم ما يدل عليه المقام مما تقتضيه الحال كما هي القاعدة المعروفة في علم المعاني-.
ألا فليتفكروا، فالمقام مقام تفكر وتأمل، أنهم إن تفكروا أوشك أن يعرفوا الحق، وما الحق؟ {ما بصاحبهم من جنة} جملة مستأنفة لبيان الحق في أمر الرسول نفيا وإثباتا فهي نافية لما رموه به من الجنون كقوله تعالى: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} [القلم: 2] وقوله: {وما صاحبكم بمجنون} [التكوير: 22] ومثلها آية سبأ {ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة} [سبأ: 47] ولذلك ختمتا بنفي كل صفة عنه في موضوع رسالته إلا كونه منذرا مبلغا عن ربه فقال هنا {إن هو إلا نذير مبين} الإنذار تعليم وإرشاد مقترن بالتخويف من مخالفته أي ليس بمجنون: ليس إلا منذرا ناصحا، ومبلغا عن الله مبينا، ينذركم ما يحل بكم من عذاب الدنيا والآخرة إذا لم تستجيبوا له، وقد دعاكم لما يحييكم في الدنيا بجمع كلمتكم، وإصلاح أفرادكم ومجتمعكم، والسيادة على غيركم، ويحييكم في الدنيا بجمع كلمتكم، وإصلاح أفرادكم ومجتمعكم، والسيادة على غيركم، ويحييكم في الآخرة بلقاء ربكم. وقال هنالك {إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} [سبأ: 46].
وقد عبر عنه في هاتين الآيتين وفي آية التكوير بالصاحب لهم لتذكيرهم بأنهم يعرفونه من أول نشأته إلى أن تجاوز الأربعين من عمره، فما عليهم إلا أن يتفكروا حق التفكر في سيرته الشريفة المعقولة ليعلموا أن الشذوذ ومجافاة المعقول ليس من دأبه ولا مما عهد عنه، وكذلك الكذب كما قال بعض زعمائهم من أهل مكة: إن محمدا لم يكذب قط على أحد من الناس أفيكذب على الله؟ وقد قال تعالى في أولئك الزعماء {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام: 33].
وقد بينا في تفسيرنا هذا شبهة المشركين على الرسل بكونهم بشرا مع الرد عليها، كذلك شبهاتهم على البعث مع الرد عليها.
ولو تفكر مشركو مكة في نشأة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه وما جربوا من أمانته وصدقه من صبوته إلى أن اكتهل، ثم تفكروا فيما قام يدعوهم إليه من توحيد الله بعبادته وحده ومن كون حكمته في خلقه السماوات والأرض بالحق تقتضي تنزهه عن العبث ومنه: أن يكون هذا الإنسان السميع البصير العاقل البحاث عن حقائق الأشياء من ماض وحاضر وآت، ينتهي وجوده بالعدم المحض الذي هو في نفسه محال، ثم لو تفكروا في سوء حالهم الدينية (كعبادة الأصنام) والأدبية والمدنية والاجتماعية وما دعاهم إليه من إصلاحها كلها- لعلموا أن هذا الإصلاح الديني والأدبي والاجتماعي والسياسي لا يثمر إلا بالسيادة والسعادة، وأنه لا يمكن أن يكون مصدره جنون من دعا إليه، بل إذا كان فيه شيء غير معقول فهو أنه لا يمكن أن يكون هذا العلم العالي والإصلاح الكامل من رأي محمد بن عبد الله الأمي الناشئ بين الأميين- ولا أن تكون هذه البلاغة المعجزة للبشر في أسلوب القرآن ونظمه من كسب محمد الذي بلغ الأربعين ولم ينظم قصيدة ولا أرتجل خطبة- وأن هذه الحجج البالغة على كل ما يدعو إليه القرآن، والبراهين العقلية والعلمية الكونية لا يتأتى أن تأتي فجأة من ذي عزلة لم يناظر ولم يفاخر ولم يجادل أحدا فيما مضى من عمره كمحمد بن عبد الله- فإذا تفكروا في هذا كله جزموا بأن هذا كله وحي من الله تعالى ألقاه في روعه، ونزل من لدنه على روحه، وعلموا أن استبعادهم لذلك جهل منهم، فالله تعالى القادر على كل شيء يختص برحمته من يشاء. لهذا حثهم على التفكر في هذا المقام من هذه السورة وغيرها وذكر بعدها كونه نذيرا مبينا، ونذيرا بين يدي عذاب شديد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد كان القرآن يواجه بذلك التهديد الرعيب قوماً من المكذبين بآيات الله في مكة -والنص القرآني دائماً أبعد مدى من المناسبة الخاصة- وكان يتوعدهم على موقفهم من الجماعة المسلمة -التي يسميها أمة وفق المصطلح الإسلامي- بالإملاء لهم والاستدراج والكيد المتين.. ثم كان يدعوهم -بعد هذا التهديد- إلى استخدام قلوبهم وعيونهم وآذانهم. فلا يكونوا من ذرء جهنم ولا يكونوا من الغافلين.. كان يدعوهم إلى التدبر في أمر رسولهم الذي يدعوهم إلى الحق ويهديهم به؛ وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وآيات الله المبثوثة في هذا الملكوت؛ وكان يوقظهم إلى مرور الوقت وما يؤذن به من اقتراب الأجل المجهول، وهم غافلون:
(أو لم يتفكروا؟ ما بصاحبهم من جنة، إن هو إلا نذير مبين. أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؟ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم؟ فبأي حديث بعده يؤمنون؟..)
إن القرآن يهزهم من غفوتهم، ويوقظهم من غفلتهم، ويستنقذ -من تحت الركام- فطرتهم وعقولهم ومشاعرهم.. إنه يخاطب كينونتهم البشرية كلها، بكل ما فيها من أجهزة الاستقبال والاستجابة.. إنه لا يوجه إليهم جدلاً ذهنيا باردا؛ إنما هو يستنقذ كينونتهم كلها وينفضها من أعماقها:
(أو لم يتفكروا؟ ما بصاحبهم من جنة، إن هو إلا نذير مبين..)
لقد كانوا يقولون عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حرب الدعاية التي يشنها ضده الملأ من قريش يخدعون بها الجماهير: إن محمداً به جنة. وهو من ثم ينطق بهذا الكلام الغريب، غير المعهود في أساليب البشر العاديين!
ولقد كان الملأ من قريش يعلمون أنهم كاذبون! وقد تضافرت الروايات على أنهم كانوا يعرفون الحق في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم ما كانوا يملكون أن يمنعوا أنفسهم عن الاستماع لهذا القرآن والتأثر به أعمق التأثر.. وقصة الأخنس بن شريق، وأبي سفيان بن حرب، وعمرو بن هشام -أبي جهل- في الاستماع لهذا القرآن خلسة، ليالي ثلاثاً، وما وجدوه في أنفسهم منه معروفة.. وكذلك قصة عتبة بن ربيعة وسماعه سورة فصلت من النبي صلى الله عليه وسلم وهزته أمام إيقاعاتها المزلزلة.. ومثلها قصة تآمرهم قبيل موسم الحج فيما يقولون للناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وما معه من القرآن؛ وانتهاء الوليد بن المغيرة إلى أن يقولوا للوفود: إنه سحر يؤثر.. كل هذه الروايات تثبت أنهم ما كانوا جاهلين لحقيقة هذا الأمر؛ إنما هم كانوا يستكبرون عنه؛ ويخشونه على سلطانهم الذي تهدده شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ التي تسلب البشر حق تعبيد البشر لغير الله.. وتهدد كل طاغوت بشري علي العموم!
من ثم كانوا يستغلون تفرد هذا القرآن العجيب وتميزه عن قول البشر المعهود؛ كما يستغلون الصورة التي كانت معهودة فيهم وفيمن قبلهم، عن الصلة بين التنبؤ والجنون! والنطق بكلمات ورموز يؤولها المصاحبون لمن بهم جنة وفق ما يريدون؛ ويزعمون أنها تأتيهم من عالم غير منظور!.. كانوا يستغلون هذه الرواسب في التمويه على الجماهير بأن الذي يقوله محمد، إنما يقوله عن جنة به؛ وأنه يأتي بالغريب العجيب من القول، لأنه مجنون!
والقرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم الذي عرفوه من قبل وخبروه. فلم يعرفوا عنه من قبل خللاً عن السواء؛ وشهدوا له بالأمانة والصدق، كما شهدوا له بالحكمة؛ وحكموه في الحجر الأسود وارتضوا حكمه واتقوا بهذا الحكم فتنة بينهم كادت تثور. واستأمنوه على ودائعهم وظلت عنده حتى خرج مهاجراً فردها لهم عنه ابن عمه علي كرم الله وجهه!
القرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم هذا المعروف لهم ماضيه كله، المكشوف لهم أمره كله.. أفهذا به جنة؟.. أفهذا قول مجنون وفعل مجنون؟.. كلا:
(ما بصاحبهم من جنة.. إن هو إلا نذير مبين)..
لا اختلاط في عقله ولا في قوله. إنما هو منذر مفصح مبين. لا يلتبس قوله بقول المجانين، ولا تشتبه حاله بحال المجانين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و« الصاحب» حقيقته الذي يلازم غيره في حالة من سفر أو نحوه، ومنه قوله تعالى: {يا صاحبي السجن} [يوسف: 41]، وسميت الزوجة صاحبة، ويطلق مجازاً على الذي له مع غيره حادث عظيم وخبر، تنزيلاً لملازمة الذكر منزلة ملازمة الذات، ومنه قول أبي معبد الخزاعي لامرأته، أم معبد، لما أخبرته بدخول النبي صلى الله عليه وسلم بيتها في طريق الهجرة ووصفت له هديه وبركتَه: « هذا صاحب قريش»،...
ا فوصفُ الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه صاحب الذين كذبوا بالآيات: هو بمعنى الذي اشتغلوا بشأنه ولزموا الخوض في أمره، وقد تكرر ذلك في القرآن كقوله تعالى: {وما صاحبكم بمجنونٍ} [التكوير: 22]...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
عبر الله تعالى بقوله: {ما بصاحبهم} من فيه إشارة إلى مصاحبته أربعين سنة في صحبة كريمة عاقلة أمينة يرجعون إليه في أمورهم المهمة، ويشركهم في فعل الطيبات أنى اتجهوا إليها. وإن ما دفعكم إلى هذا الوصف ينافي ماضيه وحضره إنما هو أنه جاء بالحق بشيرا ونذيرا وهاديا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا؛ ولذا قال تعالى: {إن هو إلا نذير مبين} أي ذاكر لكم عاقبة الكفر، وهو العذاب الشديد، مبين لكم ذلك وموضحه...
وقد وردت آيات كثيرة في هذا المعنى فقد قال تعالى: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم من بين يدي عذاب شديد (46)} (سبأ). فالله تعالى في هذه الآية يدعوهم إلى أن يتفكروا مجتمعين وفرادى، ومتذاكرين وستنتهون إلى أنه {ما بصاحبهم من جنة}، إنه الكامل فيكم صبيا وشابا ورجلا مكتملا، ولكنه العناد قد جركم إلى إنكار ما هو ثابت ثبوتا لا مجال للريب فيه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن الفكر الحرّ سيقودهم إلى النتيجة الحاسمة {مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}، فليس هناك أي مظهر لذلك من قريبٍ أو من بعيد، بل هناك ما هو مضاد له في ما يتمثل في دعوته من وعيٍ للمسؤولية، وتوعيةٍ للإنسان في قضايا المصير في ما ينتظره من عذاب أخروي من جرّاء الانحراف...