اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَوَلَمۡ يَتَفَكَّرُواْۗ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٌ} (184)

قوله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ } .

يجوزُ في " ما " أوجه :

أحدها : أن تكون استفهامية في محلِّ رفع بالابتداء ، والخبرُ " بصَاحبهم " أي : أيُّ شيء استقرَّ بصاحبهم من الجُنُونِ ؟ ف : الجِنَّة : مصدرٌ يراد بها الهيئة ، ك : الرِّكْبَةِ ، والجلسة .

وقيل : المراد بالجِنَّة : الجِنُّ ، كقوله { مِنَ الجنة والناس } [ الناس : 6 ] ولا بدَّ حينئذٍ من حذف مضافٍ . أي : مَسِّ جنة ، أو تخبيط جنَّة .

والثاني : أنَّ " ما " نافية ، أي : ليس بصاحبهم جنون ، ولا مسُّ جِنّ . وفي هاتين الجملتين أعني الاستفهامية أو المنفية ، فيهما وجهان :

أظهرهما : أنَّهما في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافض ؛ لأنَّهُمَا علَّقا " التَّفكُّر " ؛ لأنَّهُ من أفعال القلوب .

والثاني : أنَّ الكلام تمَّ عند قوله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ } ، ثمَّ ابتدأ كلاماً آخر ، إمَّا استفهام إنكار ، وإمَّا نفياً .

وقال الحوفيُّ إنَّ " مَا بِصَاحبِهِم " معلقةٌ لفعلٍ محذوف ، دلَّ عليه الكلامُ ، والتقديرُ : أو لم يتفكروا فيعلمُوا ما بصاحبهم .

قال : و " تفكَّر " لا يعلَّقُ ؛ لأنَّهُ لم يدخل على جملة . وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أن فعل القَلْبِ المتعدِّي بحرف جرٍّ أو إلى واحد إذا عُلِّقَ هل يبقى على حاله أو يُضَمَّن ما يتعدَّى لاثنينِ ؟

الثالث : أن تكون " ما " موصولة بمعنى " الذي " ، تقديره : أو لم يتفكَّرُوا في الذي بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم ، وعلى قولنا : إنَّهَا نافيةٌ يكونُ " مِن جِنَّةٍ " مبتدأ ، ومِنْ مزيدةٌ فيه ، وبِصَاحِبِهم خبره ، أي : مَا جِنَّةٌ بِصَاحِبِهم .

فصل

دخول " مِنْ " في قوله من جنَّةٍ يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون .

قال الحسنُ وقتادةُ : إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قام ليلةً على الصَّفَا يدعو قريشاً فخذاً فخذاً ، يا بني فلان ، يا بني فلان ، يُحذرُهم بأسَ الله وعقابه .

فقال قَائِلُهُمْ : إنَّ صاحبكم هذا المجنون ، بات يُصوِّت إلى الصَّباحِ ، فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية{[17045]} .

وقيل : إنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام كان يَغْشَاهُ حالة عجيبة عند نزولِ الوحي فيتغيَّر وجهه ويصفر لونه ، وتعرض له حالة شبيهة بالغشي ، والجهال كانوا يقولون : إنَّهُ جُنُونٌ ، فبيَّنَ اللَّهُ تعالى في هذه الآية أنَّه ليس بمجنون إنَّمَا هُو نذير مبينٌ من ربِّ العالمين .


[17045]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/134-135) عن قتادة مرسلا. وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/273) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.