{ 56 - 60 } { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
يخبر تعالى عن جهل المشركين ، وظلمهم ، وافترائهم على الله الكذب ، وأنهم يجعلون لأصنامهم التي لا تعلم ولا تنفع ولا تضر ، نصيبا مما رزقهم الله وأنعم به عليهم ، فاستعانوا برزقه على الشرك به ، وتقربوا به إلى أصنام منحوتة ، كما قال تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ } ، الآية ، { لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } ، ويقال : { ءَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ، فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة .
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك جانبا من عقائدهم الباطلة، وأفعالهم القبيحة التى تمجها العقول السليمة، والأفكار القويمة، فقال - تعالى -: { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَ?للَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ... }.
وقوله - سبحانه - : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ . . . } ، معطوف على ما سبقه بحسب المعنى ، لتسجيل رذائلهم ، وتعداد جناياتهم . وضمير الجمع في قوله : { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } ، يصح أن يعود إلى الكفار ، كالذي قبله في : { ويجعلون } ، فيكون المعنى : إن هؤلاء المشركين يفعلون ما يفعلون ، من إشراكهم بالله - تعالى - ومن التضرع إليه عند الضر ونسيانه عند الرخاء . . ولا يكتفون بذلك ، بل ويجعلون للأصنام التي لا يعلمون منها ضرا ولا نفعا ، نصيبا مما رزقناهم من الحرث والأنعام وغيرهما .
ويصح أن يعود ضمير الجمع ، في قوله : { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } ، للأصنام ، فيكون المعنى : ويجعلون للأصنام التي لا تعلم شيئا ؛ لأنها جماد لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر . . يجعلون لها نصيبا مما رزقناهم .
قال الآلوسى : " قوله : { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } ، أي : لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها وأنها لا تضر ولا تنفع ، على أن " ما " موصولة ، والعائد محذوف ؛ وضمير الجمع للكفار ، أو لآلهتهم التي لا علم لها بشيء لأنها جماد . على أن " ما " موصوله - أيضا - عبارة عن الآلهة ، وضمير { يعلمون } عائد عليها ، ومفعول { يعلمون } متروك لقصد العموم ، وصيغة جمع العقلاء لوصفهم الآلهة بصفاتهم . . " .
وقال - سبحانه - { نصيبا } بالتنكير ، للايماء بأنه نصيب كبير وضعوه في غير موضعه ، ووصفه بأنه مما رزقهم - سبحانه - لتهويل جهلهم وظلمهم ، حيث تركوا التقرب إلى الرازق الحقيقي - جل وعلا - ، وتقربوا بجانب كبير مما رزقهم به - سبحانه - إلى جمادات لا تغني عنهم شيئا .
وما أجملته هذه الآية الكريمة عن جهالتهم ، فصلته آيات أخرى منها قوله - تعالى - في سورة الأنعام : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلى الله وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } ، وقوله - سبحانه - { تالله لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } تهديد ووعيد لهم على سوء أفعالهم . أي : أقسم بذاتي لتسألن - أيها المشركون - سؤال توبيخ وتأنيب في الآخرة ، عما كنتم تفترونه من أكاذيب في الدنيا ، ولأعاقبنكم العقاب الذي تستحقونه بسبب افترائكم وكفركم . وصدرت الجملة الكريمة بالقسم ؛ لتأكيد الوعيد ، ولبيان أن العقاب أمر محقق بالنسبة لهم ، وجاءت الجملة الكريمة بأسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، لأن توبيخ الحاضر أشد من توبيخ الغائب .
( ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم ) . فإذا هم يحرمون على أنفسهم بعض الأنعام . لا يركبونها أولا يذوقون لحومها . أو يبيحونها للذكور دون الإناث - كما أسلفنا في سورة الأنعام - باسم الآلهة المدعاة ؛ التي لا يعلمون عنها شيئا ، إنما هي أوهام موروثة من الجاهلية الأولى . والله هو الذي رزقهم هذه النعمة التي يجعلون لما لا يعلمون نصيبا منها ، فليست هي من رزق الآلهة المدعاة لهم ليردوها عليها ، إنما هي من رزق الله ، الذي يدعوهم إلى توحيده فيشركون به سواه ! .
وهكذا تبدو المفارقة في تصورهم وفي تصرفهم على السواء . . الرزق كله من الله . والله يأمر ألا يعبد سواه فهم يخالفون عن أمره فيتخذون الآلهة . وهم يأخذون من رزقه فيجعلونه لما نهاهم عنه ! وبهذا تتبدى المفارقة واضحة جاهرة عجيبة مستنكرة ! .
وما يزال أناس بعد أن جاءت عقيدة التوحيد وتقررت ، يجعلون نصيبا من رزق الله لهم موقوفا على ما يشبه آلهة الجاهلية . ما يزال بعضهم يطلق عجلا يسميه " عجل السيد البدوي " يأكل من حيث يشاء لا يمنعه أحد ، ولا ينتفع به أحد ، حتى يذبح على اسم السيد البدوي لا على اسم الله ! وما يزال بعضهم ينذرون للأولياء ذبائح يخرجونها من ذمتهم لا لله ، ولا باسم الله ، ولكن باسم ذلك الولي ، على ما كان أهل الجاهلية يجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقهم الله . وهو حرام نذره على هذا الوجه . حرام لحمه . ولو سمي اسم الله عليه . لأنه أهل لغير الله به ! .
( تالله لتسألن عما كنتم تفترون ) بالقسم والتوكيد الشديد . فهو افتراء يحطم العقيدة من أساسها لأنه يحطم فكرة التوحيد .
الضمير في قوله : { ويجعلون } ، للكفار ، وقوله : { لما لا يعلمون } ، يريد الأصنام ، ومعناه : لا يعلمون فيهم حجة ولا برهاناً ، ويحتمل أن يريد بقوله : { يعلمون } ، الأصنام ، أي : يجعلون لجمادات لا تعلم شيئاً { نصيباً } ، فالمفعول محذوف ، ثم عبر عنهم بعبارة من يعقل ، بحسب مذهب الكفار الذين يسندون إليها ما يسند إلى من يعقل ، وبحسب أنه إسناد منفي ، وهذا كله ضعيف ، و «النصيب » المشار إليه ، هو ما كانت العرب سنته من الذبح لأصنامها والإهداء إليها ، والقسم لها من الغلات ، ثم أمر الله تعالى نبيه عليه السلام ، أن يقسم لهم أنهم سيسألون على افترائهم ، في أن تلك السنن هي الحق الذي أمر الله به ، كما قال بعضهم ، و «الفرية » : اختلاق الكذب .
عطف حالة من أحوال كفرهم لها مساس بما أنعم الله عليهم من النّعمة ، فهي معطوفة على جملة { وما بكم من نعمة فمن الله } [ سورة النحل : 53 ] . ويجوز أن تكون حالاً من الضمير المجرور في قوله تعالى : و{ ما بكم من نعمة } على طريق الالتفات . ويجوز أن تكون معطوفة على { يشركون } من قوله تعالى : { إذا فريق منكم بربهم يشركون } [ سورة النحل : 54 ] .
وما حكي هنا هو من تفاريع دينهم الناشئة عن إشراكهم والتي هي من تفاريع كفران نعمة ربّهم ، إذ جعلوا في أموالهم حقاً للأصنام التي لم ترزقهم شيئاً . وقد مرّ ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } [ سورة النحل : 136 ] .
إلا أنه اقتصر هنا على ذكر ما جعلوه لشركائهم دون ما جعلوه لله لأن المقام هنا لتفصيل كفرانهم النّعمة ، بخلاف ما في سورة الأنعام فهو مقام تعداد أحوال جاهليتهم وإن كان كل ذلك منكَراً عليهم ، إلا أن بعض الكفر أشدّ من بعض .
والجعل : التصيير والوضع . تقول : جعلت لك في مالي كذا . وجيء هنا بصيغة المضارع للدّلالة على تجدّد ذلك منهم واستمراره ، بخلاف قوله تعالى : { وأقسموا بالله } [ سورة النحل : 38 ] بأنه حكاية قضية مضت من عنادهم وجدالهم في أمر البعث .
ومفعول { يعلمون } محذوف لظهوره ، وهو ضمير ( ما ) ، أي لا يعلمونه . ومثل حذف هذا الضمير كثير في الكلام .
وما صدق صلة { ما لا يعلمون } هو الأصنام ، وإنما عبّر عنها بهذه الصّلة زيادة في تفظيع سخافة آرائهم ، إذ يفرضون في أموالهم عطاءً يعطونه لأشياء لا يعلمون حقائقها بَلْه مبلغغِ ما ينالهم منها ، وتخيّلات يتخيّلونها ليست من الوجود ولا من الإدراك ولا من الصلاحية للانتفاع في شيء ، كما قال تعالى : { إن هي إلا أسماء سميّتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } . وضمير { تعلمون } [ سورة الحجر : 55 ] عائد إلى معاد ضمير { يجعلون } .
ووصف النصيب بأنه { مما رزقناهم } لتشنيع ظلمهم إذ تركوا المنعم فلم يتقرّبوا إليه بما يرضيه في أموالهم مما أمرهم بالإنفاق فيه كإعطاء المحتاج ، وأنفقوا ذلك في التقرّب إلى أشياء موهومة لم ترزقهم شيئاً .
ثم وجه الخطاب إليهم على طريقة الالتفات لقصد التهديد . ولا مانع من الالتفات هنا لعدم وجود فاء التفريع كما في قوله تعالى : { فتمتعوا } [ سورة النحل : 55 ] .
وتصدير جملة التهديد والوعيد بالقسم لتحقيقه ، إذ السؤال الموعود به يكون يوم البعث وهم ينكرونه فناسب أن يؤكّد .
والقسم بالتاء يختصّ بما يكون المقسم عليه أمراً عجيباً ومستغرباً ، كما تقدم في قوله تعالى : { قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض } في سورة يوسف ( 73 ) . وسيأتي في قوله تعالى : { وتالله لأكيدن أصنامكم } في سورة الأنبياء ( 57 ) . فالإتيان في القسم هنا بحرف التاء مؤذن بأنهم يسألون سؤالاً عجيباً بمقدار غرابة الجُرم المسؤول عنه .
والسؤال كناية عما يترتّب عليه من العقاب ، لأن عقاب العادل يكون في العرف عقب سؤال المجرم عمّا اقترفه إذ لعلّ له ما يدفع به عن نفسه ، فأجرى الله أمر الحساب يوم البعث على ذلك السَنن الشريف . والتعبير عنه { بكنتم تفترون } كناية عن استحقاقهم العقاب لأن الكذب على الله جريمة .
والإتيان بفعل الكون وبالمضارع للدّلالة على أن الافتراء كان من شأنهم ، وكان متجدداً ومستمراً منهم ، فهو أبلغ من أن يقال : عمّا تفترون ، وعمّا افتريتم .