قوله تعالى : { وإذا حضر القسمة } يعني : قسمة المواريث .
قوله تعالى : { أولو القربى } . الذين لا يرثون .
قوله تعالى : { واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } . أي : فارضخوا لهم من المال قبل القسمة .
قوله تعالى : { وقولوا لهم قولاً معروفاً } . اختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : هي منسوخة . وقال سعيد بن المسيب والضحاك : كانت هذه قبل آية الميراث فجعلت المواريث لأهلها ونسخت هذه الآية . وقال الآخرون : هي محكمة ، وهو قول ابن عباس والشعبي والنخعي والزهري . وقال مجاهد : هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم . وقال الحسن : كانوا يعطون التابوت ، والأواني ، ورث الثياب ، والمتاع ، والشيء الذي يستحيا من قسمته . وإن كان بعض الورثة طفلاً فقد اختلفوا فيه ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : إن كانت الورثة كباراً رضخوا لهم ، وإن كانت صغاراً اعتذروا إليهم ، فيقول الولي والوصي : إني لا أملك هذا المال إنما هو للصغار ، ولو كان لي منه شيء لأعطيتكم وإن يكبروا فسيعرفون حقوقكم ، هذا هو القول بالمعروف . وقال بعضهم : ذلك حق واجب في أموال الصغار والكبار ، فإن كانوا كباراً تولوا إعطاءهم ، وإن كانوا صغاراً أعطى وليهم . روى محمد بن سيرين أن عبيدة السلماني قسم أموال أيتام فأمر بشاة فذبحت فصنع طعاماً لأجل هذه الآية وقال : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي . وقال قتادة عن يحيى بن يعمر : ثلاث آيات محكمات مدنيات تركهن الناس ، هذه الآية ، وآية الاستئذان { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } الآية . وقوله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } الآية . وقال بعضهم : وهو أولى الأقاويل ، إن هذا على الندب والاستحباب لا على الحتم والإيجاب .
{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا }
وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة الجابرة للقلوب فقال : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } أي : قسمة المواريث { أُولُو الْقُرْبَى } أي : الأقارب غير الوارثين بقرينة قوله : { الْقِسْمَةَ } لأن الوارثين من المقسوم عليهم . { وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين } أي : المستحقون من الفقراء . { فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ } أي : أعطوهم ما تيسر من هذا المال الذي جاءكم بغير كد ولا تعب ، ولا عناء ولا نَصَب ، فإن نفوسهم متشوفة إليه ، وقلوبهم متطلعة ، فاجبروا خواطرهم بما لا يضركم وهو نافعهم .
ويؤخذ من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان ، ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسر ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا جاء أحدَكم خادمُه بطعامه فليجلسه معه ، فإن لم يجلسه معه ، فليناوله لقمة أو لقمتين " أو كما قال .
وكان الصحابة رضي الله عنهم -إذا بدأت باكورة أشجارهم- أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرَّك عليها ، ونظر إلى أصغر وليد عنده فأعطاه ذلك ، علما منه بشدة تشوفه لذلك ، وهذا كله مع إمكان الإعطاء ، فإن لم يمكن ذلك -لكونه حق سفهاء ، أو ثَم أهم من ذلك- فليقولوا لهم { قَولًا مَعْرُوفًا } يردوهم{[185]} ردًّا جميلا ، بقول حسن غير فاحش ولا قبيح .
ثم أمر الله تعالى عباده بالتعاطف والتراحم ، ولا سيما عند تقسيم الميراث ، وإعطاء كل ذى حق حقه فقال تعالى : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة . . . } .
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ( 8 )
والمراد بالقسمة : التركة التى تقسم بين الورثة .
والمراد بذوى القربى هنا - عند جمهور المفسرين - : الأقارب الذين لا ميراث لهم فى التركة .
والمراد باليتامى والمساكين ، الأجنب الذين لا قرابة بينهم وبين الورثة .
والمعنى : وإذا حضر قسمة التركة ذوو القربى ممن لا نصيب لهم فى الميراث ، واليتامى الذين فقدوا العائل والنصير ، والمساكين الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم وصاروا فى حاجة إلى العون والمساعدة { فارزقوهم مِّنْهُ } أى فأعطوهم من الميراث الذى تقتسمونه شيئا يعينهم على سد حاجتهم ، وتفريج ضائقتهم { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } أى قولوا لهم قولا جميلا يرضاه الشرع ، ويستحسنه العقل ، بأن تقولوا لهم - مثلا - : خذوا هذا الشئ بارك الله لكم فيه ، أو بأن تعتذروا لمن لم تعطوه شيئا . والآية الكريمة معطوفة على الآية السابقة عليها وهى قوله - تعالى - { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } الخ .
وليس المراد من حضور ذوى القربى واليتامى والمساكين أن يكونوا مشاهدين للقسمة ، جالسين مع الورثة ، لأن قسمة الأموال لا تكون عادة فى حضرة هؤلاء الضعفاء ، وإنما المراد من حضورهم العلم بهم من جانب الذين يقتسمون التركة ، والدراية بأحوالهم ، وأنهم فى حاجة إلى العون والمساعدة .
وقدم ذوى القربى على اليتامى والمساكين ، لأنهم أولى بالصدقة لقرابتهم ، ولأن إعطاءهم بجانب أنه صدقة ، فهو صلة للرحم التى أمر الله تعالى بصلتها . وقدم اليتامى على المساكين ؛ لأن ضعف اليتامى أكثر ، وحاجتهم أشد .
والضمير المجرور فى قوله { فارزقوهم مِّنْهُ } يعود إلى ما ترك الوالدان والأقربون . أو إلى القسمة بمعنى المقسوم باعتبار معناها لا باعتبار لفظها . أى ارزقوهم من هذا الميراث أو المال المقسوم .
والأمر فى قوله : { فارزقوهم } يرى بعض العلماء أنه للوجوب ، لأنه هو المستفاد من ظاهر الأمر ، وعليه فمن الواجب على الوارث الكبير وعلى ولى الصغير أن يعطيا لذوى القربى واليتامى والمساكين شيئا من المال تطيب به نفوسهم .
ومن أصحاب هذا الرأى من قال : إن من الواجب على الوارث الكبير أن يعطى هؤلاء المحتاجين شيئا من المال المقسوم . أما إذا كان الورثة صغارا فعلى الولى أن يعتذر لهؤلاء المحتاجين ، بأن يقول لهم : إنى لا أملك هذا المال المقسوم ، لأنه لهؤلاء الصغار وعندما يكبرون فسيعرفون لكم حقكم وهذا هو القول المعروف .
ويرى كثير من العلماء أن هذا الأمر بالإِعطاء للندب لا للوجوب ، وأن هذا الندب إنما يحصل إذا كان الورثة كبارا ، أما إذا كانوا صغارا فليس على أوليائهم إلا القول المعروف .
ومن حجج هؤلاء القائلين بأن هذا الأمر للندب والاستحباب : أنه لو كان لأولئك المحتاجين من ذوى القربى واليتامى والمساكين حق معين لبينه الله - تعالى - كما بين سائر الحقوق ، وحيث لم يبين علمنا أنه غير واجب .
وأيضا لو كان واجبا لتوفرت الدواعى على نقله ؛ لشدة حرص الفقراء والمساكين على تقديره ، ولو كان الأمر كذلك لثبت نقله إلينا ، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه غير واجب .
وقد رجح القرطبى كون الأمر للندب لا للوجوب فقال : والصحيح أن هذا على الندب ؛ لأنه لو كان فرضا لكان استحقاقاً فى التركة ومشاركة فى الميراث ، لأحد الجهتين معلوم ، وللآخر مجهول . وذلك مناقض للحكمة ، وسبب للتنازع والتقاطع .
ثم قال : وذهبت فرقة إلى أن المخاطب والمراد فى الآية المحتضرون الذين يقسمون أموالهم بالوصية لا الورثة . فإذا أراد المريض أن يفرض ماله بالوصايا وحضره من لا يرث ينبغى له ألا يحرمه ، وهذا - والله أعلم - يتنزل حيث كانت الوصية واجبة ، ولم تنزل آية الميراث . والصحيح الأول - وهو أن الآية فى قسمة التركة وأن المخاطبين بها هم المقتسمون للتركة - وعليه المعول .
هذا ، ومن العلماء من قال : إن هذه الآية قد نسخت بآية المواريث التى بعدها وهى قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } الخ .
وقد حكى هذا القول - أيضا - ورد عليه الإِمام القرطبى فقال ما ملخصه : بين الله - تعالى - فى هذه الآية أن من لم يستحق شيئا وحضر القسمة وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا إن كان المال كثيراً ؛ والاعتذار إليهم إن كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ - أى العطاء القليل - فالآية على هذا القول محكمة . قاله ابن عباس . وامتثل ذلك جماعة من التابعين : عروة بن الزبير وغيره . وأمر به أبو موسى الأشعرى .
وروى عن ابن عباس انها منسوخة قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } وممن قال إنها منسوخة : أبو مالك وعكرمة والضحاك .
والأول أصح ؛ فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم ، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم .
وفى البخارى عن ابن عباس أنه قال فى هذه الآية : هى محكمة وليست بمنسوخة .
وفى رواية قال : إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت ، لا والله ما نسخت ، ولكنها مما تهاون به الناس .
وقال عبد الرزاق أخبرنا بان جريج أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قسم ميراث أبيه عبد الرحمن ، وعائشة حية . فلم يدع فى الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه وتلا هذه الآية : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى } . . الخ .
والخلاصة ، أن الذى تطمئن إليه النفس هو قول من قال : إن الآية محكمة ولسيت بمنسوخة ، لأنه أثر عن بعض الصحابة والتابعين أنهم كانوا يفعلون ذلك ويأمرون به . ولأن الروايات القائلة بأنها منسوخة روايات مضطربة ، بخلاف الروايات القائلة بأنها محكمة فهى ثابتة فى صحيح البخارى ؛ ولأن الآية الكريمة لا تتعارض مع آية المواريث لأنها إنما تأمر بما يؤدى إلى التعاطف والتراحم بين الناس ، وهذا أمر لا ينسخ ، بل هو ثابت فى كل زمان ومكان .
ونرى كذلك أن الأمر فى قوله { فارزقوهم مِّنْهُ } على سبيل الندب والاستحباب ، لا على سبيل الفرض والإِيجاب - كما سبق أن بينا - .
ما لكم فئتين في شأن المنافقين . والله أوقعهم فيما هم فيه بسبب سوء نيتهم وسوء عملهم ؟ وهي شهادة من الله حاسمة في أمرهم . بأنهم واقعون في السوء بما أضمروا وبما عملوا من سوء .
( أتريدون أن تهدوا من أضل الله ؟ ) . .
ولعله كان في قول الفريق . . المتسامح ! ! . . ما يشير إلى إعطائهم فرصة ليهتدوا ، ويتركوا اللجلجة ! فاستنكر الله هذا في شأن قوم استحقوا أن يوقعهم الله في شر أعمالهم وسوء مكاسبهم .
ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا . .
فإنما يضل الله الضالين . أي يمد لهم في الضلالة حين يتجهون هم بجهدهم ونيتهم إلى الضلالة . وعندئذ تغلق في وجوههم سبل الهداية ؛ بما بعدوا عنها ، وسلكوا غير طريقها ؛ ونبذوا العون والهدى ، وتنكروا لمعالم الطريق !
وقوله : { وإذا حضر القسمة } الآية ، اختلف المتأولون فيمن خوطب بهذه الآية على قولين : أحدهما أنها مخاطبة للوارثين ، والمعنى : إذا حضر قسمتكم لمال موروثكم هذه الأصناف الثلاثة ، { فارزقوهم منه } ثم اختلف قائلوا هذا القول ، فقال سعيد بن المسيب وأبو مالك والضحاك وابن عباس فيما حكى عنه المهدوي : نسخ ذلك بآية المواريث . وكانت هذه قسمة قبل المواريث ، فأعطى الله بعد ذلك كل ذي حق حقه ، وجعلت الوصية للذين يحزنون ولا يرثون ، وقال ابن عباس والشعبي ومجاهد وابن جبير : ذلك محكم لم ينسخ ، وقال ابن جبير : وقد ضيع الناس هذه الآية ، قال الحسن : ولكن الناس شحوا ، وامتثل ذلك جماعة من التابعين ، عروة بن الزبير وغيره ، وأمر به أبو موسى الأشعري ، واختلف القائلون باحكامها ، فقالت فرقة : ذلك على جهة الفرض والوجوب أن يعطي الورثة لهذه الأصناف ما تفه وطابت به نفوسهم ، كالماعون والثوب الخلق ، وما خف كالتابوت ، وما تعذر قسمه ، وقال ابن جبير والحسن : ذلك على جهة الندب ، فمن تركه فلا حرج عليه ، واختلف في هذا القول إذا كان الوارث صغيراً لا يتصرف في ماله ، فقال سعيد بن جبير وغيره ، هذا على وجه المعروف فقط يقوله ولي الوارث دون عطاء ينفذ ، وقالت فرقة : بل يعطي ولي الوارث الصغير من مال محجوره بقدر ما يرى ، والقول الثاني فيمن خوطب بها : إن الخطاب للمحتضرين الذين يقسمون أموالهم بالوصية ، فالمعنى : إذا حضركم الموت أيها المؤمنون ، وقسمتم أموالكم بالوصية وحضركم من لا يرث من ذي القرابة واليتامى فارزقوهم منه قال ابن عباس وسعيد بن المسيب وابن زيد قال : كانوا يقولون للوصي : فلان يقسم ماله ، ومعنى «حضر » : شهد ، إلا أن الصفة بالضعف واليتم والمسكنة تقضي أن ذلك هو علة الرزق ، فحيث وجدت رزقوا وإن لم يحضروا القسمة ، و { أولو } : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ولا يكون إلا مضافاً للإبهام الذي فيه ، وربما كان واحده من غير لفظه :_ ذو_ ، واليتم : الانفراد واليتيم : الفرد ، وكذلك سمي من فقد أباه يتيماً لانفراده ، ورأى عبيدة ومحمد بن سيرين أن الرزق في هذه الآية ، أن يصنع لهم طعام يأكلونه ، وفعلا ذلك ، ذبحا شاة من التركة ، والضمير في قوله : { فارزقوهم } وفي قوله : { لهم } عائد على الأصناف الثلاثة ، وغير ذلك من تفريق عود الضميرين كما ذهب إليه الطبري تحكم - والقول المعروف : كل ما يؤنس به من دعاء أو عدة أو غير ذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا حضر القسمة}: يعني المواريث، فيها تقديم، وإذا حضر {أولوا القربى}: قرابة الميت، {واليتامى والمساكين} قسمة المواريث، {فارزقوهم منه}: فأعطوهم من الميراث، وإن قَلّ، وليس بموقت هذه قبل قسمة المواريث. {وقولوا لهم قولا معروفا}، يقول سبحانه: إن كانت الورثة صغارا فليقل أولياء الورثة لأهل هذه القسمة: إن بلغوا أمرناهم أن يدفعوا حقكم ويتبعوا وصية ربهم عز وجل، وإن ماتوا ورثناهم وأعطيناكم حقكم، فهذا القول المعروف، يعني العدة الحسنة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية، هل هو محكم، أو منسوخ؟ فقال بعضهم: هو محكم... هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم.
وقال آخرون: منسوخة... كانت هذه قبل الفرائض وقسمة الميراث، فلما كانت الفرائض والمواريث نسخت.
وقال آخرون: هي محكمة وليست بمنسوخة، غير أن معنى ذلك: وإذا حضر القسمة، يعني بها: قسمة الميت ماله بوصيته لمن كان يوصي له به. قالوا: وأمر بأن يجعل وصيته في ماله لمن سماه الله تعالى في هذه الآية...قال ابن زيد في قوله: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القرْبَى وَاليَتامَى وَالمَساكِينُ} قال: القسمة: الوصية، كان الرجل إذا أوصى قالوا: فلان يقسم ماله، فقال: ارزقوهم منه، يقول: أوصوا لهم، يقول للذي يوصي: {وَقُولُوا لَهُمْ قَولاً مَعْرُوفا} فإن لم توصوا لهم، فقولوا لهم خيرا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال: هذه الآية محكمة غير منسوخة، وإنما عنى بها: الوصية لأولي قربى الموصي، وعنى باليتامى والمساكين أن يقال لهم قول معروف.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة من غيره لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره، أن شيئا من أحكام الله تبارك وتعالى التي أثبتها في كتابه أو بينها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم غير جائز فيه أن يقال له ناسخ لحكم آخر، أو منسوخ بحكم آخر، إلا والحكمان اللذان قضى لأحدهما بأنه ناسخ، والآخر بأنه منسوخ ناف كل واحد منهما صاحبه، غير جائز اجتماع الحكم بهما في وقت واحد بوجه من الوجوه، وإن كان جائزا صرفه إلى غير النسخ، أو يقوم بأن أحدهما ناسخ والاَخر منسوخ، حجة يجب التسليم لها. وإذ كان ذلك كذلك لما قد دللنا في غير موضع، وكان قوله تعالى ذكره: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولوا القُرْبَى وَاليَتامَى وَالمَساكِينُ فارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} محتملاً أن يكون مرادا به: وإذا حضر قسمة مال قاسم ماله بوصية، أولو قرابته واليتامى والمساكين، فارزقوهم منه، يراد: فأوصوا لأولي قرابتكم الذين لا يرثونكم منه، وقولوا لليتامى والمساكين قولاً معروفا، كما قال في موضع آخر: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِين بالمَعْرُوفِ حَقّا على المُتّقِينَ} ولا يكون منسوخا بآية الميراث لم يكن لأحد صرفه إلى أنه منسوخ بآية الميراث، إذ كان لا دلالة على أنه منسوخ بها من كتاب أو سنة ثابتة، وهو محتمل من التأويل ما بينا. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل قوله: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ} قسمة الموصي ماله بالوصية أولو قرابته واليتامى والمساكين، فارزقوهم منه، يقول: فاقسموا لهم منه بالوصية، يعني: فأوصوا لأولي القربى من أموالكم، وقولوا لهم، يعني الاَخرين وهم اليتامى والمساكين، قولاً معروفا، يعني: يدعى لهم بخير، كما قال ابن عباس وسائر من ذكرنا قوله قبل. وأما الذين قالوا: إن الآية منسوخة بآية المواريث، والذين قالوا: هي محكمة والمأمور بها ورثة الميت، فإنهم وجهوا قوله: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَاليَتامَى وَالمَساكِينُ فارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} يقول: فأعطوهم منه، وقولوا لهم قولاً معروفا. عن حطان: أن أبا موسى أمر أن يعطوا إذا حضر قسمة الميراث أولو القربى واليتامى والمساكين والجيران من الفقراء.
ثم اختلف الذين قالوا: هذه الآية محكمة، وإن القسمة لأولي القربى واليتامى والمساكين واجبة على أهل الميراث إن كان بعض أهل الميراث صغيرا فقسم عليه الميراث وليّ ماله. فقال بعضهم: ليس لوليّ ماله أن يقسم من ماله ووصيته شيئا، لأنه لا يملك من المال شيئا، ولكنه يقول لهم قولاً معروفا. قالوا: والذي أمره الله بأن يقول لهم معروفا هو وليّ مال اليتيم إذا قسم مال اليتيم بينه وبين شركاء اليتيم، إلا أن يكون وليّ ماله أحد الورثة، فيعطيهم من نصيبه ويعطيهم من يجوز أمره في ماله من أنصبائهم. قالوا: فأما من مال الصغير الذي يولي على ماله لا يجوز لوليّ أن يعطيهم منه شيئا.
وقال آخرون منهم: ذلك واجب في أموال الصغار والكبار لأولي القربى واليتامى والمساكين، فإن كان الورثة كبارا، تولوا عند القسمة إعطاءهم ذلك، وإن كانوا صغارا تولى إعطاء ذلك منهم وليّ مالهم... فكأن من ذهب من القائلين القول الذي ذكرناه [لمن] قال: يرضخ عند قسمة الميراث لأولي القربى واليتامى والمساكين تأوّل قوله: {فارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}: فأعطوهم منه. وكأن الذين ذهبوا إلى [قول الذين] تأوّلوا قوله: {فارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}: فأطعموهم منه.
واختلفوا في تأويل قوله: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفا}؛ فقال بعضهم: هو أمر من الله تعالى ذكره ولاة اليتامى أن يقولوا لأولي قرابتهم ولليتامى والمساكين إذا حضروا قسمتهم مال من ولوا عليه ماله من الأموال بينهم وبين شركائهم من الورثة فيها أن يعتذروا إليهم.
وقال آخرون: بل المأمور بالقول المعروف الذي أمر جلّ ثناؤه أن يقال له هو الرجل الذي يوصي في ماله، والقول المعروف هو الدعاء لهم بالرزق والغنى وما أشبه ذلك من قول الخير.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَإِذَا حَضَرَ القسمة} أي قسمة التركة {أُوْلُواْ القربى} ممن لا يرث {فارزقوهم مّنْهُ} الضمير لما ترك الوالدان والأقربون، وهو أمر على الندب قال الحسن: كان المؤمنون يفعلون ذلك، إذا اجتمعت الورثة حضرهم هؤلاء فرضخوا لهم بالشيء من رثة المتاع. فحضهم الله على ذلك تأديباً من غير أن يكون فريضة. قالوا: ولو كان فريضة لضرب له حدّ ومقدار كما لغيره من الحقوق، وروى أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه قسم ميراث أبيه وعائشة رضي الله عنها حية؟ فلم يدع في الدار أحداً إلا أعطاه، وتلا هذه الآية. وقيل: هو على الوجوب. وقيل: هو منسوخ بآيات الميراث كالوصية. وعن سعيد بن جبير: أن ناساً يقولون نسخت، ووالله ما نسخت، ولكنها مما تهاونت به الناس. والقول المعروف أن يلطفوا لهم القول ويقولوا: خذوا بارك الله عليكم، ويعتذروا إليهم، ويستقلوا ما أعطوهم ولا يستكثروه، ولا يمنوا عليهم. وعن الحسن والنخعي: أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات والمساكين واليتامى من العين، يعنيان الورق والذهب. فإذا قسم الورق والذهب وصارت القسمة إلى الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك، قالوا لهم قولاً معروفاً، كانوا يقولون لهم: بورك فيكم.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَالْمَعْنَى فِيهَا: الْإِرْضَاخُ لِلْقَرَابَةِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ إذَا كَانَ الْمَالُ وَافِرًا، وَالِاعْتِذَارُ إلَيْهِمْ إنْ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا، وَيَكُونُ هَذَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ بَيَانًا لِتَخْصِيصِ قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} وَأَنَّهُ فِي بَعْضِ الْوَرَثَةِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ؛ فَيَكُونُ تَخْصِيصًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ يَتَعَيَّنُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ.
وَهَذَا تَرْتِيبٌ بَدِيعٌ؛ لِأَنَّهُ عُمُومٌ ثُمَّ تَخْصِيصٌ ثُمَّ تَعْيِينٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَازِلَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ، يُوصِي الْمَيِّتُ لِهَؤُلَاءِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي نَقْلِ الْوَصِيَّةِ لَا مَعْنًى لَهَا.
وَأَكْثَرُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ أَضْغَاثٌ وَآثَارٌ ضِعَافٌ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ اسْتِحْقَاقَ الْوَرَثَةِ لِنَصِيبِهِمْ، وَاسْتِحْبَابَ الْمُشَارَكَةِ لِمَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ مِنْهُمْ بِأَنْ يُسْهِمَ لَهُمْ مِنْ التَّرِكَةِ وَيَذْكُرَ لَهُمْ مِنْ الْقَوْلِ مَا يُؤْنِسُهُمْ وَتَطِيبُ بِهِ نُفُوسُهُمْ.
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقًا فِي التَّرِكَةِ وَمُشَارَكَةً فِي الْمِيرَاثِ لِأَحَدِ الْجِهَتَيْنِ مَعْلُومٌ وَلِلْآخَرِ مَجْهُولٌ؛ وَذَلِكَ مُنَاقِضٌ لِلْحِكْمَةِ وَإِفْسَادٌ لِوَجْهِ التَّكْلِيفِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الصِّلَةُ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا يَسْتَحِقُّونَهُ لَتَنَازَعُوا مُنَازَعَةَ الْقَطِيعَةِ.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
إذا حضر قسمة التركة التي يتركها المورث لورثته أو قسمة أموال اليتامى عند الرشد أو الوصية أحد من ذوي القربى للوارثين أو الموصى لهم ومن اليتامى والمساكين فانفحوهم بشيء من هذا الرزق الذي أصابكم من غير كد ولا كدح، وقولوا لهم قولا حسنا تعرفه النفوس الأبية وتستحسنه ولا تنكره الأذواق السليمة ولا تمجه، والمراد بذوي القربى الذين يحضرون قسمة الورثة من لا يرث منهم، وقريب الوارث لا يجب أن يكون وارثا؛ فالأخ من الأب من ذوي القربى لأخ الميت الشقيق وهو لا يرث وكذلك العم والخال والعمة والخالة يعدون من ذوي القربى للوارث الذي لا يرثون معه وقد يسري إلى نفوسهم الحسد فينبغي التودد إليهم واستمالتهم بإعطائهم شيئا من ذلك الموروث بحسب ما يليق بهم ولو بصفة الهبة أو الهدية أو إعداد طعام لهم يوم القسمة، وذلك من صلة الرحم، وشكر النعم، ووجه إعطاء اليتامى والمساكين ظاهر.
الخطاب في قوله "فارزقوهم "لأرباب المال الذين يقسم عليهم وإذا كانت القسمة بين اليتامى الذين رشدوا كان للولي أن يعظهم ويرشدهم إلى ما ينبغي في هذه الحال وليس له أن يعطي شيئا من غير ماله إلا بإذنه أرباب المال. والأدب الذي يرشد إليه الكتاب في هذا المقام اعتبار أن هذا المال رزق ساقه الله إلى الوارثين عفوا بغير كسب منهم ولا سعي فلا ينبغي أن يبخلوا به على المحتاجين من ذوي القربى واليتامى والمساكين من أمتهم ويتركوهم يذهبون منكسري القلب مضطربي النفس، ومنهم من يكون الحرمان مدعاة حسده للوارث. وأما قول المعروف فهو ما تطيب به نفوسهم هؤلاء المحتاجين عندما يأخذون ما يفاض عليهم حتى لا يثقل على عزيز النفس منهم ما يأخذه ويرضى الطامع في أكثر مما أعطى بما أعطى، فإن من الفقراء من يظهر استقلال ما ناله واستكثار ما نال سواه فينبغي أن يلاطف مثل هذا ولا يغلظ له في القول.
قال: والحكمة في الأمر بقول المعروف أن من عادة الناس أن يتضايقوا ويتبرموا من حضور ذوي القربى (وغيرهم) مجلسهم في هذه الحالة، أي كما أن ذوي القربى يحبون أن يحضروا ويعرفوا ما نال ذوي قرباهم، ومن كان كارها لشيء تظهر كراهته له في فلتات لسانه فعلمنا الله تعالى هذا الأدب في الحديث لنهذب به هذه السجية التي تعد من ضعف الإنسان المشار إليه في مثل قوله تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعا) [المعارج:19] الآيات.
قال: ذهب بعض المفسرين إلى أن الأمر بقوله "فارزقوهم" للندب وقالوا إنه لو كان واجبا لحدد وقدر كما حددت المواريث، وليس هذا بدليل فقد يجب العطاء ويوكل الأمر في المقدار إلى المعطي. وقال سعيد بن جبير إنه للوجوب وهجره الناس كما هجروا العمل بآية الاستئذان عند دخول البيوت، وهذا هو القول المختار. والقول بأنه ندب أو منسوخ من تفسير القرآن بالرأي وهو أن يختار الإنسان لنفسه رأيا ومهبا ويحاول جر القرآن إليه وتحويله إلى موافقته بإخراج الألفاظ عن ظواهر معانيها المتبادرة منها، وإن من رحمة الله تعالى بنا أن فوض أمر مقدار ما نعطيه إلينا وجعله مما يتفاضل فيه الأسخياء.
أقول: والظاهر ما قال الحسن والنخعي أن ما أمرنا أن نرزقهم منه عند القسمة هو الأعيان المنقولة وأما الأرض والرقيق وما أشبه ذلك فلا يجب أن يرضخ منه بشيء بل يكتفي حينئذ بقول المعروف، أو بإطعام الطعام كما هو رأي بعض المفسرين في الرزق هنا وسيأتي.
وأما القول بأن الآية منسوخة فهو مروي عن سعيد بن المسيب والضحاك قالا نسختها آية المواريث كما رواه ابن جرير وكذا عن ابن عباس في أضعف الروايتين والرواية الثانية أنها محكمة وهي عليها الجمهور ومنهم إبراهيم النخعي والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن والزهري وغيرهم واختارها ابن جرير وصرح مجاهد بأنها واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم حقا واجبا عليهم. وروى ابن جرير عن قتادة عن يحيى بن يعمر قال. ثلاث آيات محكمات مدنيات تركهن الناس، هذه الآية وآية الاستئذان (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) [النور: 58] وهذه الآية (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) [الحجرات: 13] اه وخصها بعض من قال إنها محكمة غير منسوخة بقسمة الوصية لأولي قربى الموصى وذلك أن هؤلاء فهموا كما فهم من قال بالنسخ أن أولي القربى هم الوارثون فلا معنى للأمر برزقهم من التركة، فقال بعضهم بنسخ هذا الأمر بآية المواريث وبعضهم خصه بقسمة الوصية. وقد علمت مما قدمناه أنه يشمل قسمة التركة الموروثة وقسمة أموال اليتامى عند رشدهم وقسمة الوصايا، وهي في التركة أظهر لاتصال الآية بما قبلها، وهو فيما ترك الوالدان والأقربون.
قال ابن جرير: ثم اختلف الذين قالوا هذه الآية محكمة وأن القسمة- أي الرزق والعطاء- لأولي القربى واليتامى والمساكين واجبة على أهل الميراث إن كان بعض أهل الميراث صغيرا وقسم عليه الميراث ولي ماله، فقال بعضهم: ليس لولي ماله أن يقسم من ماله ووصيته شيئا لأنه لا يملك من المال شيئا ولكنه يقول لهم قولا معروفا. قالوا: والذي أمره الله بأن يقول لهم قولا معروفا هو ولي مال اليتيم إذا قسم مال اليتيم بينه وبين شركاء اليتيم إلا أن يكون ولي ماله أحد الورثة فيعطيهم من نصيبه؛ ويعطيهم من يجوز أمره في ماله من أنصبائهم، قالوا: فأما من مال الصغير فالذي يولى عليه ماله لا يجوز لولي ماله أن يعطيهم منه شيئا. اه وساق الروايات في ذلك عن الحسن وسعيد بن جبير والسدي وكذا عن ابن عباس، ثم قال: وقال آخرون منهم: ذلك واجب في أموال الصغار والكبار لأولي القربى واليتامى والمساكين، فإن كان الورثة كبارا تولوا عند القسمة وإعطاءهم ذلك وإن كانوا صغارا تولى ذلك ولي مالهم اه وأورد الروايات في ذلك عن محمد بن عبيدة ومحمد بن سيرين ولكنهما تأولا الرزق بإطعام الطعام فكانا عند القسمة يأمران بذبح شاة وصنع طعام لمن حضر القسمة ممن ذكر. وروي عن الحسن أنهم كانوا يحضرون فيعطون الشيء والثوب الخلق.
وجملة القول أن أكثر من روي عنه شيء في الآية من السلف أوجبوا رزق من حضر قسمة الميراث والوصية ممن ذكرتهم الآية عملا بظاهر الأمر وهو يعم كل ما قيل ولكن بعضهم قال إنما يرزقون من مال الكبير وبعضهم قال لا فرق بين كبير وصغير.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة الجابرة للقلوب فقال: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} أي: قسمة المواريث {أُولُو الْقُرْبَى} أي: الأقارب غير الوارثين بقرينة قوله: {الْقِسْمَةَ} لأن الوارثين من المقسوم عليهم. {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين} أي: المستحقون من الفقراء. {فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} أي: أعطوهم ما تيسر من هذا المال الذي جاءكم بغير كد ولا تعب، ولا عناء ولا نَصَب، فإن نفوسهم متشوفة إليه، وقلوبهم متطلعة، فاجبروا خواطرهم بما لا يضركم وهو نافعهم.
ويؤخذ من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان، ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا جاء أحدَكم خادمُه بطعامه فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين" أو كما قال.
وكان الصحابة رضي الله عنهم -إذا بدأت باكورة أشجارهم- أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرَّك عليها، ونظر إلى أصغر وليد عنده فأعطاه ذلك، علما منه بشدة تشوفه لذلك، وهذا كله مع إمكان الإعطاء، فإن لم يمكن ذلك -لكونه حق سفهاء، أو ثَم أهم من ذلك- فليقولوا لهم {قَولًا مَعْرُوفًا} يردوهم ردًّا جميلا، بقول حسن غير فاحش ولا قبيح.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولما كان نظام التوريث -كما سيجيئ- يحجب فيه بعض ذوي القربى بعضا، فيوجد ذوو قرابة، ولكنهم لا يرثون، لأن من هم أقرب منهم سبقوهم فحجبوهم، فإن السياق يقرر للمحجوبين حقا لا يحدده -إذا هم حضروا القسمة- تطييبا لخاطرهم، كي لا يروا المال يفرق وهم محرومون، واحتفاظا بالروابط العائلية، والمودات القلبية. كذلك يقرر لليتامى والمساكين مثل هذا الحق تمشيا مع قاعدة التكافل العام:
(وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين، فارزقوهم منه، وقولوا لهم قولا معروفا)..
وقد وردت في هذه الآية روايات شتى عن السلف. ما بين قولهم إنها منسوخة، نسختها آيات الميراث المحددة للأنصبة، وقولهم: إنها محكمة. وما بين قولهم: إن مدلولها واجب مفروض، وقولهم: إنه مستحب ما طابت به أنفس الورثة.. ونحن لا نرى فيها دليلا للنسخ، ونرى أنها محكمة وواجبة. في مثل هذه الحالات التي ذكرنا. معتمدين على إطلاق النص من جهة، وعلى الاتجاه الإسلامي العام في التكافل من جهة أخرى.. وهي شيء آخر غير أنصبة الورثة المحددة في الآيات التالية على كل حال.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا النص الكريم ورد في الأقارب الذين لا ميراث لهم كما قال أكثر المفسرين، ولكن القارئ للنص يرى أنه أوسع شمولا؛ لأنه يشمل المساكين واليتامى بإطلاق، وإن لم يكونوا أولى قربى، والمساكين هم الفقراء الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم، وليس المراد من حضورهم أن يكونوا مشاهدين للقسمة؛ لأن قسمة الأموال لا تكون عادة في حضرة هؤلاء الضعفاء، وإنما المراد العلم بهم من مقسمي التركة علم حضور ومعاينة، ومعنى الرزق إعطاؤهم مالا ينفقون منه، ويسدون منه حاجاتهم بحيث لا يكونون أثرياء. والأمر في قوله تعالى: {فارزقوهم}. قال بعض التابعين: إنه للندب، فعلى الورثة أن يرضخوا مقدارا من المال ندبا، وحجة هؤلاء في أن الطلب للندب أنه غير مقدر، والفرض الذي يكون لازما من المال لا بد أن يكون مقدرا، وقد كان الصحابة يفعلون ذلك...
وإن الذين قرروا أن الأمر للوجوب قصروا العطاء على النقود وما يشبهها كالقمح ونحوه دون العقار، وقد روى ان الحسن والنخعي قالا: [أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات واليتامى والمساكين من العين أي الذهب والفضة، فإذا قسم الذهب والفضة وصارت القسمة إلى الأرضين والرقيق – قالوا لهم قولا معروفا].
وقد قرر من الفقهاء وجوب العطاء الظاهرية، فقالوا يجب إعطاء هؤلاء من التركة مقدارا يتناسب مع حال الورثة وحال هؤلاء ومقدار التركة، ويقدره القضاء.
والقول المعروف مطلوب: وهو القول الذي لا يخدش الكرامة، وليس فيه منة العطاء.