اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا حَضَرَ ٱلۡقِسۡمَةَ أُوْلُواْ ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينُ فَٱرۡزُقُوهُم مِّنۡهُ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (8)

اختلفوا في المُرَادِ بهذه القسمة على ثَلاثَةِ أقوال :

القول الأوَّلُ : أن المُرَادَ بها في قسمة الميراث ، واختلفَ القائلون بهذا القول ، هل المرادُ به لوجوبُ أو النَّدْبُ ؟ فالقائلون بالوُجُوبِ اختلفوا ، فقال سعيدُ بْنُ المُسَيَّبِ والضَّحاك : كانت هذه قَبْلَ آية المواريث ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيةُ المواريث جعلت المواريثُ لأهْلَها ونسخت هذه الآية{[6704]} ، وقال ابنُ عَبَّاسٍ والشَّعْبِيُّ والنَّخَعِيُّ والزُّهْرِيُّ : وهي محكمة{[6705]} .

قل مُجَاهِدٌ : وهي واجبةٌ على أهل الميراثِ ما طالت به{[6706]} أنفسهم .

قال الحَسَنُ{[6707]} : كانوا يُعْطون التابوت والأواني ورثّ الثياب والمتاع والشيء الذي يُسْتَحْيَا من قسمته ، وإن كان بَعْضُ الوَرَثَة صغاراً فقد اختلفوا فيه ، قل ابن عبَّاسٍ وغيره{[6708]} : إن كانت الورثة كباراً رضخوا لهم ، وإن كانت الوَرَثَةِ صغاراً اعتذروا إليهم ، فَيَقُولُ الولي : إني لا أملك هذا المال إنَّمَا هو الصغار ، ولو كان لي منه شيء لأعطيتكم .

وقال بعضهم{[6709]} : ذلك حقٌّ واجب في أموال الصغار والكبار ، فإن كانُوا كِبَاراً تَوَلوا إعطاءَهم وإن كانوا صِغاراً أعطى وليهم ، وروى محمَّدُ بْنُ سِيرينَ أنَّ عبيدة السَّلْمَانِي قسم أموال أيتام ، وأمر بشاة فذبحت فصنع لهم طعاماً لأجل هذه الآية ، وقال : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي{[6710]} .

وقَالَ قَتَادَةُ عن يحيى بن معمر : ثلاث آياتٍ محكمات مذنيات تركهن النَّاسُ{[6711]} ، هذه الآية ، وآية الاستئذان { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }

[ النور : 58 ] وقوله : { يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى }{[6712]} [ الحجرات : 13 ] .

وقال آخرون : ذلك على سبيل النَّدْبِ إذا كان الورثة كباراً ، فإن كَانُوا صغاراً فليس إلاَّ القول المعروف ، وهذا هو الَّذي عليه فقهاءُ الأمصار لأنَّه لو كان لهم حَقٌّ معين لبينه اللَّهُ - تعالى - كسائر الحقوق ، ولو كان واجباً لتوفّرت الدَّواعي على نقله لشدَّة حرص الفقراء والمساكين على تقريره ، ولو كان كَذَلِكَ لنقل على سبيل التَّوَاتُرِ .

القول الثَّاني : أنَّ المراد بالقسمة الوصيَّة فَإذَا [ حضرها من لا يرث ]{[6713]} من الأقرباء اليتامى والمساكين أمر اللَّه تعالى الوصيّ أن يجعل لهم نصيباً من تلك الوصية ويقول لهم مع ذلك قولاً معروفاً .

القول الثالث : أنَّ قوله : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى } بَيَّن الذين يرثون والمراد من اليتامى والمساكين أي : الذين لا يرثون ثم قال : { فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ } أنَّهُ راجع إلى أولي القربى الذين يرثون . [ وقوله : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } راجع إلى اليتامى والمساكين الذين لا يرثون ]{[6714]} . وهذا القَوْلُ محكيٌّ عن سعيد بن جُبَيْرٍ{[6715]} ، وقدم اليتامى على المساكين ، لأنَّ ضعفهم أكثرُ وحاجتهم أشَدُّ فكان وضع الصدقات أفضل وأعظم في الأجر .

قوله : { فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ } .

في هذا الضمير ثَلاَثَةُ أوْجهٍ :

أحدها : أنه يعود على المال ، لأنَّ القسمة تَدُلُّ عليه بطريق الالتزام .

الثَّانِي : أنَّهُ يعود على " ما " في قوله : { مِّمَّا تَرَكَ } .

الثَّالِثُ : أنَّهُ يعود على نفس القِسْمَةِ ، وإن كان مذكراً مراعاة للمعنى إذ المراد بالقسمة الشيء المقسوم ، وهذا على رأي من يرى ذلك ، وَأمَّا مَنْ يقول : القسمة من الاقتسام كالخبرة من الاختبار أو بمعنى القَسَم فلا يتأتى ذلك .


[6704]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/9) عن سعيد بن المسيب والضحاك وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/219) عن سعيد بن المسيب وزاد نسبته لعبد الرزاق وأبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والبيهقي.
[6705]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/7 ـ 8) عن ابن عباس والشعبي وسعيد بن جبير والحسن والزهري. وأخرجه البخاري (4/56) كتاب الوصايا باب قوله تعالى وإذا حضر القسمة رقم (2759) والبيهقي في "سننه" (6/266) عن ابن عباس بلفظ: إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت.... وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/218) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
[6706]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/7) عن مجاهد.
[6707]:ينظر: تفسير البغوي 1/397.
[6708]:ينظر: تفسير البغوي 1/397.
[6709]:ينظر: تفسير البغوي 1/397.
[6710]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/17).
[6711]:في أ: نزلت للناس.
[6712]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/9) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/218) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن المنذر.
[6713]:سقط في أ.
[6714]:سقط في ب.
[6715]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/18) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/219) بمعناه وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير عن سعيد بن جبير.