فقال للهدهد { اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم } قرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة : ساكنة الهاء ، ويختلسها أبو جعفر ، ويعقوب ، وقالون كسراً ، والآخرون بالإشباع كسراً ، { ثم تول عنهم } تنح عنهم فكن قريباً منهم ، { فانظر ماذا يرجعون } يردون من الجواب . وقال ابن زيد : في الآية تقديم وتأخير مجازها : اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ، ثم تول عنهم ، أي : انصرف إلي ، فأخذ الهدهد الكتاب فأتى به إلى بلقيس ، وكانت بأرض يقال لها مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام ، فوفاها في قصرها وقد غلقت الأبواب ، وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها ، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها ، فألقى الكتاب على نحرها ، هذا قول قتادة . وقال مقاتل : حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه ، حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها . وقال ابن منبه ، وابن زيد : كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع ، فإذا استبطأت إليها سجدت لها ، فجاء الهدهد الكوة فسدها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم ، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر ، فرمى بالصحيفة إليها ، فأخذت بلقيس الكتاب ، وكانت قارئة ، فلما رأت الخاتم أرتعدت وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه ، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب إليها أعظم ملكاً منها ، فقرأت الكتاب ، وتأخر الهدهد غير بعيد ، فجاءت حتى قعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها ، وهم اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد مائة ألف مقاتل . وعن ابن عباس قال : كان مع بلقيس مائة ألف قيل ، كان مع كل مائة ألف ، والقيل الملك دون الملك الأعظم ، وقال قتادة ومقاتل : كان أهل مشورتها ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً كل رجل منهم على عشرة آلاف ، قال : فجاؤوا وأخذوا مجالسهم .
وقال مثبتا لكمال عقله ورزانته { سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا } وسيأتي نصه { فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } أي استأخر غير بعيد { فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } إليك وما يتراجعون به
فذهب به فألقاه عليها فقالت لقومها { إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } أي جليل المقدار من أكبر ملوك الأرض
ثم بينت مضمونه فقالت { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } أي : لا تكونوا فوقي بل اخضعوا تحت سلطاني ، وانقادوا لأوامري وأقبلوا إلي مسلمين .
وهذا في غاية الوجازة مع البيان التام فإنه تضمن نهيهم عن العلو عليه ، والبقاء على حالهم التي هم عليها والانقياد لأمره والدخول تحت طاعته ، ومجيئهم إليه ودعوتهم إلى الإسلام ، وفيه استحباب ابتداء الكتب بالبسملة كاملة وتقديم الاسم في أول عنوان الكتاب ،
وقوله - تعالى - : { اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ } بيان لما أمر به سليمان - عليه السلام - الهدهد ، بعد أن قال له : سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين .
أى : خذ - أيها الهدهد - كتابى هذا . فاذهب به إلى هؤلاء القوم من أهل سبأ ، { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } أى : ثم انصرف عنهم إلى مكان قريب منهم { فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ } أى : فتأمل ماذا يقول بعضهم لبعض ، وبماذا يراجع بعضهم بعضاً ، ثم أخبرنى بذلك .
قال ابن كثير : وذلك أن سليمان - عليه السلام - كتب كتاباً إلى بلقيس وقومها ، وأعطاه لذلك الهدهد فحمله . . . وذهب به إلى بلادهم ، فجاء فى قصر بقليس . إلى الخلوة التى كانت تختلى فيها بنفسها ، فألقاه إليها من كوة هنالك بين يديها . ثم تولى ناحية أدبا ، فتحريت مما رأت . وهالها ذلك ، ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته ، ففتحت ختمه وقرأته . . " .
وقال صاحب الكشاف : " فإن قلت : لم قال : فألقه إليهم . على لفظ الجمع ؟ قلت : لأنه قال : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ } فقال : فألقهِ إلى الذين هذا دينهم ، اهتماماً منه بأمر الدين ، واشتغالاً به عن غيره . وبنى الخطاب فى الكتاب على لفظ الجمع لذلك " .
ولا يتسرع سليمان في تصديقه أو تكذيبه ؛ ولا يستخفه النبأ العظيم الذي جاءه به . إنما يأخذ في تجربته ، للتأكد من صحته . شأن النبي العادل والملك الحازم :
( قال : سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين . اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ، ثم تول عنهم ، فانظر ماذا يرجعون ) .
ولا يعلن في هذا الموقف فحوى الكتاب ، فيظل ما فيه مغلقا كالكتاب نفسه ، حتى يفتح ويعلن هناك . وتعرض المفاجأة الفنية في موعدها المناسب !
الجملة مبيِّنة لجملة { سننظر أصدقت أم كنتَ من الكاذبين } [ النمل : 27 ] لأن فيما سينكشف بعد توجيه كتابه إلى ملكة سبأ ما يصدق خبر الهدهد إن جاء من الملكة جواب عن كتابه ، أو يكذب خبر الهدهد إن لم يجىء منها جواب . ألهم الله سليمان بحكمته أن يجعل لاتصاله ببلاد اليمن طريقَ المراسلة لإدخال المملكة في حيّز نفوذه والانتفاع باجتلاب خيراتها وجعلها طريق تجارة مع شرق مملكته فكتب إلى ملكة سبأ كتاباً لتأتيَ إليه وتدخلَ تحت طاعته وتُصلح ديانة قومها ، وليعلَم أن الله ألقى في نفوس الملوك المعاصرين له رهبةً من ملكه وجلباً لمرضاته لأن الله أيّده وإن كانت مملكته أصغر من ممالك جيرانه مثل مملكة اليمن ومملكة مصر . وكانت مملكة سليمان يومئذ محدودة بالأُردن وتخوم مصر وبحر الروم . ولم يزل تبادل الرسائل بين الملوك من سنة الدول ومن سنة الدعاة إلى الخير . وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر . وقَد عظُم شأن الكتابة في دول الإسلام ، قال الحريري في « المقامة الثانية والعشرين » : « والمنشىءُ جهنية الأخبار ، وحقيبة الأسرار ، وقلمه لسان الدولة ، وفارس الجَولة . . . » إلخ .
واتخذ للمراسلة وسيلة الطير الزاجل من حَمام ونحوه ، فالهدهد من فصيلة الحَمام وهو قابل للتدجين ، فقوله : { اذهب بكتابي هذا } يقتضي كلاماً محذوفاً وهو أن سليمان فكر في الاتصال بين مملكته وبين مملكة سبأ فأحضر كتاباً وحمَّله الهدهد .
وتقدم القول على ( ماذا ) عند قوله تعالى : { وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم } في سورة النحل ( 24 ) . وفعل { انظر } معلق عن العمل بالاستفهام .
والإلقاء : الرمي إلى الأرض . وتقدم في قوله تعالى : { وألقُوه في غيابات الجب } في سورة يوسف ( 10 ) وهو هنا مستعمل إمّا في حقيقته إن كان شأن الهدهد أن يصل إلى المكان فيرميَ الكتاب من منقاره ، وإما في مجازه إن كان يدخل المكان المرسل إليه فيتناول أصحابه الرسالة من رجله التي تربط فيها الرسالة فيكون الإلقاء مثل قوله : { فألْقَوا إليهم القول إنكم لكاذبون } في سورة النحل ( 86 ) .
والمراد بالرَّجع : رَجع الجواب عن الكتاب ، أي من قبول أو رفض . وهذا كقوله الآتي : { فانظري ماذا تأمرين } [ النمل : 33 ] .